يقول الفيلسوف الأمريكيّ آلن بلوم: "التعليم هو الحركة من الظلام إلى النور".
في عالمنا المعاصر، حيث تتسارع الابتكارات التكنولوجيّة وتتداخل معها التحدّيات البيئيّة والاجتماعيّة، يغدو التعليم أكثر من مجرّد أداة لاكتساب المعرفة. فنحن اليوم في حاجة ماسّة إلى إعادة تعريف التعليم ليكون القاطرة التي تقود البشريّة نحو مستقبلٍ أكثر وعيًا وعدلًا، مستقبلٍ يتطلّب تفكيرًا خارج الأطر التقليديّة ومهارات تتجاوز الحدود المألوفة. فبواسطة التعليم يمكننا أن نصوغ عالمًا أكثر إنصافًا ورُقيًّا، عالمًا لا يُقيَّد فيه الإنسان بأنماطٍ قديمة فُرضت عليه عبر العصور.
يقول الفيلسوف الفرنسيّ جان بول سارتر: "الإنسان ليس ما يعتقد، بل هو ما يفعله"، وهي مقولة تحمل دعوة صريحة إلى تحرير الإنسان من أسر الماضي، وتؤكّد على أنّ التعليم ينبغي أن يكون محرّكًا للفعل والتفاعل مع العالم. فالتقدّم الحقيقيّ لا ينشأ من تراكم الحقائق فقط، بل من القدرة على تطبيق المعرفة في سياقاتٍ جديدة، والاستجابة للتحدّيات الكبرى التي تواجه الإنسانيّة. وفي عالمٍ سريع التغيّر، تصبح مهارة التعلّم المستمرّ والابتكار أساسًا لبقاء الفرد والمجتمع على حدٍّ سواء.
لقد كان التعليم، منذ القدم، موجّهًا لإعداد الأفراد للعمل ضمن أنظمة اقتصاديّة محدّدة، غير أنّ هذا النموذج لم يعد صالحًا اليوم. فاقتصاد العصر الرقميّ يتطلّب مهارات جديدة تتجاوز الإتقان التقليديّ للموادّ العلميّة، نحو تنمية التفكير النقديّ والقدرة على التعامل مع المعلومات المتدفّقة بسرعة غير مسبوقة. وكما قال سقراط: "الحكمة هي معرفة الشيء الذي لا نعرفه"، أي إنّ التعليم الحقّ يجب أن يتجاوز تقديم المعارف الجاهزة، وأن يزرع في المتعلّم روح التساؤل والتأمّل الفلسفيّ.
التحوّلات العميقة التي يشهدها العالم تدفعنا إلى إعادة النظر في دور التعليم. فنحن نعيش في زمن تتغيّر فيه حدود الممكن والمستحيل مع كلّ اكتشاف جديد، ما يفرض علينا تهيئة جيلٍ قادرٍ على مواكبة هذه التحوّلات بعقلٍ منفتح ومرن. لا يمكننا أن نتمسّك بنماذج تعليميّة قديمة لا تواكب الواقع، بل يجب أن نزوّد شبابنا بالأدوات الفكريّة والمهاريّة التي تمكّنهم من الإسهام في حلّ القضايا الكبرى، كالتغيّر المناخي، والفقر، وعدم المساواة، والصراعات الاجتماعيّة. فالتعليم لم يعد مجرّد عمليّة نقل معرفة، بل أصبح عمليّة تمكينٍ للإنسان ليكون فاعلًا في التغيير وصانعًا للحلول.
ودور التعليم في النهوض الحضاريّ لا يقتصر على إمداد الأفراد بالمعرفة النظريّة، بل يتعدّاه إلى تدريبهم على التفكير الإبداعيّ والقدرة على التكيّف مع المستجدّات. وكما قال الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه: "نحن بحاجة إلى تعليم يشحذ الإرادة بدلًا من تعليم يزرع الخوف". فالتقدّم لا يتحقّق إلّا بتعليمٍ يحرّر العقول ويحفّز الخيال ويعزّز مهارات التفكير النقديّ والتعاون والإبداع، لتنشأ أجيالٌ قادرة على صناعة مستقبلٍ أفضل.
وفي ختام القول، لا بدّ من التذكير بأنّ التعليم الحقّ لا ينفصل عن القيم الأخلاقيّة التي تضمن توجيه المعرفة نحو الخير العام. فكما يرى الفيلسوف الصينيّ كونفوشيوس: "التعليم يبدأ بالكلمات، ولكن الحكمة تنبع من العمل". العمل هو ما يحوّل المعرفة إلى أثر، وهو ما يصنع التغيير الحقيقيّ في المجتمع. فالتعليم ليس وسيلةً لتحقيق النجاح الفرديّ فحسب، بل هو حجر الأساس لبناء مجتمعٍ حضاريّ متماسك ومزدهر. وإذا كنّا نطمح إلى نهضة عربيّة حقيقيّة، فعلينا أن نعيد تشكيل أنظمتنا التعليميّة لتكون أكثر ارتباطًا بالقيم الإنسانيّة العليا، وأكثر قدرة على تمكين الإنسان من الإسهام في ارتقاء الإنسانيّة جمعاء.



