هل التعليم العربيّ ضحيّة السياسة؟
هل التعليم العربيّ ضحيّة السياسة؟
يوسف حرّاش | مساعد المدير العامّ للشؤون الإداريّة في الأكاديميّة العربيّة الدوليّة -الجزائر/قطر

مقدّمة

يتأثّر قطاع التعليم في كلّ دول العالم بعوامل سياقيّة عدّة، كالسياسة والاقتصاد والتاريخ، وكذلك الظروف الاجتماعيّة، وغيرها من العوامل المرتبطة بالمجتمع والدولة، وقد يكون هذا التأثير إيجابيًّا داعمًا لتطوّر التعليم، وسببًا في ازدهاره، أو سلبيًّا ذا تبعات وخيمة على مستقبل الأمم.

بما أنّ التعليم هو مصدر الكفاءات المتنوّعة التي تحتاجها الأمم لتحريك عجلة الازدهار والنموّ، فإنّه يمكننا القول: إنّ صلاح نظام التعليم يعني صلاح حال المجتمع ومستقبله والعكس بالعكس، ولذلك يتوجّب إعطاء الكثير من الاهتمام للعوامل المذكورة سابقًا، وعلى رأسها العاملان السياسيّ والاقتصاديّ، وإيجاد الآليّات المناسبة لضمان تأثيرهما إيجابًا على نظام التعليم.

في عالمنا العربيّ المعاصر، لطالما كانت السياسة عاملا جوهريًّا في تحديد ملامح التربية والتعليم وتنشئة الأجيال المتعاقبة، خاصّةً بعد استقلال الكثير من الدول العربيّة التي كانت ترزح تحت وطأة الاستعمار الأجنبيّ.

يتطرّق المقال إلى نقطتين: الأولى هي تأثير السياسة على التعليم في العالم العربيّ المعاصر، الذي يراه كثيرون تأثيرًا مجحفًا في حقّ العمليّة التعليميّة وأهدافها، والنقطة الثانية تتناول بعض الاقتراحات التي قد تمكّن إدارة الدولة أن تكون عاملًا مساعدًا في نجاح نظام التعليم، وتطويره.

 

التأثيرات السلبيّة للسياسة في التعليم في الدول العربيّة

إنّ الأصل في العلاقة القائمة بين التعليم والسياسة هو أن تكون السياسة أساسًا تنظيميًّا للتعليم، إذ تعمل السلطة السياسيّة على رعاية العمليّة التعليميّة، وتنظيمها بهدف تنشئة أجيال قادرة على تحقيق الازدهار في جميع مجالات الحياة، لكنّ الناظر في واقع الحال في الوطن العربيّ لا يجد ما يعكس تلك المثل العليا التي تُبنى المجتمعات على أسسها، وفيما يأتي بعض الأمثلة من الواقع العربيّ على تأثير السياسة في التعليم بالصورة التي لا يفترض أن تسير عليها الأمور، وهي أمثلة يمتدّ أوّلها عميقًا في  جذور التاريخ العربيّ، في حين ترتبط البقيّة بالنظام السياسيّ الحديث:

أولًا: الاستعمار واستخدام التعليم وسيلةً للسيطرة على الشعوب العربيّة

بالعودة قليلًا إلى الوراء في صفحات تاريخ الدول العربيّة، نجد أنّ المستعمر الأجنبيّ أرسى قواعد التعليم الحديث، وعمل على تعميمه في الأقطار العربيّة التي كانت تحت سيطرته، لكنّ هذا لم يكن رغبةً منه في تطوير المجتمعات المحليّة، ولا إسهامًا منه في نشر الوعي وبعث النهضة فيها، بل كان القصد من وراء ذلك تصدير الأفكار، والأيديولوجيّات، وتسهيل المخطّطات التوسعيّة. ويشرح (رفيقي، 2019) كيف أنّ المستعمر سعى إلى تحقيق أهداف سياسيّة، واقتصاديّة ببسط سيطرته السياسيّة على نظم التعليم التي أنشأها في بلداننا العربيّة لهذا الغرض.

ثانيًا: التعليم بوصفه أداة سيطرة على الشعوب العربيّة من طرف السلطات الحاكمة

نستحضر هنا سيطرة أنظمة الحكم على الشعوب العربيّة بفرض موادّ تعليميّة معيّنة، أو منع أخرى في المدارس أو الجامعات، وهذا ما ذكره أيضًا (رفيقي، 2019) الذي بيّن أنّ العديد من الأنظمة العربيّة عمدت إلى تعديل المناهج الدراسيّة للتخلّص من الموادّ المحفزّة على التفكير الناقد، والأفكار التحرريّة، مبقيةً على تلك التي تعتمد الحفظ والاستظهار، وهذا بهدف القضاء على الحسّ الناقد، وإسكات الأصوات المطالبة بالتغيير والحرّيّة، بالإضافة إلى فرض أيديولوجيات تخدم مصالح مجموعات بعينها، وتستثني أخرى.

ثالثًا: تزييف مناهج مادّة التاريخ لتحقيق أهداف سياسيّة

يعدّ تغيير وقائع التاريخ وتزييفه في المناهج المدرسيّة أحد أبرز أوجه تسييس التعليم، وقد وُظّف تزوير الحقائق التاريخيّة في الكتب المدرسيّة بصورة "ممنهجة" خلال العقود الأخيرة، من طرف السلطات الحاكمة التي تسيّر من يكتب كتب التاريخ في اتّجاهات معيّنة لتحقيق غايات مختلفة (حسنين ووهدان، 2016).

رابعًا: الحروب والنزاعات المسلّحة وتأثيرها على التعليم

يعدّ الضرر البالغ الذي يلحق بالتعليم جرّاء الحروب والنزاعات المسلّحة من أشدّ الآثار المدمّرة للسياسة وأكثرها وضوحًا، وللأسف فإنّ المنطقة العربيّة لم تكد تخلو من نزاع مسلّح خلال القرن العشرين، بل وأنّ ذلك يستمرّ إلى الآن، وقد يبدو لمن ينعم النظر في الوضع الراهن أنّه لا يلوح في الأفق ما يدلّ على أنّ الوضع سيؤول إلى التغيير.

لقد كان المعلّم والطالب الضحيّة الأولى في النزاعات العربيّة دائمًا، إذ شهدت أغلب الدول العربيّة أحداثًا داميةً أدّت إلى مقتل الكثير من المعلّمين والمتعلّمين، وتدمير عدد لا يُحصى من المؤسّسات التعليميّة، ممّا أدّى إلى تأخّر مستوى التعليم، وانهياره في بعض الأحيان.

خامسًا: ميزانيّات التعليم

بالنظر إلى الأوضاع الاقتصاديّة والسياسيّة للكثير من الدول العربيّة، فإنّه لا عجب أنّ وزارات التعليم تعاني دائمًا من نقص في الميزانيّات المخصّصة لها، وقد ذكر جلال (2009)، أنّ إحصائيّات البنك الدوليّ تُبيّن أنّ الدول العربيّة خصّصت في المجمل 5% من ناتجها المحلّيّ، و20% من الميزانيّات الحكوميّة لصالح قطاع التعليم خلال العقود الماضية، وهذا أسهم في وصول التعليم إلى عدد كبير من الأفراد، لكنّه لم يساعد على توفير تعليم يرقى إلى المستويات المطلوبة رغم محاولات الإصلاح الكثيرة.

 

كيف يمكن للسياسة أن تكون داعمةً للتعليم؟

استنادًا إلى ما سبق ذكره، نورد فيما يأتي بعض الإصلاحات السياسيّة المقترحة للتطوير في مجال التعليم:

  1. - زيادة انخراط المرأة في التعليم وتفعيل دورها فيه.

عرفت العقود الأخيرة من القرن العشرين دخول المرأة في مجال التعليم بصورة متزايدة في العالم العربيّ، وأصبحت المرأة متعلّمة ومعلّمة وذات منصب سياسيّ أيضًا، إلّا أنّ إسهاماتها تبقى محدودةً نظرًا لعدم تفعيل دورها القياديّ في مجالَيْ التعليم والسياسة، ويمكن أن يكون للإصلاحات السياسيّة الأثر المباشر في تمكين المرأة في هذا المجال المهمّ.

  1. - تخصيص ميزانيّات أكثر لقطاع التعليم، والتركيز على تطوير أنظمته، وبنيته التحتيّة.

يؤكّد كثير من القيادات السياسيّة في الدول العربيّة أنّهم يسعون إلى النهوض بقطاع التعليم بمستوياته جميعها، آملين أن تتصدّر دولهم المراتب الأولى في جودة التعليم المقدّم في القطاعين العامّ والخاصّ، لكن يجب أن تنعكس هذه الإرادة في توجيه المزيد من الاستثمارات بصولة فعّالة نحو هذا القطاع المهمّ، إضافةً إلى زيادة حصص وزارات التعليم في الميزانيّات الحكوميّة السنويّة التي كانت، وما زالت، تشهد هيمنة وزارات الدفاع نتيجةً لحالة عدم الاستقرار الأمنيّ التي تشهدها المنطقة.

من الضروريّ أن تُنشئ الحكومات العربيّة نظرتها الاستراتيجيّة الخاصّة لتطوير قطاع التعليم بالعمل على إنجاز مشاريع، وبرامج طويلة المدى للنهوض بهذا القطاع، على أن تكون تلك النظرة مبنيّة على واقع الدولة وإمكانيّاتها، ولا يجب أن تكون نسخةً من تجارب سابقة.

  1. - إنشاء المنظّمات، وصياغة القوانين لحماية التعليم.

هذه الخطوة تُعدّ من أهم المساعي الهادفة إلى حماية التعليم، وضمان وصوله إلى أكبر عدد من الأفراد بتأكيدها على مبدأ أنّ الحصول على التعليم حقّ للجميع، وفي هذا الإطار، يجب أن تعمل المنظّمات والمؤسّسات الحكومية وغير الحكوميّة في العالم العربيّ جنبًا إلى جنب من أجل سنّ قوانين تحمي التعليم، وتكرّس أحقّيّة الأفراد في الحصول عليه.

  1. - عقد اتفاقيّات، وتسهيل التبادل العلميّ مع العالم.

يجب أن تعقد الدول العربيّة المزيد من الاتفاقيّات الخاصّة بالتبادل العلميّ، والثقافيّ مع الدول الرائدة في مجالات العلوم والثقافة، ممّا سيسمح باستيراد الكثير من الخبرات القيّمة، والمعارف الجديدة من خلال البعثات الطلّابيّة والمنح الدراسيّة، بالإضافة إلى وجوب افتتاح مؤسّسات تعليميّة عالميّة في الدول العربيّة لتقديم مستويات تعليم عالية، وفتح المجال أمام الطلّاب العرب للحصول على فرص نيل شهادات وخبرات تضاهي تلك التي توفّرها الدول المتقدّمة.

  1. - تعزيز مكانة المعلّم، والمتعلّم بالتركيز على مفهوم القيادة.

في هذا السياق يجب أن تركّز حكومات الدول العربيّة على تفعيل الجانب القياديّ في المؤسّسات التعليميّة، وذلك نظرًا لأهمّيّة هذا العامل في تعزيز مكانة المعلّم والمتعلّم، إضافةً إلى إعداد متعلّمين مستعدّين لخوض غمار الحياة بنجاح، إلى جانب إكسابهم المعارف والمهارات اللازمة.

 

خاتمة

ما دام التاريخ، والواقع العربيّ الحاليّ يبيّنان أنّ السياسة العربيّة لم تقف دائمًا إلى جانب التعليم، فإنّه من الواجب اليوم أخذ العبرة، واستقاء الدروس من واقع التعليم في العالم العربيّ، وأقلّ ما يمكننا قوله عن هذا الواقع: إنّه صعب مليء بالتحدّيات.

من أجل ذلك، فإنّ توفير الأمن والاستقرار يعدّ أهمّ الأولويّات التي يجب العمل عليها من طرف الحكومات، كما يجب أن يحرّر التعليم من سطوة المصالح السياسيّة التي تجعل منه أداةً لتحقيق الأجندات السياسيّة المختلفة، لأنّ تحرير التعليم وإزاحة العقبات أمامه يؤدّيان بصورةٍ مباشرةٍ إلى ازدهار شامل في القطاعات جميعها. بالإضافة إلى ذلك، يجب العمل على تخصيص حصص أكثر من ميزانيّات الحكومات لصالح التعليم، وإعادة توجيه الاستثمارات نحو هذا القطاع.

إن تبنّي إصلاحات جدّيّة فعّالة أمر من شأنه أن يحمل في طيّاته بوارق أمل للنظم التعليميّة العربيّة التي أثقلتها الأزمات، وحدّت العقبات، والعراقيل من دورها في الإسهام في نهضة المجتمعات وتطوّرها.

 

المراجع

  • جلال، أحمد. (2009). طريق لم يسلك بعد: الإصلاح التعليميّ في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. (ترجمة: مخيمر، عبد الجواد. وأمين، محمد). دار الكتاب الجامعيّ.
  • حسنين، أسماء ووهدان، منى. (2016). تزييف التاريخ: لعنة في الكتب الدراسيّة عمرها 100 عام. بوّابة الفجر الإلكترونيّة. [إنترنت].
  • رفيقي، محمد. (2019). التعليم والسياسة والزواج النكد. TRT عربي. [إنترنت].