المدرسة ليست حقيبة وكُتبًا فقط: كيف نصنع بيئة تعليميّة ملهمة منذ اليوم الأوّل؟
المدرسة ليست حقيبة وكُتبًا فقط: كيف نصنع بيئة تعليميّة ملهمة منذ اليوم الأوّل؟
2025/11/26
سارة سعيد | كاتبة - مصر

أقف هذه السنة من جديد في ممرّات المدرسة، حيث تختلط رائحة الألوان الجديدة بضحكات الأطفال وارتباكهم في آنٍ واحد. وكما في كلّ سنة، أتذكّر أنّ الحقيبة الثقيلة والكتب المصفّوفة لا تكفي وحدها لصناعة تجربة تعلّم حقيقيّة. المدرسة في جوهرها ليست جدرانًا ولا سبّورة، بل فضاء حيّ يحتاج إلى أن نغرس فيه معنى الإلهام منذ اللحظة الأولى.

البحوث التربويّة الحديثة – مثل دراسات OECD Learning Compass 2030  وتوصيات UNESCO Futures of Education 2023–2025 –  تؤكّد أنّ المدرسة لم تعد مكانًا يقتصر دوره على "نقل المعرفة"، بل أصبحت فضاءً لصناعة المواطن المبدع، المتعاون، القادر على التعلّم مدى الحياة. وهذا التحوّل يعني أنّ أوّل أيّام السنة الدراسيّة يجب أن يكون بوابةً لهذه الفلسفة، لا مجرّد بداية لسباق الواجبات.

الأنشطة التعليميّة: التعلّم الذي يخرج من الكتب

تشير أبحاث "John Hattie – Visible Learning MetaX (2023)" إلى أنّ الأنشطة الصفّيّة غير التقليديّة – من المشاريع الصغيرة إلى الألعاب التعليميّة – تضاعف أثر التعلّم مقارنة بالطرق التلقينيّة. لذلك، حين أبدأ حصصي الأولى، أحرص أن يكون للطلاب فرصة لصناعة شيء جماعيّ: لوحة فنيّة، نشاط تعاونيّ، أو حتّى لعبة بسيطة تكسر الجليد.

البداية المثاليّة لا تُقاس بعدد الصفّحات التي أنجزناها، بل باللحظة التي شعر فيها الطالب أنّ الصفّ ملكه، وأنّه قادر على المشاركة فيه. فعندما يكتشف الطفل أنّ رأيه مسموع، وأنّ لعمله الصغير قيمة، يتحوّل التعلّم من عبء إلى شغف.

الفنون: جسر للتفكير والإبداع

كثيرون ينظرون إلى الحصص الفنيّة أو الموسيقيّة على أنّها "إضافات". لكنّ تقارير Brookings Institution (2024) أكّدت أنّ دمج الفنون في التعليم يرفع من مهارات التفكير النقديّ والإبداعيّ بشكل ملحوظ. فالفن ليس نشاطًا جانبيًّا، بل أداة تربويّة. حين يرسم التلميذ ما يشعر فيه تجاه المدرسة، أو يغنّي مع زملائه في أوّل أسبوع، فإنه يعبّر عن ذاته ويكتسب الثقة في أنّ المدرسة تستوعب مشاعره، لا تفرض عليه قوالب جامدة. بل إنّ بعض التجارب في فنلندا واليابان أظهرت أنّ تخصيص 15 دقيقة يوميّة للفنون في بداية اليوم يقلّل التوتّر، ويرفع مستوى التركيز طوال اليوم الدراسيّ.

 الصداقات: المنهج الخفيّ

كثير من التربويين يتحدّثون عن "المنهج الخفيّ"، أي ما يتعلّمه الطالب من القيم والسلوكيّات أكثر مما يتعلّمه من الدروس الرسميّة. وفق دراسة حديثة في Harvard Graduate School of Education (2025)، فإنّ نوعيّة العلاقات التي يبنيها الطفل في المدرسة – خصوصًا في الأسابيع الأولى – لها تأثير مباشر في شعوره بالانتماء، وبالتالي في أدائه الأكاديميّ.

لهذا، لا بدّ أن نمنح الأطفال مساحات آمنة لبناء صداقاتهم: أنشطة تعارف بسيطة، حوارات دائريّة، أو حتّى ألعاب حركيّة جماعيّة. كلّ ذلك يفتح الطريق لتشكيل روابط إنسانيّة تجعل المدرسة مكانًا ينتظرونه كلّ صباح.

فالعودة إلى المدرسة ليست مجرّد استئناف للدروس، بل انتقال نفسيّ من إيقاع الصيف الحرّ إلى نظام جديد. وأوّل أسبوع دراسيّ يحدّد بشكل كبير مستوى القلق أو الراحة الذي سيلازم الطفل طوال الفصل الدراسيّ.

لذلك، لا بدّ أن ندرك، نحن المعلّمين، أنّ كلمات الترحيب، وطريقة ترتيب المقاعد، وحتّى ابتسامة الاستقبال، كلّها عناصر تؤثّر في شعور الطالب بالانتماء والأمان. فالمدرسة الناجحة هي التي تُشعر طلّابها أنّهم مقبولون كما همّ، وأنّهم جزء من جماعة تتعلّم وتُخطئ وتنهض معًا.

المدرسة مساحةً حياة

حين ننظر إلى المدرسة باعتبارها "حياة مصغّرة"، ندرك أنّ الكتب والحقيبة ليست سوى أدوات، بينما الجوهر هو ما يعيشه الطفل داخل جدرانها: صداقات، تجارب، إبداع، إخفاقات، نجاحات، ومواقف تبني شخصيّته.

صناعة بيئة تعليميّة ملهمة تبدأ من أوّل يوم: حين يستقبل المعلّم طالبه بابتسامة لا بامتحان، وحين يكتشف الطالب أنّ المدرسة مكان يجد فيه ذاته، لا مكانًا يخشى منه. هذا ما يجعلنا نحن المعلّمين، أمام مسؤوليّة تربويّة وأخلاقيّة: أن نعيد تعريف "العودة إلى المدرسة" بوصفها عودة إلى مجتمع صغير يعلّمنا كيف نكون معًا، قبل أن يعلّمنا كيف نكتب ونحسب.

 

توصيات عمليّة مستندة على الأبحاث

  1. ابدأ اليوم الأوّل بالترحيب لا بالامتحان، واجعل أوّل ما يواجهه الطفل بيئة دافئة.
  2. خصّص وقتًا للتعارف والتعاون بأنشطة صغيرة تكسر الحاجز النفسيّ.
  3. ادمج الفنون والموسيقى حتّى لو لدقائق، فإنّها ترفع المعنويّات وتزيد الانتباه.
  4. شجّع الطلّاب على صياغة "ميثاق صفّيّ ( قواعد يتّفقون عليها معًا ليشعروا بالمسؤوليّة).
  5. اصنع لحظات نجاح مبكّرة بنشاط قصير ينجح فيه الجميع، يدعم الثقة ويزرع الدافعيّة.

وختامًا.. كلّ عام دراسيّ فرصة جديدة لأتعلّم مع طلّابي قبل أن أعلّمهم. لذلك أذكّر نفسي دائمًا: إذا لم أستطع أن أصنع لحظة إلهام في اليوم الأول، فكلّ ما بعده سيكون محاولات لإصلاح ما فات. فالمدرسة حياة، والحياة لا تبدأ بكتاب، بل بإنسان  ومعلّم مستعدّ لعام دراسيّ جديد ومحبّ لطلّابه.