من العودة إلى المدرسة إلى العودة إلى المدرسة
من العودة إلى المدرسة إلى العودة إلى المدرسة
خليل عبد الله عجينة | مدير المدرسة اللبنانية العالمية - لبنان

لن تكون العودة إلى المدرسة هذا العام كما كنّا نعهدها كلّ عام. إنّنا أمام "العودة إلى المدرسة" بالمعنى اللغويّ المعجميّ لهذه العبارة، لكنّها ستختلف مفهومًا وفعلًا وتطبيقًا عن صورتها المنقوشة في أذهاننا منذ أن طُبع فيها مفهوم المدرسة. فالصورة السمعيّة لعبارة "العودة إلى المدرسة" ستكون مغايرة للصورة الذهنيّة المعهودة في أذهان المربّين والمعلّمين والمتعلّمين وأولياء الأمور، وأصحاب المكتبات ودور النشر، وسائقي الحافلات، وكلّ مُستفيد ومُفيد من "العودة إلى المدرسة". 

نحن أمام تحوّل دلاليّ لمعنى العبارة يضعنا أمام تحدّيات "العودة"، ومسؤوليّات "العودة"، وفعل "العودة" نفسِه. هذا التحوّل يحتاج إلى وعي تربويّ، ومسؤوليّة اجتماعيّة، وتخطيط جديد على بصيرة وعلم وحكمة ومرونة وحسن تنفيذ وتقييم.

هذا المقال تأمّلاتٌ واقعيّة، وتساؤلاتٌ استشرافيّة أشاركُها مع كلّ معلّم وتربويّ ليكون الانتقال "من العودة إلى المدرسة" إلى "العودة إلى المدرسة" سليمًا حميدًا موجّهًا توجيهًا تربويًّا علميًّا.

 

طلّابنا ينتظرون العودة إلى المدرسة

إنّ غيابَ الطالبِ القسريَّ عن المدرسة لما يزيد على سبعة أشهر، وحجرَه بعيدًا عن الحياة الطبيعيّة بكلّ مقوّماتها الاجتماعيّة والنفسيّة والماديّة، وانغلاقَه في عالم افتراضيّ صَنعَــــهُ مُكرَهًا محبًّا، واعتكافَه بين يَدَي الإعلام وأخباره، وصوره وألفاظه، وفي بيوتٍ أرعبها المرضُ وأنباؤه، وأحبطها الفقرُ وتبعاتُه، وشتَّتَ شملَها الإحباطُ واليأسُ، وأطفأ أحلامَ مستقبلها الحاضرُ، إنّ كلّ ذلك وغيره قد أثّر تأثيرًا بالغًا في شخصيّة الطالب وفكره، ونفسه وسلوكه أكسبَهُ أشياءً وسلبَهُ أشياءً. إنّ هذا الغيابَ الطويلَ جعل طلّابنا ينتظرون العودة إلى المدرسة، فمنهم من صرّح بذلك تصريحًا، ومنهم من أسرّها في نفسه ولم يُبدِها! لكن، لماذا ينتظرُ طلّابنا العودةَ إلى المدرسة؟

 

إنّهم ينتظرونها من أجل أن يجدوا أرواحَهم الحقيقيّةَ التي قُبضَت في الحَجر،

من أجل أن يُمسكوا يدًا اشتاقوا إلى دعمها كي ترفعَهم من "الأسفل" الذي وصلوا إليه،

من أجل أن يلتقوا بمن كان سببًا في بنائهم أوّلَ مرّة، فيبنيهم من جديد،

من أجل أن يُعانقوا أرواحَنا الملهمة، ويسمعوا عباراتِ الثناء والتشجيع التي تُعيدُ الثقةَ إلى نفوسهم،

من أجل أن يجدوا مكانًا يبكون فيه بعيدًا عن أنظار آبائهم وأمّهاتهم،

من أجل أن ينظروا في وجهِ صديقٍ صادق في حبّه ونصحه لا يُشبه أصدقاء " الفايس بوك".

طلّابنا ينتظرون العودة إلى المدرسة من أجل أن يضاعفوا شغبَهم "الطفوليّ" الذي كنّا نتتبّعه "بالعقوبة" حينًا، وبالنصيحة حينًا!

ينتظرون العودة إلى المدرسة من أجل أن يسردوا، ثمّ يسردوا قصصهم البطوليّة الشيّقة، وينشروا مطوّلاتهم الأسطوريّةَ المرعبةَ في زمن الحَجر.

طلّابنا ينتظرون العودة إلى المدرسة كي يركضوا في ملاعبها، ويعبثوا في مقاعدها، ويشمّوا رائحةَ ذكرياتهم التي تُعيد إلى نفوسهم الأمانَ الذي مزّقه "كورونا" والسعادةَ التي شوّهتها الظروفُ الأخرى.

طلّابنا سيعودون إلى المدرسة بمعارف ومهارات وكفايات كانت مدرسةُ الحَجرِ سبّاقةً في تعليمها. طلّابنا سيعودون إلى المدرسة مُستعدّين للتعلّم عن بُعد، واستعمال التقانة وبرامجها استعدادًا يفوقُ استعدادَنا!

طلّابنا سيعودون إلى المدرسة غيرَ مُشتاقين إلى حصص العلوم المحضة، ولا إلى نصوص الأدب الميّتة، ولا إلى دروس التاريخ التي باتوا يميّزون غثّها من سمينها، ولا إلى مسائل الرياضيّات المعقّدة، ولا إلى وظائفنا واختباراتنا، طلّابنا سيعودون مشتاقين إلى الحياة. فهل نحن مستعدّون للعودة إلى المدرسة؟

هل نحن مستعدّون؛ لأنّنا اشتقنا إلى شخصيّة "الأستاذ" فينا؟  أو لأنّنا حريصون على مسائل الكيمياء، ونظريّات الفيزياء، ومعادلات الرياضيّات، وقواعد اللغات حرصَنا على أرواحنا؟

أو هل نحن مستعدّون؛ لأنّنا أدركنا أنّ رسالتنا التربويّة تدعونا إلى أن نعود سريعًا إلى مدارسنا مربّين مُصلحين مهما تكن الظروف والوسائل والأدوات؟

 

التربية أوّلًا

العودةُ إلى المدرسة هذا العام دعت المدارس إلى العناية الفائقة بالجانب التقنيّ والجانب الصحيّ، فتسابقت المدارس إلى تطوير بنيتها التقنيّة؛ لتواكب نظام التعليم العالميّ الذي وُلدَ فجأة في منتصف العام الماضي عندما اشتدّ مخاضُ فيروس كورونا، فالمدارس اليوم قد أحكمت النظام التكنولوجيّ، وطوّرت التجهيزات والأدوات الخادمة له، وكلّما أنفقت على ذلك الأموال والخبرات كانت رائدةً في توفير وسائل التعلّم عن بُعد. أمّا الجانب الصحيّ فيُعدّ في سلّم أولويّاتها؛ لأنّ تأمين مقوّمات السلامة العامّة، والاهتمام بسبل الوقاية وأدواتها بات أمرًا لا بُدّ منه في كلّ مؤسسة وتجمّع بشريّ بعد جائحة كورونا.

لكنّ العودةَ الحقيقيّةَ إلى المدرسة هذا العام من وجهة نظري تعني أن تكون مدارسُنا قد أعدّت نفسها إلى جانب ذلك إعدادًا صحيحًا لتكون بيئةً تربويّةً حاضنةً، ومجتمعًا إنسانيًّا راعيًا، تعي رسالتها الإنسانيّة السامية في هذه المرحلة من مراحل تاريخنا الحديث، هذه الرسالة التي تُعنى بشخصيّة الإنسان المتوازنة روحًا وفكرًا وسلوكًا وعلمًا.

 

العودةُ إلى المدرسة هذا العام تعني التخطيط للاستيعاب التربويّ، والدعم النفسيّ، والحوار الباني، والتوجيه الربّاني للفكر والقلب والسلوك.

العودةُ إلى المدرسة هذا العام تعني أن نكون قد درّبنا أنفسنا على أن نستمع كثيرًا، ونبتسم كثيرًا، ونشجّع كثيرًا.

العودةُ إلى المدرسة تعني أن يشغلنا الطالبُ ونفسيّةُ الطالبِ، وتساؤلاتُ الطالبِ، واعتراضاتُ الطالب عن السعي لإتمام الدرس، أو إنهاء المقرّر.

العودةُ إلى المدرسة تعني أن نكون قد أعددنا أنفسنا لنتعرّف إلى طلّابنا من جديد، وإلى قدراتهم الجديدة، ومشكلاتهم المستجدّة، وأفكارهم الناضجة التي ستفاجئنا، وأن نكون مستعدّين للإجابة عن تساؤلاتهم الغيبيّة والسياسيّة والوطنيّة والصحيّة والنفسيّة التي يظنّون أنّنا سنجيبُ عنها على إيمان ووعي وعلم.

العودةُ إلى المدرسة تعني أنّنا لن ندخل الصفّ بأحكام مُسبّقة، ولن نخرج منه بانطباعات مُفترضة.

العودةُ إلى المدرسة تعني العودةَ إلى الحياة التي ينتظرُ طلّابنا أن يعودوا إليها بعد حَجرٍ طويلٍ، ولكنّ هذه الحياةَ لن تكون حياةً إلّا إذا صنعناها نحن بعلاقة صادقةٍ مع الله ليَهبَــها لنا، وبفكرٍ نيّر، وقلبٍ سليم، وابتسامة مُشرقة، وسلوك ينبضُ بالمسؤوليّة والمحبّة والاحترام والانفتاح والاحترام والاستقامة على ذلك.

العودةُ إلى المدرسة هذا العام تعني التربيةَ ورعايةَ الإنسان أوّلًا. فهل أعددنا مدارسَنا وأنفسَنا لذلك؟