توظيف علم الأصوات في تعليم العربيّة في المرحلة الابتدائيّة
توظيف علم الأصوات في تعليم العربيّة في المرحلة الابتدائيّة
أمل خميس الحافي | منسقة قسم المواد الوطنية بأكاديمية قطر–قطر

تعدّ اللغة أحد أعمدة التواصل بين البشر، والتي يكون اكتسابها أمرًا طبيعيًّا إذا توفّرت الظروف والشروط. وحتميّة التواصل والتخاطب تُكسِب الفردَ اللغةَ في أيّ مجتمع إنسانيّ، ولا يتوافر ذلك إلّا بالانغماس المباشر في البيئة اللغويّة التي تتحقّق فيها مهارة الاستماع تحقّقًا كافيًا، يسمح بتحصيل الملكة اللغويّة. من هنا، يشكّل الصوت محورًا رئيسًا في اكتساب اللغة، إذ للّغة معنى ومبنى، وعلم الأصوات مبنى اللغة الذي يميّز لسان عن آخر، ويؤثِّر في المعنى والجوهر.

يعدّ هذا المقال دعوة إلى الالتفات نحو علم الأصوات* الذي يقف جنبًا إلى جنب مع المهارات اللغويّة الأخرى، ليوفِّر بيئة لغويّة خصبة للمعلّم والطالب على حدّ سواء. لذلك، نشير إلى ما تعانيه العربيّة اليوم من مشكلات وتحدّيات تتّصل بتعليم أصواتها، ونبيّن كيفيّة اكتساب الطفل أصوات العربيّة وفق ثلاث مراحل رئيسة، تجب مراعاتها في تعليم العربيّة في المرحلة الابتدائيّة.

 

حال العربيّة وتعليم أصواتها

تمرّ اللغة العربيّة، كما نعلم، بتحدّيات كبيرة، ويواجه معلّموها كذلك العديد من الصعوبات، نظرًا إلى هيمنة اللغات الأجنبيّة، ولا سيّما الإنكليزيّة التي تُعدّ، شئنا أم أبينا، لغة العصر والاختراعات والتواصل بين البشر. بالإضافة إلى ذلك، تتعرّض اللغة العربيّة لإخفاقات ملاحَظَة في العمليّة التعليميّة، وذلك لضعف المنبِّه الذي يؤدّي بدوره إلى ضعف الاستجابة أو ضعف المردود؛ كقلّة الوقت، أو فقر المحتوى، أو غياب الدعم والتعزيز، أو قلّة التمارين والممارسة. أركّز في مقالي على النقطة الأخيرة (قلّة التمارين والممارسة)، والتي تعدّ عمودًا فقريًّا لعلم الأصوات صاحب الاهتمام البسيط عند معلّم اللغة العربيّة، وفي مناهجها ومصادرها التعليميّة التي كان يجب أن تُمكِّن الطالب من معرفة هذا العلم وممارسته وإتقانه، من أجل تحقيق تقدّم في المهارات اللغويّة، ولا سيّما في مرحلة التأسيس.

 

في الأمس القريب، كان يتقن تعليم أصوات العربيّة أشخاص بسطاء، لا يحملون شهادات علميّة وليسوا عربًا في بعض الأحيان، مثل محفّظي القرآن، أو معلّمي القاعدة النورانيّة أو البغداديّة التي تركِّز كثيرًا على علم الأصوات، حيث يتمكّن الطالب من القراءة والكتابة والاستماع والتحدّث باحترافيّة بمجالسته أقرانه، بعيدًا عن استراتيجيّات التعليم المختلفة، وأنشطة التعلّم بكل أطيافها. لا أدعو هنا إلى العودة إلى الكتاتيب أو التعليم التقليديّ، بل أطرح سؤالًا أبحث فيه عن إجابة واضحة ومحدّدة، إذ قد يكون للارتباط بالدين دور، أو قد يكون لاعتماد تعليم القرآن على الإنشاد واللحن الدور في ذلك، لما فيه من تشويق وإمتاع للطالب.

 

يقودنا ذلك إلى نقطة مهمّة، هي أنّ أصوات الحروف وصفاتها علم مدعوم بمهارة يكتسبها جميع الناس بالرياضة والتدريب. تبدأ مع معلّم اللغة الذي يأخذ بيد الطالب، ويساعده على تجاوز الصعوبات وتخطّي المراحل الابتدائيّة بنجاح. يمكننا تسمية المرحلة التعليميّة الابتدائيّة لاكتساب اللغة، بمرحلة التدريب اللغويّ، وهي المرحلة الأساسيّة في اكتساب اللغة وتعلّمها. في هذه المرحلة، كلّما بذل متعلّم اللغة مجهودًا أو أدّى نشاطًا لغويًّا استُحسِن ذلك منه، ولقي من التشجيع والمعاونة والتوجيه نحو تنمية قدراته اللغويّة ما لقي، مهما أخطأ، أو استصعب النطق الصحيح، أو استشكل عليه الفهم، أو ثقُلَت عليه الكتابة.

 

ينبغي ألّا تتوقّف الأنشطة التعليميّة لاكتساب اللغة وامتلاكها، بل يجب أن تستمرّ مُستنِدة إلى علم الأصوات. لكنّ بحثًا ميدانيًّا أظهر لنا أنّ كثيرًا من معلّمي العربيّة في المرحلة الابتدائيّة لا يعرفون الكثير عن هذا العلم، أي عن مخارج الأصوات وصفاتها، وأنّ مناهج اللغة لا تتطرّق كثيرًا إلى قواعده. نجد الطالب يعاني في تصحيح بعض مخارج الأصوات وصفاتها، لجهله بالكيفيّة التي تساعده على التصحيح، وفي أحيان كثيرة لعدم معرفة معلّمه أصلًا بهذه الكيفيّة.

 

مراحل تعليم أصوات العربيّة

من هذا الواقع، انطلقت الدعوة إلى ضرورة تدريب معلّمي اللغة العربيّة على مخارج الأصوات وصفاتها، وإضافة وحدات تعليميّة تشرح ذلك في مناهج اللغة العربيّة الخاصّة بالمرحلة الابتدائيّة والطفولة المبكرة. الأمر الذي يمكّن الطالب من القدرة على نطق اللغة الفصيح، والتفريق بين الفصحى واللهجة العامّيّة. لتحقيق ذلك لا بدّ من المرور بمراحل ثلاث:

 

المرحلة الأولى

معرفة جهاز النطق عند الإنسان الذي يبدأ من الحلق، مرورًا باللسان والشفاه والخيشوم، والذي يحمل بين طيّاته مخارج الأصوات الفرعيّة بكلّ أنواعها الانفجاريّة والاحتكاكيّة والمُغَنّنة. لكلّ صوت مخرج وصفة تميّز كلّ حرف عن الآخر، وإن اجتمعت بعض الحروف في مخرج واحد، كالميم والباء مثلًا.

Amal1

من أجل تحقيق الفائدة، أقترح أن يتّبع المعلّم الخطوات الآتية في هذه المرحلة:

  • - عرض صورة أو مجسّم لجهاز النطق عند الإنسان، يمكن أخذها من مختبر العلوم. ومن الأفضل أن تكون حصص هذه المرحلة في مختبر العلوم، وليس في الصفّ، من باب التجديد والتكامل بين المواد.
  • - شرح كلّ جزء من جهاز النطق ووظيفته الصوتيّة. الحلق مثلًا، فيه ثلاثة مخارج فرعيّة لستّة حروف، يخرج من أقصى الحلق حرفا الهمزة والهاء، ومن وسط الحلق حرفا العين والحاء، ومن أدنى الحلق حرفا الغين والخاء. تُشرَح طريقة معرفة المخرَج بتسكين الحرف، أي بنطق صوت الحرف ساكنًا، وليس اسمه، فندرِّب الطالب على نطق "غْ" وليس "غين". 
  • - تحديد كلمات فيها حروف حلقيّة ساكنة ومتحرّكة، مع الاستماع الجيّد للحرف المقصود، مثل مغْرب، وغَدير، وغُراب، وغِراس.
  • - يكون المعلّم على دراية بالتداخلات الصوتيّة المحتمَلة لكلّ حرف مع الحروف الأخرى، ويوضح ذلك للطلّاب. في دول الخليج، مثلًا، يخلطون بين صوتَي الغين والقاف، فيقرأ الطالب كلمة "المغْرب" "المقْرب"، لذلك يُوجَّه الطالب إلى المخرج الحلقيّ، وليس اللسانيّ، ليسهل عليه نطق حرف الغين نطقًا صحيحًا، ويفرق بين الصوتين بمعرفته الواضحة والتامّة بالمخرج الصوتيّ، وليس بتصحيح الخطأ وتكرار نطق الحرف أمامه ليقلّده، إذ من السهولة أن يكرّر الطالب الخطأ ذاته من دون أن يدرك.

 

المرحلة الثانية

المحافظة على الجهاز التنفسيّ، والتدرّب على إطالة النفس. وهنا نسأل: مَن مِن معلّمي اللغة العربيّة يهتمّ بصحّة جهازه التنفسيّ ويحرص على تدريب نفسه؟ الإجابة المتوقّعة أنّ هذا الاهتمام يكون عادةً من شأن قارئ القرآن أو المؤذِّن، وحتّى المغنّي. ومثلهم، لا بدّ أن يعتني المعلّم بجهازه التنفسيّ، فيمارس تدريبات من أجل تحسين عمليّة التنفس، مثل نفخ البالون، أو طرق التنفّس العميق التي تسمح بوصول الأوكسجين إلى جميع أجزاء الرئة والدماغ، والتي تنعكس على جودة تدريب الطلّاب على أصوات المخارج وصفاتها، فضلًا عن الفائدة الصحّيّة التي يفيد منها المعلّم. ينتقل هذا التدريب إلى الطلبة كي يقوّى جهازهم التنفسيّ ويُنقَّى، إن لم يكن لديهم مانع صحّيّ، بطريقة علميّة تُدرَج ضمن الوحدات التعليميّة في مادّة اللغة العربيّة.

 

المرحلة الثالثة

هي مرحلة التدريب الصوتيّ والمران. قال ابن الجزريّ في أحد أبيات منظومته الشعريّة، مشيرًا إلى أهمّيّة التدريب والمران:

ليس بينه وبين تَرْكِهِ          إلّا رِياضةُ امْرئٍ بِفَكِّهِ

أي ليس بين التمكّن من مخارج الأصوات وعدمه إلّا الرياضة والمران، والرياضة هنا هي رياضة الفكّ والأسنان.

 

في هذه المرحلة، يمرّ المتدرِّب بمراحل ودرجات تفصيليّة تُمكِّنه من التدريب والمران ليصل إلى الإتقان. المقصود هنا ضرورة المران على المرحلة الأولى والثانية جنبًا إلى جنب، وربط هذا التدريب بمهارات اللغة العربيّة: القراءة والكتابة والاستماع والتحدّث. من الأهمّيّة بمكان في حصّة القراءة مثلًا أن يفهم الطالب المقروء، ويناقش الأفكار الرئيسة والفرعيّة، إلى غير ذلك من متطلّبات حصص القراءة. بالإضافة إلى مناقشة الموضوعات الصوتيّة باختيار بعض الكلمات، ثمّ نطلب إلى الطالب أن يحدّد مخرج الحرف وصفته، بناءً على ما مرّ به من المراحل سابقة الذكر. 

 

* * *

بناءً على ما سبق، نوصي بتأليف وحدات صوتيّة في مناهج اللغة العربيّة في المرحلة الابتدائيّة والطفولة المبكرة. كما نوصي بتدريب معلّمي المرحلة الابتدائيّة والطفولة المبكرة على مخارج أصوات الحروف وصفاتها، والذين يدرّبون بدورهم الطلّاب لتحقيق التعاضد والتكامل بين علم الأصوات ومهارات اللغة العربيّة، إذ إنّ لغتنا ثروة تستحقّ أن نبذل من أجلها. 

أخيرًا، أدعو جميع المؤسّسات التعليميّة المعنيّة بتعليم اللغة العربيّة أن تولي علم الأصوات اهتمامًا أكبر في المراحل الابتدائيّة، وأن تدعمه بتدريب المعلّم والطالب الذي يمكّنه ذلك من تذوّق جمال أصوات الحروف العربيّة وصفاتها المرتبطة بالمعاني والنغم الذي يميّز لغة الضاد.   

 

المراجع

* من المصادر المقترحة للاطّلاع على مجالات علم الاصوات، والتي اعتمدت المقالة عليها:

- بو عناني، مصطفى. (2010). مبادئ التصنيف الفونوتيقي ونماذج التنظير الفونولوجي. عالم الكتب.

- الخولي، محمد. (2011). معجم علم الأصوات. مطابع الفرزدق التجاريّة.

- العبيدي، رشيد. (2007). معجم الصوتيات. جامعة العراق.