ما الذي غيّرته الحروب والأزمات المُختلفة في العالم العربيّ، في نظرتك إلى التعليم؟
تغيّرت نظرتي إلى التعليم من كونه أداة تقليديّة لنقل المعرفة إلى كونه ضرورة وجوديّة لبناء الإنسان وتعزيز الصمود والهويّة. في رأيي كشفت هذه الأزمات هشاشة الأنظمة التعليميّة في مواجهة الكوارث، لكنّها في الوقت ذاته كشفت عن أهمّيّة التعليم كوسيلة لحماية الأجيال من التطرّف واليأس والضياع؛ إذ أصبح التعليم ملاذًا يعيد تشكيل الوعي الجمعيّ، ويرسّخ قيم السلام والتضامن الإنسانيّ. في مصر، دفع هذا الوعي المتزايد إلى الحديث أكثر عن العدالة التعليميّة، وحقّ الأطفال اللاجئين والمهمّشين في التعليم، والاهتمام بالمضامين التي تزرع الانتماء والنقد البنّاء.
ما الذي تتمنّى لو يعرفهُ صنّاع القرار عن واقع المعلّمين اليوم؟ لماذا؟
أتمنّى لو يدركوا أنّ واقع المعلّمين في مصر اليوم يتجاوز نقص الموارد أو ضعف الرواتب؛ فالمعلّم يعيش تحت ضغوط نفسيّة ومهنيّة متزايدة، تتراوح بين ازدحام الفصول، وتضارب التوجيهات الإداريّة، وضعف التقدير المجتمعيّ، وغياب فرص التطوير الحقيقيّ. كثيرًا ما يعمل المعلّمون في بيئات غير مهيّأة تربويًّا أو تقنيًّا، ويُطالَبون بتحقيق نتائج عالية من دون تمكين حقيقيّ!
في الواقع لا يمكن إحداث أيّ تطوير حقيقيّ في التعليم بغير تمكين المعلّم نفسيًّا ومهنيًّا وماديًّا. فالمعلّم كما نقول دائمًا حجر الأساس في بناء الوعي والمهارات والقيم لدى الأجيال الجديدة؛ لذا الاستثمار في المعلّم هو الاستثمار الأكثر تأثيرًا واستدامة في مستقبل المجتمعات.
هل ما زال الكتاب المدرسيّ مصدرًا أساسيًّا للتعليم في صفّك؟
في ظلّ تخلّي وزارة التربية والتعليم عن طباعة الكتاب المدرسيّ، أصبح الكتاب مرجعًا رقميًّا اختياريًّا غالبًا ما يُهمل لصالح الكتب الخارجيّة. وهو ما خلق فجوة واضحة بين ما ينبغي أن يكون عليه التعليم، وما يجري فعليًّا داخل الفصول؛ إذ يعتمد العديد من المعلّمين والطلّاب على الكتب الخارجيّة أو المذكّرات التي يعدّها المعلّمون بأنفسهم، لما توفّره من تبسيط، وأسئلة تدريبيّة، وتماسك في المحتوى، بينما تبقى النسخ الرقميّة من الكتب الرسميّة بعيدة عن الاستخدام اليوميّ، إمّا بسبب ضعف البنية التحتيّة التكنولوجيّة، أو لغياب التوجيه التربويّ الذي يوضّح كيفيّة استخدامها بفاعليّة.
هل سبق وفكّرت بالاستقالة من المهنة؟ ما الذي جعلك تبقى؟
نعم، وأكثر من مرّة؛ لأنّ المهمّة فقدت الكثير من معانيها وأهدافها. فما يبنيه المعلّم في الصفّ، تهدمه وسائل الإعلام في ساعة، وما تبثّه المسلسلات والأفلام، وما يروّجه المؤثّرون ونجوم "التيك توك" ومواقع التواصل الاجتماعيّ من أنماط سلوكيّة وقيم مشوّهة. يُضاف إلى ذلك تأثير الشارع وأحيانًا الأسرة، بما يعرّضه إلى نماذج متناقضة تُربك وعي الطالب وتشوّش على ما يتعلّمه داخل المدرسة. في ظلّ هذا التناقض الصارخ، كثيرًا ما أسأل نفسي: ما الجدوى؟ وهل ما نفعله يُثمر حقًّا، أم أنّنا نحارب طواحين الهواء؟
حقيقةً ما يجعلني أبقى، هو التزامي تجاه دنياي التي فيها معاشي؛ فهذه المهنة، بكلّ ما فيها، هي مصدر رزقي وعماد استقراري. وربما أيضًا شيء من الأمل المتبقّي بأنّ كلّمة واحدة قد تترك أثرًا، أو أنّ طالبًا واحدًا قد ينجو بما تعلّمه، فيكون ذلك عزاءً في زمن صار فيه التغيير أصعب من أيّ وقت مضى.
ما هي أهمّ المهارات التي يجب أن نُدرّب المتعلّم عليها في عصر الذكاء الاصطناعيّ؟
في رأيي، أهمّ هذه المهارات هي المهارات الأخلاقيّة المرتبطة بالاستخدام المسؤول للتقنيّة. لم يعد كافيًا أنّ يعرف الطالب كيف يستخدم أدوات الذكاء الاصطناعيّ؛ وإنّما الأهمّ أنّ يدرك أثر استخدامه، ويفهم مسؤوليّاته تجاه نفسه ومجتمعه، بما يشمل الخصوصيّة، وتجنّب التزييف والتضليل، وعدم الاعتماد الكلّي على الذكاء الاصطناعيّ في التفكير أو الإنجاز من دون وعي أو رقابة.
ما أهمّ استراتيجيّاتك في شدّ انتباه المتعلّمين؟
من أهم استراتيجيّاتي عند تدريس التاريخ، الربط بين المحتوى الدراسيّ وواقعهم اليوميّ، بما يساعد الطلّاب على إدراك أنّ التاريخ أساس لفهم الحاضر وتفسيره، ويشعرهم بأهمّيّة ما يتعلّمونه، ويدفعهم للانخراط الفعّال في الدرس.
كما أعتمد على استراتيجيّات التعلّم النشط والتفاعل داخل الصفّ، كالعصف الذهنيّ، بما يتناسب مع ضيق وقت الحصّة وكثرة عدد الطلّاب، وأحرص على كسر الرتابة من خلال التنويع في نبرة صوت معبّرة، أو طرح أسئلة محفّزة، أو مفاجآت بسيطة تُعيد التركيز من دون أنّ تستهلك وقتًا كبيرًا.
هل ما زال تعبير "ضبط الصفّ" مناسبًا برأيك؟
لم يعد تعبير "ضبط الصفّ" الأنسب في ظلّ التحوّلات التربويّة الحديثّة، التي تركّز على التفاعل الإيجابيّ وبناء العلاقات بدلًا من السيطرة والانضباط التقليديّ. فالمصطلح يحمل دلالة سلطويّة قد تُفهم على أنّها قمع أو فرض للنظام بالقوّة. الأدقّ أنّ نتحدث عن "إدارة الصفّ" أو "تهيئة مناخ تعلّميّ آمن ومحفّز"؛ حيث يكون الهدف خلق بيئة تساعد الجميع على التعلّم، لا مجرّد فرض النظام.
ما الذي يجعلك تضحك في المدرسة على الرغم من الضغوط؟ لماذا؟
الضحك وسيلة مقاومة وسط كلّ ما يثقل الكاهل. أضحك عندما يقول أحد الطلّاب تعليقًا عفويًّا يُفاجئني، أو حين يتحوّل الموقف الصعب إلى لحظة إنسانيّة غير متوقّعة. أحيانًا، أضحك لأنّني لو لم أفعل، لانفجرت من الضغط!
أكثر مقال تربويّ أعجبك قرأته في صفحات مجلّة منهجيّات أو غيرها، ولماذا أعجبك؟
ليس غرورًا، ولكنّ أكثر المقالات التي أثّرت فيّ تلك التي كتبتها بنفسي؛ لأنّها كانت انعكاسًا صادقًا لما أعيشه داخل المدرسة، ولِما يعانيه كثير من المعلّمين من تحديّات يوميّة لا تُنقل دائمًا بصدق في الأدبيّات التربويّة. كانت بمنزلة متنفّس ومنبر أعبّر فيه عن الواقع، وأسجّل فيه أسئلتي، وهمومي، ومحاولاتي في الفهم والتغيير.
إذا كتبت يومًا كِتابًا عن تجربتك في التعليم، ماذا سيكون عنوانه؟ لماذا؟
في الواقع، قد أكتب كتابًا بعنوان: "على الحافة... معلّم يحاول ألّا يسقط"، اخترت هذا العنوان لأنّه يُعبّر بدقّة عن الشعور الذي يرافق الكثير من المعلّمين يوميًّا، شعور الوقوف على الحافة بين الاستمرار والانهيار، بين الشغف والإنهاك، بين الأمل والواقع. وسيتحدّث الكتاب عن التوتّر الدائم بين الرغبة في إحداث فرق، والضغوط التي تجعل هذا الفرق يبدو بعيد المنال. لكنّه أيضًا سيلمّح إلى شيء من المقاومة، والمحاولة المستمرّة للبقاء واقفًا على رغم كلّ شيء.