هل أنت معلّم متفهّم لاحتياجات طلاّبك؟
هل أنت معلّم متفهّم لاحتياجات طلاّبك؟
لمى دغمان | معلّمة للمرحلة الابتدائيّة و منشّطة ثقافيّة-سوريا

مقدّمة

نجد بعض المعلّمين، في كثير من الممارسات التربويّة، يطلقون أحكامًا مسبقة على طلّابهم دون إدراك الضغوطات النفسيّة والاجتماعيّة التي يواجهونها في حياتهم اليوميّة، ما ينعكس سلبًا على علاقة المعلّم بطلّابه، ويعرقل العمليّة التربويّة برمّتها. وهنا نسأل: ماذا لو انعكست الأدوار داخل غرفة الصفّ؟ هل سبق لأحدكم أن سمع من أحد طلّابه تعبيرًا مهينًا، من مثل: "أنت معلّم غبيّ"، أو "أنت أنانيّ"، أو "أنت لامبالٍ"، أو غيرها من الكلمات التي تحمل في طيّاتها أحكامًا مسبقة عنك من دون النظر في حالتك النفسيّة أو في حاجاتك الراهنة أو في واقعك الحياتيّ؟

لا شكّ أنّ المعلّمين، بشكل عامّ، لا يتلقّون مثل هذه التوبيخات، غير أنّهم قد يوجّهونها إلى طلّابهم. ولكن، ماذا لو توصّلنا نحن- المعلّمين- إلى علاقة جيّدة مع طلّابنا، نستند بها إلى التواصل الفعّال الخالي من التأنيب والتعنيف النفسيّ أو الجسديّ، ونبتعد بها عن إطلاق الأحكام المسبقة، فنبني تواصلًا مبنيًّا على فهم مكنونات الطرف الآخر وحاجاته، ذاك التواصل الذي أطلق عليه روزنبرج (2008) "التواصل اللاعنيف" أو "التواصل التعاطفيّ".

 انطلاقًا من أهمّيّة تأهيل المعلّمين من الناحية النفسيّة والأكاديميّة، وتوجيههم نحو التعامل التربويّ المناسب مع الأطفال القادمين من بيئات مختلفة، كان الهدف المباشر من المقال مشاركة تجربتي الشخصيّة في مجال التواصل التعاطفيّ مع زملائي المعلّمين والمرشدين النفسيّين. لذا، أتطرّق في هذا المقال إلى توضيح مفهوم التواصل التعاطفيّ، ثمّ أعرض تجربة أنموذجيّة، أستخلص من خلالها بعض المقوّمات التي يمتاز بها هذا النوع من التواصل.

 

مفهوم التواصل التعاطفيّ

يعرّف روزنبرج (2008) التواصل التعاطفيّ بأنّه: "ليس طريقة لإنهاء خلاف، وإنّما طريقة مصمّمة للتواصل غير العنيف، لزيادة التعاطف وتحسين نوعيّة حياة أولئك الذين يستخدمون هذه الطريقة والأشخاص من حولهم" (ص 6). أثارت اهتمامي فرضيّتان من الفرضيّات التي يستند إليها المفهوم، إذ تلامسان عمق مجالنا التربويّ وطريقة تعاملنا مع طلّابنا.

تتمثّل الفرضيّة الأولى في أنّ البشر لا يلجؤون إلى العنف أو السوك السلبيّ إلّا عندما يعجزون عن الوصول إلى استراتيجيّات أكثر فعاليّة لتلبية احتياجاتهم (روزنبرج، 2008). إذا ما أسقطنا هذا الافتراض على تعاملنا مع طلّابنا، نجد أطفالنا في المدارس بحاجة إلى معلّم يوجّههم لتحديد احتياجاتهم والتعبير عنها بصورة إيجابيّة، وتلبيتها بطريقة مرنة دون اللجوء إلى العنف. فسلوك الطفل في المدرسة سلوكًا عنيفًا تعبيرٌ عن احتياجات داخليّة لا يستطيع التعبير عنها، إمّا لخوفه أو لعجزه أو لعدم قدرته على إيجاد شخص يساعده في ذلك.

أمّا الفرضيّة الثانية، وهي الفرضيّة الأكثر أهميّة، فتتمثّل في اعتبار أثر التصنيفات السلبيّة مثل "كسول" و"غبيّ" أكثر وضوحًا من أثر التصنيفات الإيجابيّة أو المحايدة، إذ إنّ الأخيرة تحدّ من إدراكنا لمجمل كيان الآخر (روزنبرج، 2008). وبالتالي، تكمن مهمّتنا نحن- المعلّمين- في تعاطفنا مع حاجات طلّابنا ومساعدتهم في التعبير عنها، بدل إصدار الأحكام المسبقة عليهم أو توبيخهم على تقصيرهم في أداء المهمّات.

يقدّم دليل اليونيسف "مبادرة تعليم المهارات الحياتيّة والمواطنة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا" (2005) مهارة التواصل على أنّها واحدة من المهارات الاثنتي عشرة الأساسيّة التي ينبغي تعليمها وتعويد الطلّاب عليها، ويعتبرها مهارةً رئيسةً من مهارات الحياة التي يحتاجها الطفل في المدرسة وخارجها. ووفق الدليل نفسه، تسهم مهارة التواصل في تعزيز تقدير الشخص لذاته، وهي ذات صلة بالمجتمع، حيث تعزّز إدارة العلاقات وكسب الصداقات والحفاظ عليها. وتعدّ مهارة التواصل جزءًا أساسيًّا في عملية التعلّم، نظرًا لتنميتها قدرات التحدّث الفعّالة والإصغاء النشطـ، فيقتضي التواصل مشاركة المعنى من خلال تبادل المعلومات والفهم المشترك. في حين نجد أنّ الدليل نفسه يعرّف التعاطف بأنّه القدرة على فهم مشاعر الآخرين ومعايشتها دون إصدار أحكام عليها.

 

تجربة شخصيّة ونشاطات تطبيقيّة

كانت لي مشاركة مؤثّرة في حياتي المهنيّة في سوريّة مع منظّمة الإسعاف الأوليّ الفرنسيّة، وبالتعاون مع وزارة التربية السوريّة، ضمن ورشة تدريبيّة بعنوان "تواصل لا عنيف"، استهدفت معلّمين ومرشدين نفسيّين، بهدف تأهيلهم نفسيًّا ومعنويًّا، وتشجيعهم ليكونوا رحيمين ومتفهّمين وقادرين على التعامل مع الأطفال المعنّفين والأطفال القادمين من مناطق الصراع في سوريّة. عُقِد هذا التدريب في سبيل رفع كفاءة المعلّم الذاتيّة وكفاءته الاجتماعيّة والعاطفيّة، وتأهيله لأوقات الأزمات والصراعات. 

تضع التجربة المعلّم في موقع التلميذ على مقاعد الدراسة، ويُعامَل المعاملة نفسها التي يُعامَل بها التلميذ، ليدرك المعلّم جيّدًا احتياجات طلّابه التي يجاهدون في التعبير عنها، لعدم حيازتهم أساليب التعبير الصحيحة، أو بسبب ضغوطات نفسيّة وصدمات تعرّضوا لها، فجعلتهم عاجزين عن التعبير بصورة صحيحة ومباشرة. ارتكزت معظم النشاطات على وضع المعلّمين تحت ضغوطات نفسيّة ومعنويّة، لمحاكاة البيئة الصفّيّة التي يعيشها الطلّاب. أتطرّق في ما يلي إلى نشاطين من النشاطات المنعقدة في الورشة التدريبيّة، من أجل توضيح الجانب التطبيقيّ للتواصل التعاطفيّ.

 

نشاط التقييم: إطلاق الأحكام السلبيّة المسبقة

طُلِب في هذا النشاط من المعلّمين تأدية دور الطلّاب، فتلقّينا عبارات سلبيّة من المدرّبة، وقد وصلتني عبارة "أنت شخص أنانيّ" مكتوبة على ورقة، صدمتُ بها، إذ كنت طوال الورشة شخصًا متعاونًا وأبدي تواصلًا فعّالًا مع الجميع، غير أنّ العبارة كانت بمثابة حكم مسبق ومفاجئ، أثّر في شعوري، وسبّب لي التوتّر والحزن الشديد، وأفقدني التركيز والتواصل مع الآخرين، وأشغلني بالبحث عن إجابات كثير من الأسئلة: لماذا قالت لي المدرّبة ذلك؟ وما الذي فعلتُه؟ وكيف تسمح لنفسها أن تقول لي ذلك؟ وما الذي عليَّ فعله لتغيير نظرتها السلبيّة؟ وماذا سيقول زملائي عنّي؟ 

صُدِم جميع المتدرّبين بالعبارات المتلقّاة، إذ كانت عبارات سلبيّة، وبعد قراءتنا لها، طلبت المدرّبة أن نكتب ردود أفعالنا. كانت الردود مختلفة، فبعضنا اكتفى بالصمت وبدت عليه مشاعر الحزن والتوتّر، وبضعنا أبدى غضبه ورفض العبارة الموجّهة إليه، فدخل في مشادّات كلاميّة مع المدرّبة، وطلب إليها الاعتذار عمّا أبدته من إساءة في حقّه، في حين أنّ مجموعة من المعلّمين انفعلوا كثيرًا إلى الحدّ الذي وجّهوا فيه أسوأ الأحكام إلى المدرّبة.

 

في نهاية النشاط، فتحت المدرّبة الأوراق الموجّهة إليها، وضحكت متعجّبة ممّا كتبه المتدرّبون، معلّقةً إن كنّا لا نتقبّل نحن- المعلّمين- ما تلقيناه من أحكام سلبيّة، فكيف بالتلاميذ الذين يتلقّون مثل هذه العبارات يوميًّا، ذاكرةً أمامنا بعضًا من العبارات التي يتعرّض إليها الطالب كلّ يوم في مدرسته: "أنت ما بتفهم، ما في منك أمل، مستقبلك شخص فاشل، رفقاتك أشطر منك، أنت جاي من الشارع، أنت واحد غبي، أنت ما قادر تتعلّم"... وغيرها من العبارات المحبِّطة التي تعلق في ذاكرتهم وتجعلهم أشخاصًا انهزاميّين وعاجزين عن التعبير عن شعورهم، فترافقهم المشاعر السلبيّة وتؤثّر في تواصلهم مع أقرانهم ومعلّميهم.

أدّى هذا النشاط بكلّ معلّم إلى مراجعة أخطائه بحقّ طلّابه، وإلى استحضار ما أسعفته ذاكرته من مواقف سلبيّة مرّ بها خلال مسيرته التعليميّة، تمنّى لو عاد به الزمن لتجاوزها. فالتواصل التعاطفيّ مبنيّ على فهم احتياجات الطرف الآخر والتعامل معه بأسلوب مرن، بغية الوصول إلى حلّ يرضي الطرفين. 

بناءً عليه، يمكننا القول إنّه ينبغي على المعلّمين مراعاة مقوّمات التواصل التعاطفيّ، حيث إنّ كلّ تواصل مبنيّ على الملاحظة، ولا بدّ من ملاحظة سلوك المتعلّم وتجنّب تقييمه بإصدار الأحكام المسبقة عليه، ومن معرفة حاجته معرفةً صريحة وواضحة، لنكون قادرين في ما بعد على حثّ التلميذ على الإفصاح عن حاجته بأسلوب لائق (روزنبرج، 2008).

 

نشاط التواصل الرحيم: فهم احتياجات الطرف الآخر

تضمّن النشاط كتابة عبارات إيجابيّة وملاحظات داعمة وصفات جميلة لاحظها كلّ متدرّب في أحد زملائه خلال أيّام التدريب، على أن تُكتَب العبارات في رسالة يأخذها الزميل معه إلى منزله، ليعبّر عن مشاعره تجاهها في اليوم التالي من التدريب. تمثّل هدف النشاط في فهم مدى التأثير الذي تخلّفه العبارات الإيجابيّة في نفوس الطلّاب إذا ما وُجِّهت إليهم في الصفّ، إثر فهم احتياجاتهم وتوجيههم نحو التعبير عنها.

كان النشاط كفيلًا بتحويلنا إلى أطفال على مقاعد الدراسة، لما كان للكلمات الداعمة أن تجعل منّا أبطالًا حالمين. تلقيتُ شخصيًّا ثلاث عبارات إيجابيّة داعمة، تركتْ أثرًا عميقًا في نفسي، كان أكثرها تأثيرًا العبارة الآتية: "طموحك وإصرارك سيجعلان منك شخصًا ناجحًا لا يقف شيء أمام تحقيق أحلامه. لاحظتُ أنّك شخص نشيط ومجتهد، يبحث عن التميّز، وشعرت أنّك تملكين شغفًا وحماسًا يدفعك إلى التحليق عاليًا بأهدافك وطموحك. أطلب منك المثابرة والاجتهاد للوصول إلى ما ترغبين به". شحذت هذه العبارات الداعمة والمشجّعة همّتي، ودفعتني إلى إعادة التفكير في كثير من أساليب التعليم التي أعتمدها عادةً مع طلّابي، وإلى اتباع منهج التواصل التعاطفيّ معهم.

لا بدّ من الإشارة إلى أنّ التجربة التي خضتُها في الورشة التدريبيّة المشار إليها، ارتبطت ارتباطًا مباشرًا بما تشير إليه مقوّمات التقدير الثلاثة في منهاج التواصل التعاطفيّ، والتي تكمن في: الأفعال التي أسهمت في تحقيق سعادتنا، واحتياجاتنا المحدّدة التي تمّت تلبيتها، والمشاعر السارّة الناتجة عن تلبية الاحتياجات (روزنبرج، 2008). 

 

خاتمة

نستنتج ممّا سبق، أنّ على المعلّمين مساعدة المتعلّمين في تحقيق ذواتهم وتقوية ثقتهم بأنفسهم، وتشجيعهم على التعبير عمّا يشعرون به وعمّا يريدونه ويحتاجون إليه داخل غرفة الصفّ وخارجها، فضلًا عن تأهيلهم لما بعد المدرسة ليكونوا أشخاصًا فاعلين وقادرين على التخطيط لمستقبلهم، بالإضافة إلى تحديد ما يريدونه والعمل على تحقيق أهدافهم. ولا يتوقّف التواصل التعاطفيّ على علاقة المعلّمين بطلّابهم فحسب، وإنما يتعدّاه إلى علاقاتهم فيما بينهم، وإلى علاقاتهم بالإدارة التربويّة وبأولياء الأمور وبالمجتمع عامّةً، ليكون منهج حياة يضمن للجميع تواصلًا إيجابيًّا، يمكّن الجميع من تحقيق احتياجاتهم.

 

المراجع

روزنبرج، مارشال بي. (2008). التواصل غير العنيف لغة حياة. مكتبة جرير.

اليونيسف. (2015). دليل مبادرة تعليم المهارات الحياتيّة والمواطنة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. https://www.unicef.org/mena/media/6146/file/LSCE%20Conceptual%20and%20Programmatic%20Framework_AR.pdf%20.pdf