اليوم التالي للحرب: مقاربة تربويّة نفسيّة في استئناف التعليم في غزّة
اليوم التالي للحرب: مقاربة تربويّة نفسيّة في استئناف التعليم في غزّة
2025/10/26
أسماء رمضان مصطفى | مُعلّمة لُغة إنجليزيّة- فلسطين

أنا، المعلّمة التي خرجت من قلب الرماد، من غزّة التي لم يتبقّ فيها سوى صدى الركام ورائحة الكتب المحترقة. أكتب كمن يمدّ يده إلى الغدّ عبر هذا الدمار الممتدّ حولي. أكتب وفي قلبي ألف رجفة ورجفة: هل يمكن للتعليم أن يعود في اليوم التالي للحرب؟ وهل يمكن لصوت الطابور الصباحيّ أن يغطّي على دويّ الصواريخ التي لم تزل تطنّ في آذاننا؟

أتأمّل نفسي فأجد أنّي لم أعد مجرّد معلّمة تشرح الدروس، بل صرت شاهدة على إبادة كاملة: على مدارس محيت من الخريطة، على مقاعد صارت خشبًا متفحّمًا، على دفاتر تشتعل فيها النار وتتناثر أوراقها في الهواء، مثل أسراب بيضاء مفزوعة. ومع ذلك، وعلى الرغم من هذا الخراب، قلبي يصرّ على أن يتساءل: ماذا لو بدأنا التعليم في اليوم التالي؟

لم أنم تلك الليلة، لم أستطع النوم وأنا أتخيّل صباحًا جديدًا، صباح اليوم الأوّل بعد أن تتوقّف الحرب. يا ترى هل سنجد مكانًا نصطفّ فيه؟ هل سنتمكّن من جمع أطفالنا تحت سقف واحد؟ وهل ستتحمّل أرواحهم أن نعيد فتح أبواب "المدرسة" حتّى لو كانت هذه المدرسة خيمة، أو زاوية شارع، أو جدارًا بقي شامخًا يتيمًا بين الحطام؟ هل سنتمكّن من الوقوف؟ هل سنستطيع استعادة قدرتنا على افتتاح عام دراسيّ جديد بعد الحرب مباشرةً؟ هل سنتمكّن من استغلال الوقت؟ وهل السرعة في الوقوف ستكون إيجابيّة؟

أجدني أطرح أسئلة كثيرة، كأنّها محاكمة للغدّ؛ أتخيّل كيف سيجلس طفل فقد أمّه بالأمس ليستمع إلى درس في الرياضيّات؟ وكيف ستكتب الطفلة على دفتر جديد وهي ما زالت تسمع نداء أختها تحت الأنقاض؟ وكيف سنشرح معنى "الوطن" ونحن نرى صورته ممزّقة؟ هل سيعود المعلّمون الذين فقدوا بيوتهم، أو أولادهم، قادرين على الوقوف والشرح؟

 

أطرح على نفسي سؤالًا تلو الآخر وأنا أجهل الإجابات، لكنّ ثمة سؤالًا واحدًا لم أشكّ في إجابته: نعم، سنرفع العلم الفلسطينيّ وسننشد السلام الوطنيّ الفلسطينيّ يقينًا.

أعرف، عميقًا، أنّ التعليم في غزّة ليس درسًا مكتوبًا على السبّورة، بل هو إعلان حياة. التعليم هنا فعل مقاومة، كأنّنا نقول للعالم: "ها نحن باقون على الرغم من أنّكم أردتم لنا الفناء". لهذا أصرّ على أن أسأل: كيف يمكن أن نتأخّر يومًا واحدًا عن العودة؟

قد تبدو الأسئلة قاسية، لكنّها ضروريّة، لأنّ التعليم في اليوم التالي للحرب لن يكون مجرّد جدول حصص، بل سؤال عن القدرة على صمود نظام التعليم في غزّة. هل يستطيع مجتمع مدمّر أن يعيد بناء المدرسة بسرعة البرق؟ كلّ ما أعرفه أنّ أهل غزّة يملكون جبروتًا خاصًّا، جبروتًا يجعلهم يزيحون الركام بأيديهم ليبنوا مقعدًا، يربطون حبلًا بين عمودين ليصنعوا لوحة، ويحوّلون التراب إلى فصل دراسيّ مؤقّت.

لقد اختبرت هذا بنفسي، حين كنت مع طلّابي في النقاط التعليميّة، حيث لا سقف ولا جدار، فقط أقلام صغيرة ودفاتر نجت من القصف. ومع ذلك، عادت الضحكات إلى الوجوه الصغيرة. كانوا يسألونني: "متى نعود إلى مدرستنا الحقيقيّة؟" وكنت أجيبهم وأنا أحبس دموعي: "غدًا أقرب ممّا تظنّون".

وأنا الآن أعيد الجملة ذاتها لنفسي. غدًا، حين تنتهي الحرب، سأكون أوّل من يفتح باب المدرسة أيًّا كان شكله. قد يكون بابًا خشبيًا مكسورًا أعلّق عليه ورقة تقول: "هنا نتعلّم من جديد". وقد يكون بوّابة مدرسة بديلة في خيمة أو ساحة. المهمّ أن يكون هناك باب، وهناك أطفال يعبرون منه.

وسيرى العالم عودتنا إلى التعليم. وسيسجّل التاريخ أنّ غزّة لم تنتظر إعادة الإعمار كي تعود إلى التعليم، بل بدأت من اليوم التالي للحرب. وكأنّنا نقول للعالم: كلّ ما هُدِم سيُبنى، حاولتم  قتل غزّة، ولكنّ غزّة باقية تُعلّم الحياة.

 

أعلم أنّ العودة لن تكون سهلة، فالأطفال مثقلون بالصدمة، والمعلّمون مثخنون بالجراح، والمباني ركام. لكن، من قال إنّ غزّة تسلك الطرق السهلة؟ نحن نولد من المستحيل. ولهذا، فإنّ العودة إلى التعليم لن تكون مجرّد حدث، بل ستكون معجزة غزّيّة جديدة، معجزة تصنعها الإرادة حين لا يتبقى شيء سواها.

سأمشي في الصباح التالي، بين بيوت مهدمة، أبحث عن طالباتي. سأجمّعهنّ واحدة واحدة: أنت يا منى التي فقدت أخاك، تعالي لنتعلّم. وأنتِ يا أحلام التي نجوت من تحت الركام، مكانك في الصفّ الأوّل. وسأكتب على السبّورة أوّل جملة: "نحن أحياء، وللحلم بقيّة".

ربما سيتساءل الناس: أليس مبكرًا؟ ألا يحتاج الأطفال إلى وقت للتعافي من الصدمة؟ بلى، لكنّ التعليم هو نفسه علاج. التعليم هو المصل الذي يُحقن في عروق هذه المدينة الجريحة، فيعيد إليها بعض نبضها.

 

وأعود إلى سؤالي الأوّل: هل يمكن أن نبدأ في اليوم التالي للحرب؟ جوابي هو أنّ غزّة لا تعرف الانتظار. إنّنا أمّة صغيرة اختبرت كلّ شيء، وعاشت من التجارب أقساها على الإطلاق، لكنّنا ما زلنا نصرّ على أنّ أطفالنا يحملون أقلامًا، وعلى ظهورهم حقائب تنذر بمستقبلٍ مشرق. فالتعليم بالنسبة إلى الغزّيّين ليس رفاهية، إنّه وسيلة بقاء.

أكتب هذه الكلمات كمن يحفر على صخر. أكتب لأقول: سيأتي اليوم الذي نجتمع فيه جميعًا في طابور صباحيّ جديد، نرفع علم فلسطين فوق مدرسة جديدة أو فوق خيمة، وننشد السلام الوطنيّ بأصوات قويّة تمتلئ باليقين.

وإنّ غدًا لناظره قريب. سنرى جبروت أهل غزّة في قدرتهم على تسريع العودة إلى التعليم، تمامًا في اليوم التالي للحرب.