تعليم العربيّة لغير الناطقين بها بين الاستراتيجيّات الوجاهيّة والإلكترونيّة
تعليم العربيّة لغير الناطقين بها بين الاستراتيجيّات الوجاهيّة والإلكترونيّة
رولا عزّام | مربية صفّ في مرحلة الطفولة المبكرة- سوريا/قطر

مقدّمة

تعدّ اللغة العربيّة مرآة المجتمع العربيّ وعنصرًا رئيسًا في تشكيل ثقافة الإنسان العربيّ وهويّته، ولمّا كان من الأهمّيّة بمكان أن يُؤسَّس الطفل على ممارسة لغته الأمّ تأسيسًا سليمًا، كان لا بدّ أن تُكَثَّف الجهود كلّها وأن نولّي اهتمامنا شطر تمكين الأجيال القادمة من معرفة لغتهم العربيّة وإتقانها على النحو الأمثل، واستخدام الطرق الصحيحة والمتنوّعة التي تحبّب الطلّاب بلغتهم وتدفعهم إلى الغوص في بحارها المليئة بكنوز المعارف والأدب.

أعرض في هذا المقال تجربتي في مدرسة دوليّة ثنائيّة اللغة، قبل جائحة كورونا وخلالها، في تدريس العربيّة لأطفال غير ناطقين بها، يمكن تعميمها واستخدامها في سياقات وظروف مختلفة.

 

استراتيجيّات وجاهيّة في تعليم العربيّة

بدأنا منذ بداية العام الدراسيّ بالعمل مع الأطفال وجاهيًّا وفق استراتيجيّات مهمّة ومفيدة، مثل التواصل المستمرّ مع أولياء الأمور، وحثّهم على تفعيل القنوات العربيّة للأطفال في المنزل على شاشاتهم الصغيرة، وتشجيع الطفل على التواصل مع أطفال يتحدّثون العربيّة، وذلك في المجمّع السكنيّ أثناء اللعب، أو عند اصطحابه إلى الحديقة مثلًا.

حرصنا على التحدّث مع الطفل في المدرسة باللغة العربيّة الفصحى تحدّثًا مستمرًّا وتفعيل لعبة الكلمات البديلة، كأن نستبدل مفرداته الإنكليزيّة بمفردات عربيّة، بالإضافة إلى حثّه على التعبير عن نفسه وعمّا يريد باللغة العربيّة (أنا أيمن... أريد ماءً... أحتاج قلمًا... إلخ)، وكذلك على الردّ على طلب المعلّمة بإجابات قصيرة، كأن تطلب منه مثلًا: "أغلق الباب لو سمحت"، فيجيب: "حسنًا سأفعل".

جسّدنا الحروف بشخصيّات بسيطة ومُعبِّرة (حرف الفاء فيل، وحرف الجيم جمل، وحرف الشين شرطيّ مرور (في وحدة وسائل النقل مثلًا))، لربط اللغة بالوحدة البحثيّة التي يتعلّمها الطفل، ولتكتمل المعلومات التي يكتسبها، فضلًا عن تفعيل الكلمات البصريّة البسيطة والسهلة وربطها بمحيط الطفل.

ارتكزنا على تعليم مبادئ أساسيّة في اللغة العربيّة (البدء من اليمين إلى اليسار، وترك مسافة أمان بين الكلمات، والكتابة بخطّ معتدل وعلى السطر، إلخ). بالإضافة إلى كيفيّة التعامل مع القصص أثناء القراءة (قراءة العنوان أوّلًا، اسم الكاتب والرسّام، فتح الصفحات باستخدام أصابع اليد بشكل سليم، ومن ثمّ تَتبّع الكلمات أثناء القراءة).

اعتمدنا مبدأ التهجئة في القراءة وضرورة وضع الطفل إصبعه تحت الحرف الذي يقرأه لنتأكّد أنّه يقرأ بالاعتماد على تهجئة صوت الحرف، إذ غالبًا ما يحفظ الأطفال الكلمات حفظًا بصريًّا مع مرور الوقت. 

خصّصنا نشاطًا منذ بداية العام الدراسيّ لقراءة الحروف مسكّنَةً في البداية، ثمّ قراءتها بالحركات القصيرة والطويلة، وصولًا إلى قراءة كلمات ثلاثيّة بسيطة (كلّما قرأتُ حرفًا وانتقلتُ إلى الحرف الذي يليه، أقرأ الحرفين مع بعضهما بعضًا، ثمّ أنتقل إلى الحرف الثالث).

وظّفنا الكتابة المعتمدة على لعبة التصفيق التي تسمح لنا أن نحدّد موقع الحرف (في أوّل الكلمة أم وسطها أم آخرها)، وكتابة شكله تبعًا لموقعه (جمل/ أين جاء حرف الجيم؟ ما شكل الجيم في أوّل الكلمة؟ ماذا عن الصوت الثاني الذي أسمعه؟ الميم متعاطفة في وسط الكلمة وتمدّ يديها لتمسك بالحرف الذي يأتي قبلها والحرف الذي يأتي بعدها، إلخ).

 

استراتيجيّات إلكترونيّة في تعليم العربيّة

عندما فرضت علينا جائحة كورونا الانتقال إلى مرحلة جديدة من التعلّم، تمثّلت في التعليم عن بعد، كان لا بدّ لنا من البحث عن طرق بديلة للاستمرار والمضيّ قدمًا، ما دفعنا إلى خلق نهج تعليميّ افتراضيّ مع البحث عن استراتيجيّات تناسبه.

ممّا لا شكّ فيه أنّ الأطفال الذين لديهم فقر في مخزون اللغة العربيّة كانوا الفئة الأكثر التي واجهت صعوبة في ظلّ هذا النهج التعليميّ الجديد، لأنّ العزلة حرمتهم من صقل مهارات التواصل الاجتماعيّة الخاصّة بهم وتنميتها، والتي تولد بالفطرة من الانخراط في المجتمع انخراطًا واقعيًّا لاكتساب اللغة والمعرفة من التفاصيل الصغيرة التي يعيشها الأطفال أثناء اللعب. من هنا كان السؤال الذي استوقفنا بقوّة: كيف يمكن لهؤلاء الأطفال أن يجاروا أقرانهم؟ وما أفضل الطرق لتحقيق ذلك؟ ليكون الجواب: أفضل الطرق أبسطها في تقديم الدعم الاجتماعيّ والأكاديميّ المناسب لهم، إذ حرصنا في التعلّم عن بعد عامّةً على تزويد أطفالنا بخطّة تعليميّة تتضمن شرح الدروس شرحًا مفصّلًا، بالإضافة إلى توفير المصادر التعليميّة الداعمة لعمليّة التعلّم، من قصص وفيديوهات وأناشيد.

قسّمنا الحصص التعليميّة إلى نوعين، متزامنة وغير متزامنة، تضمّنت الحصص المتزامنة حلقة صباحيّة، تكمن أهمّيّتها في التحدّث مع الأطفال عن مشاعرهم في بداية يومهم، وعن أهمّ النشاطات التي قاموا بها في اليوم السابق، لتنمية مهارة التحدّث وتشجيعهم على التواصل مع بعضهم بعضًا لبضع دقائق قبل البدء بالحصّة، فضلًا عن طرح الأسئلة المفتوحة، بالإضافة إلى تدريس اللغة والرياضيّات تدريسًا متداخلًا وفق الوحدات البحثيّة المقرّرة، ومن ثمّ الانتقال إلى شرح الدرس شرحًا مفصّلًا مع إشراك الطفل في عمليّة التعلّم وهو في منزله، كأن نطلب إليه أن يبحث عن أشياء في المنزل تحتوي على الحرف الذي اكتشفه بنفسه في عمليّة التهيئة، أو أن يسأل أحد أفراد عائلته عن مفهوم المجتمع مثلاً، ومناقشته معهم، أو إحضار ألعابه التي تأخذ أشكال وسائل النقل المختلفة وتصنيفها بحسب نوعها، بغية مشاركتها مع المعلّمة والأصدقاء في الحصّة المتزامنة التي تتعلّق بوحدة البحث، وكذلك استخدام أشياء بسيطة من محيطه في عمليّة العدّ والجمع في الرياضيّات، وغير ذلك.

أمّا الحصص غير المتزامنة، فلا تقلّ أهمّيّة عن المتزامنة، بل كانت امتدادًا لها، إذ كان على الطفل أن ينجز ما أسميناه "مهمّات موجّهة"، وهي نشاطات مختلفة يتمّ إرسالها في خطّة التعلّم، أو عبر منصّة "السي سو"، مثل النشاطات التفاعليّة التي تسهم في تعزيز حرف الأسبوع لتنمية مهارات الطفل المختلفة ما بين رسم أشياء تتضمّن هذا الحرف، وتصنيف كلمات تبعًا لشكل الحرف، ومطابقة الصورة والكلمة التي تناسبها، وتهجئة كلمات بسيطة، وكتابة أسماء صور مختلفة. وكذلك في مادّة الرياضيّات يمكن إرسال نشاط على شكل أحجية مثلًا، ليقوم الطفل بحلّها ولينطلق منها في صياغة مسائل كلاميّة وتمثيلها في ما بعد باستخدام أرقام مناسبة، وغير ذلك من النشاطات التفاعليّة التي كانت تُرسَل في خطّة التعلّم عن بعد بأسلوب بسيط يَسهُل على الطفل فهمه، مع تأكيدنا وجودنا خلف الشاشة للمتابعة والردّ على أيّ سؤال أو استفسار يطرحه الطفل في أيّ وقت.   

الجدير بالذكر أنّنا قمنا، إلى جانب كلّ ما سبق، باستغلال هذه الحصص لدعم الأطفال غير الناطقين بالعربيّة بدعوتهم إلى الانضمام لنا عبر برنامج "زووم" لإعادة شرح الدرس شرحًا مبسّطًا، مع ترجمة المفاهيم الرئيسة فيه للتأكّد من وصول المعلومة وصولًا كاملًا، مع التركيز على المهارات الأساسيّة من قراءة أصوات الحرف المختلفة، القصيرة والطويلة، قراءة صحيحة، ومن ثمّ قراءة كلمات ثلاثيّة بسيطة  تتضمّن الحروف التي تمّ اكتسابها ابتداءً من الحركات الأسهل، وكتابة بسيطة وسهلة، كأن يُطلَب إلى الطفل أن يكتب الحرف مع مدّ الألف، مضيفًا إليه حرفًا آخر، لينتج لديه كلمة يقرأها فيما بعد مثلًا (جَا ...د، جاد) مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة توزيع المهمّات بما يتناسب مع الفروقات الفرديّة للأطفال.

 

توظيف المنصّات التعليميّة لدعم الأطفال

شغلت منصّة "اقرأ بالعربيّة" جانبًا مهمًّا في عمليّة التعليم عن بعد، وقدّمت فائدة كبيرة للأطفال غير الناطقين بالعربيّة، فقد كان يتمّ إرسال مهمّات عبرها بالاستناد إلى القصص الموجودة فيها، حيث يُطلَب إلى الأطفال أن يستمعوا أو يقرؤوا، فيسجّلوا أصواتهم وهم يقرؤون القصّة التي تناسب مستواهم وتنسجم مع المحتوى التعليميّ المُقدَّم لهم، ومن ثمّ يتمّ إرسال التغذية الراجعة إليهم حول القصّة، ويتمّ كذلك تشجيعهم على مواصلة القراءة بتوزيع مستمرّ للشهادات الإلكترونيّة على المتصدّرين منهم في المنصّة، وتسجيل صوت المعلّمة على الشهادة، وذلك في الحلقة الصباحيّة من كلّ أسبوع.

أمّا المنصّة الثانية فهي "سي سو" التفاعليّة، التي كانت تُستخدَم لإرسال جميع الملفّات التي يتمّ استخدامها خلال الحصص مع تسجيل صوتيّ للمعلّمة يلخّص محتوى الدرس، بغية أن يستعين الأهل به للمشاركة في عمليّة دعم هؤلاء الأطفال، وإرسال مهمّات مختلفة مرفقة بصوت المعلّمة وترجمتها ليحلّها الطفل في التطبيق نفسه، وتقوم المعلّمة بإرسال تغذية راجعة وفق تسجيل صوتيّ يشجّع الطفل ويظهر له مواطن القوّة والمواطن التي تحتاج إلى تطوير أو تعديل في عمله.

كانت منصّة "إديونيشن" المنصّة الثالثة التي ارتكز عليها عملنا، إذ تمثّلت أهمّيّتها في التواصل بين المعلّم والأهل للردّ على أيّ استفسار وتوضيح، ولرصد تطوّر الطفل وفق تقارير بسيطة ويوميّة، إذا احتاج الأمر ذلك.

رغم أهمّيّة هذه المنصّات الإلكترونيّة، فقد انصبّت توصيّاتنا المستمرّة أيضًا على أهمّيّة الكتاب باعتباره خير صديق يلجأ إليه الطفل بما يناسب عمره ومستواه، لكسر حاجز اللغة لما يقدّمه الكتاب من إثراء مخزون الطفل اللغويّ والمعرفيّ، والذي يُسهِّل فيما بعد تواصله مع محيطه.

 

خاتمة

في النهاية، نجد أنّ هذه الاستراتيجيّات، الوجاهيّة والإلكترونيّة، أسهمت في تطوير اللغة العربيّة لدى الأطفال غير الناطقين بها، دون أن تؤّثر فترة التعليم عن بعد في عمليّة تعلّمها. ولا زلنا نطمح إلى مواكبة كلّ جديد وكلّ ما من شأنه أن يطوّر من أداء الطلبة ويمكّنهم من تسلّم الصدارة أينما وجدوا، في مختلف الأصعدة.