أهمّيّة التطوير المهنيّ الذاتيّ للمعلّم وكيفيّة الارتقاء بأدائه
أهمّيّة التطوير المهنيّ الذاتيّ للمعلّم وكيفيّة الارتقاء بأدائه
عادل حمدي | دكتور باحث في علوم التربية- تونس

يعتبر تجويد أداء المعلّمين مطلبًا مجتمعيًّا ملحًّا، باعتبار "أنّ جودة أيّ نظام تربويّ يكون بجودة مدرّسيه" (تقرير منظّمة اليونسكو، 2014). ومن متطلّبات الارتقاء بالأداء أن يشتغل المعلّم على ذاته (Working on oneself)، وذلك بأن يفكّر في مواقفه (Attitudes) ، وفي أفكاره المسبقة المُتعلِّقة بالتعليم، وأن يعمل على تعديلها في ما يتعلّق بالعديد من الأبعاد لتطوير أدائه.  

نعرض في هذا المقال أبعاد التطوير المهنيّ الذّاتيّ، بالاستناد إلى مجموعة من الأبحاث والأدبيّات، فنبدأ الحديث عن التطوير المهنيّ الذاتيّ وفق ما يتناسب مع خصوصيّة مهنة التعليم، ثمّ نتناوله ضمن مجال تحسين المناخ العلائقيّ داخل الفصل الدراسيّ، لنتطرّق في النهاية إلى علاقته بتيسير تعلّم الطلّبة. ونختم بعرض بعض المواقف الأخرى التي من شأنها تعزيز أداء المعلّم.

 

التطوير المهنيّ الذاتيّ للتأقلم مع خصوصيّة التعليم

 

هناك خصوصيّات عديدة لمهنة التعليم، وهناك أبعاد يجدر التفكير فيها عند ممارسة المهنة، من أهمّها:

 

تقبّل التشعّب في الوضعيّات التربويّة والتعامل مع الواقع

إنّ الواقع الإنسانيّ مُتشعِّب بالضرورة، وينطبق هذا التَشعُّب على الفعل التربويّ. ومن هذا المنطلق، يجدر بالمعلّم ألّا ينزعج ولا يُحبَط أمام وجود عدد من الظواهر (تفاوت مستويات الطلبة، وجود سلوكيّات جانحة أو مناوئة للمؤسّسة المدرسيّة، تدنّي دافعيّة قسم من الطلبة، وجود عناصر مُشوِّشة وأخرى مُعطِّلة للدرس، ظهور أنماط جديدة من اللباس والحلاقة...). هذه الظواهر ناتجة عن التطوّرات المجتمعيّة وتعميم التعليم ودمقرطته في كلّ المراحل، فضلًا عن استقطاب المدرسة لمختلف الشرائح الثقافيّة الاجتماعيّة، بالإضافة إلى التغيّر الحاصل في مكانة الطالب وعلاقته بالمعلّم على المستويين القانونيّ والتربويّ.  

المطلوب من المعلّم الاستعداد للتعامل مع هذا الواقع الجديد المُتغيِّر، والتفاعل مع الظواهر المختلفة والسعي لإصلاحها، بدل أن ينتظر أن يتغيّر المجتمع ويصير كلّ الطلبة في مستوى المعايير الدراسيّة المثاليّة. ينبّه (Baillat, 2002) إلى أنّ رفض المعلّم التعامل مع الواقع كما هو، قد يجعله يعيش وضعيّة إخفاق مهنيّ وشعور بعدم الرضى عن الممارسة. 

وفي هذا الإطار، أظهر بحث (Baillauques, 2006) في إطار العمل على التأقلم مع التطوّرات المجتمعيّة، أنّ المعلّم، ولا سيّما في بدايات ممارسة عمله، يلجأ إلى الاحتماء بنموذج المعلّم الذي عايشه عندما كان طالبًا، من دون مراعاة الفارق الزمنيّ والتطوّرات الاجتماعيّة الحاصلة، وهذا ما يُعدّ من الأسباب الرئيسة للتوتّرات التي قد تحصل له أثناء التعليم. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أهمّيّة تطوير الذات والتفكير في القيم والقناعات المتوارثة والمُتّصلة بالممارسة والمعرفة وأدوار المعلّم وعلاقته بالطالب... كي يَتمكّن المعلّم من مسايرة التطوّرات المجتمعيّة.

 

العمل على تقريب المادّة الدراسيّة من كلّ الطلّاب

بيّنت بعض البحوث  (Baillauques, 2006) أنّ الكثير من المعلّمين لم يختاروا في توجّههم الجامعيّ مهنة التعليم، وإنّما اختاروا التخصّص في العلم الذي يعلّمونه (لغة، رياضيّات...). أي أنّ لهم ميلًا تجاه المادّة الدراسيّة، وليس بالضرورة إلى ممارسة مهنة التعليم. ومن تبعات ذلك أنّ بعضهم يبالغ نسبيًّا في تثمين موادّه، ويعتبر أنّ قسمًا من الطلبة ليسوا في المستوى المطلوب لتحقيق التعلّم، أو في المستوى المطلوب لدراسة مادّته. من أجل ذلك، لا يتعامل هؤلاء المعلّمون مع الطلبة كما هم في الواقع (أي باعتبار اختلاف ملامحهم ومستوياتهم)، بل ينتظرون منهم أن يكونوا مناسبين للنموذج الدراسيّ المثاليّ الكامن في أذهانهم.

لا بدّ إذًا، من أن يتأقلم المعلّم مع طبيعة رسالته؛ أي أن يعمل على تقريب المادّة من كلّ الطلّاب، لا أن يجعلها مستعصية على غير المتميّزين منهم. نذكر في هذا الصّدد ما بيّنته بعض الدراسات، مثل دراسة (Chaduc et al, 1999) ، من أنّ الرغبة في التعلّم ليست أصيلة لدى الطلبة، وبالتالي يكون على المعلّم العمل على استثارتها.

 

التطوير المهنيّ الذاتيّ لتحسين المناخ العلائقيّ داخل الفصل

 

دور المعلّم في تحسين المناخ العلائقيّ

أظهر بحث ميدانيّ (Mahjoub, 2011) أنّ نسبة كبيرة من المعلّمين يُرجِعون مجمل الصعوبات العلائقيّة في الفصل إلى سببين رئيسين: سلوكيّات الطلبة، وعوامل مؤسّسيّة (ضعف الإجراءات التأديبيّة وعدم مسايرتها للواقع). تطرح هذه النتيجة إشكاليّة مفادها: إذا كان المعلّمون يرون أنّ أسباب الصعوبات العلائقيّة التي تعترضهم من الطلبة خارجة عن إرادتهم (مصدرها الطلبة والمؤسّسة)، فهُم لا يعتقدون أنّ لهم جانبًا من المسؤوليّة فيها. يعني ذلك أنّهم لا يشعرون بضرورة التفكير في تطوير أدائهم من أجل علاقة تربويّة أفضل.

يرى (Richoz,2009)، في هذا السياق، أنّه من غير المجدي، في حالات الصعوبات العلائقيّة، أن يعزو المعلّم كلّ الأسباب إلى الطلبة، ومن الضروريّ أن يعمل على ذاته، ويُفكِّر في أدائه قبل كلّ شيء باعتماد موقف تأمّليّ (Reflexive attitude). يرى الباحث كذلك أنّ عزو كلّ الصعوبات إلى عوامل خارجيّة (الطلبة والمؤسّسة...)، قد يؤدّي بالمعلّم إلى حالة "الفخّ"، كما عبّر عنها. وتتمثّل هذه الحالة عند المعلّم بإيعازه الصعوبات إلى عوامل خارجيّة، ممّا يكسبه شعورًا بالعجز عن مواجهتها.

وفي الإطار ذاته، إنّ عزو المعلّمين الصعوبات إلى عوامل خارجيّة، لعجزهم عن التأقلم مع المعطيات والمشكلات الجديدة للممارسة الميدانيّة الناتجة عن التطوّر الاجتماعيّ، يؤدّي إلى تقوقعهم داخل قناعاتهم المتوارثة وتشبّثهم بالممارسات القديمة، وإلى حذرهم من التجديد وتطوير الممارسات. والأفضل بالنسبة إلى المعلّم، أن يُفكِّر في أدائه لتحسين المناخ العلائقيّ. 

 

التعوّد على التحكّم بالانفعالات

يجدر بالمعلّم أن يتعامل مع الوضعيّات المُشكَلة، باعتبارها وضعيّات تربويّة، وأن يتوخّى في ذلك العقلانيّة والاتّزان، من أجل مناخ علائقيّ سليم في الفصل. يتطلّب ذلك التعوّد التدريجيّ على السيطرة على الأبعاد الانفعاليّة للمهنة (, 2001 Blin &Gallais). يمكن أن يتعلّم المعلّم التحكّم في ذاته ، والسيطرة على انفعالاته أثناء الوضعيّات المُشكَلة مع الطلبة، من خلال سيرورة تطوير الذات. من المهمّ أن يستبق المعلّم الوضعيّات الطارئة، ويستعدّ للتعامل معها في حالة حدوثها، كما أنّ التفكير البَعدي في الوضعيّات المُعاشة داخل الفصل، ومحاولة اكتشاف السلوكيّات التي أدّت إلى تعقيدها، يحسّن من أداء المعلّم.

من الأسئلة المهمّة التي يمكن أن تساعد المعلّم على تطوير أدائه إذا حدثت إشكاليّات مع الطلبة: 

- لماذا تَطوّر الموقف إلى الانفعال المتبادل مع الطالب؟ 

- ما السلوكيّات التي فعلتُها وأسهمتْ في تطوّر الموقف إلى الانفعال المتبادل؟  

- كيف عليّ أن أتصرّف في المستقبل؟ 

 

الانتباه إلى المشاعر اللاواعية تجاه الطلبة

المشاعر طبيعيّة في البشر، فهناك من نشعر بالراحة معهم وبميل تلقائيّ نحوهم، وهناك من نشعر بلامبالاتنا بهم أو النفور منهم. وتنطبق هذه المشاعر على علاقة المعلّمين بطلّابهم. 

توصّل بحث (Castinaud, 1994) إلى وجود نزعة لدى فئة كبيرة من المعلّمين، تتمثّل في الميل إلى التعامل مع الطلبة الذين يتعاطفون معهم  أكثر من غيرهم. ومع إقرارنا بأنّ اختلاف المشاعر تجاه الطلبة طبيعيّ، إلّا أنّه من المهمّ وعي هذه المشاعر والتحكم بها، كي نحدّ من أثرها في عمليّات التعليم والتقييم، وهذا أمر يدخل في أخلاقيّات المهنة. 

 

التطوير المهنيّ الذاتيّ من أجل تيسير تعلّم الطلبة

 

الاقتناع بقدرة الطالب على التعلّم

لكي ييسّر المعلّم تعلّم طلّابه لا بدّ من أن تكون توقّعاته منهم، بما فيهم ذوي الصعوبات، إيجابيّة. لن نجعل الطلّاب يتعلّمون إلاّ إذا كنّا مقتنعين بقدرتهم على ذلك (De Vicci, 1992)، لأنّ هذه التوقّعات الإيجابيّة تُترجَم إجرائيًّا بسلوكيّات المعلّم التي تُحفِّز الطالب وتجعله يسعى إلى الارتقاء بأدائه، وفق ما يتوافق مع توقّعات المعلّم. يتناغم ذلك مع المقاربات التربويّة الحديثة التي تنطلق من مبدأ تربويّ إنسانيّ، يتمثّل في قابليّة الجميع للتعلّم.

 

الانسجام مع الطرق البيداغوجيّة الحديثة وعدم التشبّث بالتجربة الشخصيّة في التعلّم

توصّل (De Vicci, 1992) إلى أنّ نسبة كبيرة من المعلّمين يعيدون إنتاج الطرق البيداغوجيّة التي تعلّموا بها، غير آخذين في الحسبان مرور السنوات والتطوّرات المجتمعيّة الحاصلة. يفسّر الباحث ذلك بأنّ المعلّمين، وأغلبهم كانوا من الطلّاب النجباء، يرون أنّ الطرق التي تعلّموا بها هي الأنجع، بدليل أنّهم نجحوا بفضلها. بناء على ذلك، يواصل المعلّمون اعتماد هذه الطرق، ولا يأخذون بعين الاعتبار اختلاف ملامح الطلبة الذين يعلّمونهم. وعليه، فمن المهمّ عدم التقوقع على التجربة الذاتيّة، واعتماد الطرق التربويّة الحديثة، والتأقلم مع اختلاف ملامح الطلبة. 

 

الاهتمام بالصعوبات التي يواجهها الطلبة في التعلّم

من المهمّ إعطاء الطلبة الفرصة للتعبير عن الصعوبات التي تعترضهم في تعلّمهم، وهذا يمكّن المعلّم من تلقّي تغذية راجعة ثمينة تساعده على تعديل أدائه، وتنويع طرقه البيداغوجية.

 

اتجاهات أخرى لتحسين الأداء

 

بالإضافة إلى ما ذُكر سابقًا، ندرج أبعادًا أخرى تتعلّق بالتطوير المهنيّ الذاتيّ، من شأنها أن ترفع من أداء المعلّم. نذكر من ذلك:

 

الاستعداد الدّائم للتعلّم

ربّما كان الاستعداد للتعلّم طيلة فترة ممارسة مهنة التعليم، من أبرز المواقف التي تساعد المعلّم على الارتقاء بأدائه. ونشير في هذا الصدد إلى أنّ التعلّم لا يتمّ من خلال التكوين المستمرّ وحسب، بل هو يتمّ أيضًا من خلال التفكير في الممارسة والانفتاح على تجارب الآخرين. ومن الممارسات المساعدة على ذلك: 

* -التفكير في التجارب المُعاشة داخل الفصل، والتعلّم من خلالها.

* -إشراك الطلبة في التفكير في معنى التعلّم، والاستماع إلى صعوباتهم بشأنها.

* -التشاور مع الزملاء حول التجارب المُعاشة.

 

الانفتاح على تجارب الزملاء

بصفة عامّة، تغلب الفّرديّة على عمل المعلّمين، وهذه الخاصيّة من نقاط الضعف الأساسيّة بالنسبة إلى أدائهم، حيث إنّ كلّ معلّم يعيد تقريبًا الدروس والخطوات والطرق ذاتها في التعليم داخل جدران فصله، في حين يتطلّب تحسين الأداء الانفتاحَ على تجارب الآخرين. وللانفتاح على تجارب الزملاء والتفاعل معهم إيجابيّات عديدة، نذكر منها: 

*- الانغلاقُ على التجربة الذاتيّة يدفع بالمعلّمَ إلى الخلط، عن غير وعي، بين واقع تعليمه أو تجربته الذاتيّة، وواقع التعليم بصفة عامّة. بينما الانفتاح على تجارب الزملاء يساعد المعلّم في تطوير ممارسته وتجربته، ويشحذ استعداده للتعلّم.  

*- يُمكِّن الانفتاحُ على تجارب الزملاء المعلّمَ من اختصار مسافات تعلّم المهنة، لأنّ الاقتصار على التجربة الذاتيّة يقلّص من تحصيل الفائدة. فانتظار المعلّم كي يكتشف الاستراتيجيّات التعليميّة الناجعة بنفسه سينعكس سلبًا على الطالب الذي يتحمّل تبعات ذلك، ولو لفترة محدّدة.

من الأمثلة الإجرائيّة على ذلك، حضور دروس الزملاء في المؤسّسة التربويّة ذاتها، أو في مؤسّسات مجاورة، وكذلك دعوتهم إلى الحضور. بالإضافة إلى متابعة مختلف حلقات التكوين المستمرّ. 

 

***

تتّفق الأدبيّات والبحوث المذكورة في المقال على أنّ المعلّم قادر على التّطوّر المهنيّ الذّاتيّ، وذلك من خلال توخّي ممارسة تأمّليّة تتّصل بأبعاد ثلاثة: التّأقلم مع خصوصيّة مهنة التّعليم؛ تحسين المناخ العلائقي داخل الفصل الدّراسي؛ تيسير تعلّم الطّلبة. بالإضافة إلى الاستعداد الدّائم للتّعلّم والانفتاح على تجارب الزّملاء لتجويد ممارسته وإغنائها. وبهذا يتّضح أنّ تطوير أداء المعلّمين لا يقتصر على توفير الإمكانيّات وتطوير البرامج، بل يتجاوز ذلك إلى انخراطهم في سيرورة تحسين الأداء والرّفع من مردوديّة المنظومة التّربويّة عموما.

 

المراجع

- تقرير منظّمة اليونسكو. (2014). التّعليم والتعلّم، تحقيق الجودة للجميع.  

- Baillat, G. (2002). Professeurs des écoles au XXI siècle. Bordas. 

- Baillauqués, S. (2006). Le travail des représentations dans la formation des enseignants. Dans L. Paquay, M. Altet, E. Charlier, & PH. Perrenoud. Former des enseignants professionnels. Quelles stratégies ? Quelles compétences ? De Boeck. 

- Blin, J & Gallais, D. (2001). Classes difficiles. Delagrave Edition.

- Castinaud, F. (1994). Dans la classe, élus et exclus. Cahiers pédagogiques. 54-55. 

- Chaduc, M.,  Larrade, PH. & De Mecquenem, I. (1999). Les grandes notions de pédagogie. Bordas 

- De Vecchi, G. (1992). Aider les élèves à apprendre. Hachette.

- Richoz, J. (2009). Gestion de classes et d’élèves difficiles. FAVRE.

- Mahjoub. A. (2011). La violence à l'école. Académie tunisienne des Sciences, des Lettres et des Arts Beit al-Hikma.