قراءة في سلسلة "التاريخ العامّ" التعليميّة
قراءة في سلسلة "التاريخ العامّ" التعليميّة
هنادي ديّة | مديرة مناهج تعليم حاصلة على دكتوراه في الألسنيّة التاريخيّة- لبنان
جمال أحمد عرفات | أستاذ ومشرف عامّ لمادة التاريخ- لبنان

ليس من السهل تقديم قراءة نقديّة لتجربة تربويّة حديثة لم تتخطَّ بضع سنوات، ولم تنتشر ليتسنّى جمع الانطباعات والملاحظات حولها، أو إجراء الدراسات والإحصاءات حول نتائجها. وعلى الرغم من أنّ سلاسل الكتب بحدّ ذاتها لا تشكّل تجارب تربويّةً، فسلسلة التاريخ العامّ الصادرة عن المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات – ترشيد، التي تستهدف المراحل الدراسيّة الممتدّة من الصفّ السادس حتّى الصفّ العاشر، تشكّل مقاربةً حديثةً في تقديم كتاب تاريخ موضوعيّ يخرج عن إطار المناهج الوطنيّة، ليلج لبّ فلسفة التاريخ وعلمه. بين أيدينا الطبعة الثانية من السلسلة، إصدار سنة 2018، لنقدّم حولها قراءةً سريعةً.

 

التصميم

يقارب الكتاب تعلّم التاريخ باتّباع نظام الوحدات التعلّميّة. هذه المقاربة ليست مقاربة شكليّة، أو تنظيميّة، إذ تضمّ كلّ وحدة عددًا من الدروس، لكن تعكس هذه المقاربة أيضًا منهجًا تصميميًّا ينطلق من الأهداف المرجوّة المذكورة في نهاية الوحدة، وتبنى الدروس بتناسق لتحقّق هذه الأهداف.

إنّ تصميم الوحدات يتّبع نسقًا يحاكي بناء الوحدات المقترح من قبل منهاج "البكالوريا الدوليّة"، إذ تبدأ الوحدة بجملة البحث والاستقصاء، وتعرض أسئلة المعرفة، فالأسئلة المفاهيميّة، فالنقاشيّة، كما تقدّم السياق العالميّ للموضوع، ومعايير التقييم. إنّ تصميم الوحدات ينطلق من المفهوم والسؤال، لا من المحتوى كما حال معظم كتب التاريخ؛ فالمتعلّم يبدأ رحلة تعلّم المحتوى مستكشفًا المفهوم المرجوّ متسائلًا عنه، وعندما يقدّم له المحتوى عبر صفحات الوحدة، فإنّه يقارب هذا المحتوى باحثًا عن إجابات تبني له المفهوم بناء تدريجيًّا حتّى يكتسبه. في نهاية كلّ رحلة استكشاف، خلاصة للوحدة تقدّم للمتعلّم ثبتًا بما تعلّمه، وتربط بداية الوحدة بآخرها.

الوحدة متكاملة، وهي تقدّم للمعلّم والمتعلّم رحلة تعلّميّة استكشافيّة. قد يطرح في هذا السياق سؤال: هل الكتاب مصمّم للمتعلّم أم للمعلّم؟ إذ جرت العادة أن يكون ثمّة كتاب للتلميذ يقدّم له المحتوى، وكتاب آخر للمعلّم هو دليل يعينه في عمليّة التحضير. هذا الكتاب لم يفصل بين كتاب لتلميذ وآخر لمعلّم، لأنّ الاثنين مدعوّان إلى خوض رحلة التعلّم معًا، فلا يتوقّع من المعلّم أن يتحكّم بالعمليّة التعليميّة عبر إلقاء المحتوى التاريخيّ المرتبط بالموضوع على المتعلّم، لكن يتوقّع منه أن يرافق المتعلّم في رحلة تعلّميّة في صفحات الوحدة، فيكون الميسّر لعمليّة التعلّم والاكتشاف، ولا يتوقّع من المتعلّم أن يكون متلقّيًا للمادّة التاريخيّة، بل شريكًا في عمليّة التعلّم، مدركًا الأهداف المرجوّة من كلّ وحدة، باحثًا عن إجابات أسئلة البحث والاستقصاء.

سلسلة التاريخ العامّ التعليميّة

المقاربة

قد يبدو الكتاب مصمَّمًا لمنهاج البكالوريا الدوليّة، لكنّ نظرةً أعمق فيه تبيّن أنّ المقاربة التي يتّبعها تتعدّى ذلك؛ فمقاربته تحاكي منهاج البكالوريا وتستعمل مصطلحاته، وتتعدّى ذلك إلى مقاربة تخاطب مهارات القرن الواحد والعشرين _لا سيّما مهارات التعلّم_ وتسعى إلى تنميتها. تتضمّن الوحدات أنشطةً تنمّي مهارات التفكير الناقد، والبحث، والتواصل، والتعاون، وقد تجد أنّ بعضها يشير إشارةً واضحةً إلى تنمية مهارات التفكير الناقد أو التنظيم، لكنّ ما تقدّمه هذه النشاطات ينمّي حتمًا مهارات التواصل، والتعاون بصورة ضمنيّة.

إلى جانب مهارات القرن الواحد والعشرين التعلّميّة، يخاطب الكتاب مهارات الحياة. فكلّ وحدة تقدّم نشاطًا بعنوان "الخدمة والعمل". يدعو هذا النشاط المتعلّمين إلى توظيف مكتسباتهم في خدمة المجتمع، والمساهمة في تحسينه، ويربط النشاط التعلّم الذي يحدث داخل الصفّ بالعالم خارجه. لقد درسنا التاريخ، وكان الصفّ سردًا لأحداث جرت في الزمن الغابر والماضي، وكان دخول صفّ التاريخ أشبه بدخول المتحف، وسماع قصص لم ندرك وقتها علاقتها بحياتنا اليوميّة. إنّ نشاط الخدمة والعمل يقدّم فرصةً لربط تعلّم الماضي بالحاضر، والإفادة من هذ التعلّم لتحسين الحاضر.

 

جولة عامّة في الكتب

عناوين الكتب والدروس التفصيليّة جاذبة، تشدّ المتعلّم لاستكشاف مروحة واسعة من المعارف، فتتراكم مكتسباته المعرفيّة، والتحليليّة، والاستنتاجيّة، كما أنّها تشدّ المعلّمين أيضًا بما تحمله من معلومات، ومعطيات، وإثراء متنوّع المصادر والمراجع. يمكن لهذه العناوين أن تنال حظوة المهتمّين من القرّاء، والأهل المتابعين الباحثين عن معارف تاريخيّة جديدة. وفي هذا السياق، تشكّل عناوين الكتب عامل استقطاب معرفيّ ينفتح على اتّساعه بما تقتضي الحاجة؛ تقرأ في كتاب الحضارة الإسلاميّة للصفّ الثامن مثلًا أخبار بدايات الإسلام، وتشكيل الدولة المركزيّة، بعد أن تكون مررت في جولة على الإمبراطوريّات، أو الحضارات القائمة يومها: الهان في الصين، والرومانيّة في شرق آسيا وسواحل أوروبا المتوسّطيّة، والساسانيّين. يهيّئ لك الكتاب الأرضيّة المعرفيّة التي ستسمح لك، بوصفك قارئًا، أن تربط العناصر الحضاريّة (الاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والسياسيّة) في تكوين فهمك لما حصل.

من ناحية أخرى، يلعب الاعتماد على وسائل التوضيح المختلفة من الخطوط الزمنيّة وشروحاتها، والتنوّع في الرسوم والصور والمصادر، والشروحات الدائمة للمصطلحات والتعابير والمفردات الإشكاليّة، بالإضافة إلى الأمانة البحثيّة في نشر لائحة المصادر والمراجع، وإفراد لائحة بالتعاريف دورًا أساسيًّا في تشكيل النظرة العلميّة التي تغني المضمون، وفي المساعدة في تحقيق الأهداف. أضف إلى ذلك تعدّد الأنشطة في الدرس الواحد، وهي تحفّز المتعلّمين على التنافس العلميّ في مجموعات، أو فرديًّا، ويمكن اعتمادها تقييمًا تكوينيًّا لمدى الفهم الحاصل عند المتعلّمين.

 

التركيز على المصادر

جرت العادة أن يجسّد منهج مادّة التاريخ سياسة "الدولة" التربويّة العامّة، القائمة على اعتماد رواية واحدة ينشأ أبناء الوطن وبناته عليها، ويجمع عليها مواطنوها. في هذا التفصيل الأساسيّ، تميّزت كتب سلسلة "التاريخ العامّ" ولم تكن منهجًا "وطنيًّا" آخر؛ إذ اعتمدت السلسلة في وحداتها الدراسيّة الروايات المتنوّعة المتعلّقة بموضوع محدّد، ما ترك للمتعلّمين أفقًا رحبًا يتنقّلون فيه بحرّيّة ليستكشفوا العالم بمهاراتهم الذاتيّة الإبداعيّة حال تلمّسهم أوّل الطريق. نرى هنا اعتماد مصادر تاريخيّة عديدة لمعرفة الخبر، لا اعتماد رواية مفروضة بلا مصدر، مصفوفة في كتاب جامد.

ويمكنّ أن نقرأ أمثلةً على ذلك في كتب السلسلة كافّةً؛ مثلًا في الجزء الثاني من كتاب الصفّ السادس، في درس "عصر الاستكشاف العثمانيّ" (ص 43-53)، نقع على العبارات الآتية:

 

"فبحسب المؤرّخ جيان كارلو كازالي، وهو خبير في الموضوع..."

"في كتاباتهم عن الإمبراطوريّة العثمانيّة في سنوات الستّينيّات والسبعينيّات من القرن السادس عشر، وصفها البرتغاليّون بأنّها مصدر خطر..."

"إلّا أنّ دراسات حديثة تشير إلى..."

"أشار كازالي إلى أنّه كان هناك سبب حقيقيّ كي يقلق البرتغاليّون..."

"يعطينا ما كتبه مراقب برتغاليّ في منتصف ستّينيّات القرن السادس عشر لمحةً عن..."

"وقد ناقش مؤلّف عثماني في عام 1625 مظاهر هذا الأفول فكتب..."

"تحدّثت المؤلّفات الجغرافيّة العربيّة والصينيّة ما قبل القرن الخامس عشر عن مخاطرات طبيعيّة..."

"أوضح عالم الاقتصاد أ. ج. فرانك"

 

يبدو واضحًا من الأمثلة جهد معدّي السلسلة في تركيز انتباه المتعلّمين على موضوع الوثائق، ومقارنتها، وفحصها للتدقيق فيها. لا شكّ في أنّ هذا التوجّه، بين يدي معلّم كفء، قادرٌ على تعزيز المقاربة العلميّة للتاريخ، بوصفه تجميع دراسات تتّكئ على مصادر، وآثار، وربط للمعلومات، تصوغه عين المؤرّخ، وزاوية رؤيته للأحداث.

واقع للكتاب يسبّب انزياحًا لأهداف تعليم مادّة التاريخ التقليديّة في المناهج المضبوطة بتوجّهات "وطنيّة" تضعها الوزارات؛ فالمواطن الصالح النموذجيّ لم يعد حافظ السرديّة الرسميّة للتاريخ، بل هو صاحب المنهج العلميّ، المفكّر القادر على تجميع معلوماته، والاستنتاج منها، وتكوين رأيه الخاصّ، وهذا تطوّر عظيم في الرؤية يُشكر عليه واضعو السلسلة.

 

لغة الكتاب واللغة العربيّة

لدى قراءة كتب السلسلة، نقرأ لغةً سليمةً سلسة لا تخلو من المصطلحات، والتعبيرات، والمفاهيم العلميّة التاريخيّة التي تركّز السلسلة على تقديمها للمتعلّمين، وترسيخها بوصفها أدوات علميّة تعينهم في تكوين فهمهم، وآرائهم.

بعيدًا عن تعلّم التاريخ، يقدّم الكتاب مادّةً شيّقةً، ومقاربةً ممتعةً يمكن توظيفها في تعلّم اللغة العربيّة؛ إذ تخاطب النصوص، والأسئلة مهارات القراءة والفهم، وتعزّزها، وتنمّيها. وقد يكون الربط بين مادّتي التاريخ واللغة العربيّة، والتعاون بين أساتذة المادّتين أمرًا شديد الفائدة. الكتاب يقدّم نصوصًا، ويسأل الطالب تحليلَها وفهمها والاستجابة لها شفهيًّا وكتابيًّا. ثمّة فرصة حقيقيّة يجب أن يتلقّفها أساتذة اللغة العربيّة، فالتعاون بين المادّتين سيعطي تلاميذ اللغة دليلًا على أهمّيّة اللغة واكتسابها في فهم الموادّ التعلّميّة الأخرى.

 

خاتمة

نجد أنّ سلسلة "التاريخ العامّ" بصفوفها الخمسة تتوافق وتعريف ابن خلدون لعلم التاريخ، إذ يعرفه على أنّه: "خبرٌ عن الاجتماع الإنسانيّ الذي هو عُمران العالم، وما يعرض لذلك العمران من الأحوال، مثل التوحّش والتأنّس، والعصبيّات، وأصناف التقلّبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعايش، والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث من ذلك العُمران من الأحوال" (ابن خلدون، 2004، ص. 125)، وذلك في مضامين السلسلة التي تناولت عُمران العالم، والتقلّبات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، وتداول الدول وتألّبها، والعلوم والاختراعات، وحركة الكشوفات أو الاكتشافات التي غيّرت وجه العالم.

من الأمور الأساسيّة التي ميّزت هذه السلسلة، ربط الحدث بالمحيط الجغرافيّ، والنشاط الاقتصاديّ، والنوازع الثقافيّة. مع هذا الربط، لم يعد علم التاريخ مجرّد سرد أحداث ونزوات تمكّنت من ملك هنا أو قائد هناك، بل قُدّم بوصفه سيرورةً تتحكّم بها الدوافع الاقتصاديّة، والمنتجات، وتراكم الثروات، وحاجة الناس إلى الانتقال التي تدفعهم إلى المغامرة. إذًا، التاريخ علم يقدّم بوصفه علمًا، وهذا توجّه أساسيّ في نقل عمليّة التعليم إلى التفاعليّة، والفهم القائم على قراءة المعطيات، أي استعمال مجريات التاريخ تدريبًا ذهنيًّا يعين على قراءة الحاضر وفهمه، والتخطيط له.

هذه تجربة في التعلّم نتمنّى أن تتوسّع لتشمل مواضيع أخرى في المناهج التربويّة. إنّ هذا هو ما يضمن نقل التلاميذ إلى متعلّمين وطلّاب علم، فهؤلاء من نتّكل عليهم في أن يتولّوا مسؤوليّة مستقبلنا.

 

 

إن كنت مهتمًّا/ة بالحصول على كتب سلسلة التاريخ العامّ التعليميّة، يمكن الاستفسار من خلال الإيميل [email protected]