المعلّم الرياديّ يتعلّم مدى الحياة
المعلّم الرياديّ يتعلّم مدى الحياة
علي عز الدين | مستشار ومدرب تربوي-لبنان

أصبح التدريب المهنيّ بعد التخرّج جزءًا لا يتجزّأ من حياتنا اليوميّة. الطبيب والمهندس والفنّان والرياضيّ والمصمّم، كلّهم بحاجة إلى تدريب مهاراتهم وصقلها، لمتابعة كلّ جديد يتعلّق بمهنتهم. ينطبق هذا على المعلّمين أيضًا، المبتدئين والخبراء، لأنّ مهارات التعلّم الذاتيّ في يومنا هذا تُعتبر من أهمّ المهارات. وعلى المستوى الشخصيّ، ورغم كلّ التدريبات التي خضعت لها، كنتُ دائمًا أحدّد هدفًا شخصيًّا لأقوم بتحقيقه بقراءة كتاب، أو متابعة محاضرة مجّانيّة، أو السفر لمتابعة مؤتمر يواكب أحدث التطوّرات في عالم التكنولوجيا التربويّ، أو ما يتعلّق بأحدث أبحاث الدماغ...

نركِّز في هذا المقال على أنواع التدريب المهنيّ وأهمّيّته، والذي يرافق المعلّمين في مسيرتهم. قد يسأل بعضنا: لماذا التدريب المهنيّ المستمرّ؟ الإجابة بسيطة، التدريب جزء من التعلّم، والتعلّم ليس مرحلة عابرة، بل يجب أن يكون مدى الحياة، إذ قد يفصلنا غيابه عن تطوّرات مهنتنا، ويحوّلنا إلى معلّمين تقليديّين.

 

أنواع التدريب المهنيّ المستمرّ

 

تدريب مهنيّ قصير

يكون عن موضوع معيّن أو لتطوير مهارة معنيّة. تقرّر إدارة المدرسة مثلًا الاعتماد على اللوح الذكيّ داخل الصفوف، أو استخدام نظام إدارة التعلّم "Learning Management System"، فتلجأ إلى هذا التدريب في بداية العام، للتأكّد من أنّ جميع المعلّمين يستطيعون استخدام تلك الأجهزة أو البرامج.  

تدريب أفراد الهيئة التعليميّة جميعهم

تُختار موضوعات محدّدة للتطوير، مثل التعلّم بالتساؤل، أو التقييم، أو التعلّم المتمايز. تشكّل هذه الورشات فرصة أمام المعلّمين لبناء لغة مشتركة، والعمل جميعًا على تحقيق الأهداف التي قد تكون ضمن خطّة عمل، تحضيرًا لزيارة الوزارة أو المنظّمات الدوليّة لتقييم المدرسة. تُتَابَع هذه الورشات وفق زيارة صفّيّة وعمل مستمرّ مع المدرّب أو المنسّقين، للتأكّد من أنّ فريق العمل أجرى التطبيق. بعد مرور فترة زمنيّة، يجتمع الجميع لمراجعة البيانات وتعديل الخطط ودراسة أثر التدريب في عمليّة التعلّم والتعليم. 

تدريب مكثّف خارج جدران المدرسة، أو في مؤتمر عالميّ

تساعد هذه التدريبات على الاطّلاع على المستجدّات التربويّة، وبناء شبكة من العلاقات خارج حدود البلد والمدرسة. تشكّل هذه المؤتمرات فرصة للإلهام والاطّلاع على أحدث الموضوعات التربويّة التي يقدّمها متحدّثون عالميّون.

تدريب فرديّ لكلّ معلّم

يُتّفق عليه بين المعلّم والإدارة، استنادًا الى الزيارات الصفّيّة التي حصلت خلال العام، والتي أظهرت ما يجب على المعلّم أن يطوّره من مهارات ومعارف. ظهر هذا النوع من التدريبات في الآونة الأخيرة على عدّة منصّات تقدِّم هذا التدريب الفرديّ افتراضيًّا، وبمتابعة مدرِّب مختصّ. قد يشمل هذا التدريب أيضًا زيارات صفّيّة بين المعلّمين لاكتساب مهارات محدّدة جدًّا، كالإدارة الصفّيّة، أو كيفيّة تقديم التغذية الراجعة، أو استخدام تطبيق إلكترونيّ معيّن.  

تدريبات تتعلّق ببناء الفريق

تشكّل هذه التدريبات فرصة لبناء الثقة وتأسيس فريق عمل متجانس، ولا سيّما في المدارس التي فيها معلّمون من جنسيّات مختلفة. تساعد هذه التدريبات أيضًا على التعرّف إلى ثقافة الآخر، وتنشئ بيئة عمل خالية من الضغوطات والمشكلات اليوميّة التي قد تحدث بسبب اختلاف العادات ووجهات النظر.  

 

وجوه متعدّدة للتدريب المهنيّ المستمرّ

نسلّط الضوء هنا على بعض المفردات المفاهيميّة التي ترافق التدريب المهنيّ المستمرّ، كأن يكون اختياريًا أو إلزاميًّا، في مدرسة حكوميّة أو خاصّة، مجانيًّا أو مدفوعًا.

حين بدأتُ التدريب قبل عشرين سنة، لم يكن التدريب في متناول الجميع. أمّا في يومنا هذا، وبوجود هذا الكمّ الهائل من الدورات التدريبيّة المجانيّة، لم يعد مقبولًا أن تُلزِم الإدارة المعلّم بحضور التدريب، ولم تعد الحجج المتعلّقة بكلفة التدريب المهنيّ مقنعة. على أيّ معلّم أن يخصِّص جزءًا من وقته أسبوعيًّا لقراءة مقال، أو مشاهدة ندوة، أو استماع إلى نصّ صوتيّ. كما لم تعد التفرقة بين المدارس الخاصّة والحكوميّة تنفع، حيث ينبع الالتزام بالتدريب المهنيّ من الذات، ويكون له أثر أكبر حين نبحث عنه، وحين نعرف أن لا مفرّ منه، إذ يساعدنا على تقديم الأفضل إلى طلّابنا. كم جميل أن يدخل المعلّم الصفّ ويشارك طلّابه فكرة جديدة تعلّمها في ورشة تدريبيّة أو مقطع مصوَّر شاهده ولفت انتباهه. ألا نردّد دومًا أنّنا قدوة طلّابنا؟ تعيننا هذه المشاركات في الورشات التدريبيّة على تحقيق ذلك، وعلى زرع حبّ التعلّم والفضول والاستكشاف في نفوس طلّابنا.

لا أعرف كم معلّم اطّلع حديثًا على "ChatGPT"، هذه المنصّة التي تؤثِّر في كلّ ما نقوم به داخل المدرسة. نحن نقترب بخطى سريعة نحو عالم يسيطر عليه الإنسان الآليّ والذكاء الاصطناعيّ. لذا، علينا أن نطرح الأسئلة الآتية باستمرار:  

1. هل ستختفي المدرسة؟  
2. هل ستصبح مهنة المعلّم من الماضي؟  
3. ما دور المعلّم في عصر الذكاء الصناعيّ والرجل الآليّ؟  
4. كيف نواكب هذه التطوّرات كلّها ونتأقلم معها؟  
5. إلامَ يحتاج طلّابنا في المستقبل؟  

تجعلنا هذه الأسئلة مفكّرين نبحث عن كلّ جديد، ومصمِّمي مناهج تواكب العصر، وثوّارًا نرفض المناهج المعلَّبة التي مضى عليها الزمن. هذه الأسئلة قد تشكّل ورشة عمل مهمّة لتحديد رؤية المدرسة وشكلها، وكيف ستواكب أجيال الغد؟

 

التدريب المهنيّ المستمرّ ودور القائد 

في يومنا هذا، لم يعد دور القائد مقتصرًا على إرسال المعلّمين إلى ورشات تدريبيّة، أو تحديد موضوعات التدريب، أو تقديم التدريب، أو العمل على ميزانيّته، بل تعدّى ذلك إلى إشراك المعلّمين باختيار التدريب المناسب لهم. يستمع القائد إلى احتياجات المعلّمين، ويفتح الباب أمام الطلّاب وأولياء الأمور للمشاركة في وضع خطط التدريب وتبادل الخبرات، ويحوّل المدرسة إلى مركز تدريبيّ يتعلّم فيه الجميع.

كنتُ أقدّم ورشة عمل حديثًا، وقالت لي إحدى المعلّمات أنّها تعلّمت كيف تستخدم منصّة "ChatGPT" من ابنها في الصفّ الحادي عشر. كم هي فرصة رائعة لو دعا مدير المدرسة هذا الطالب إلى تقديم ورشة إلى جميع المعلّمين عن هذه المنصّة، وتلت هذه الورشة جلسة تأمّل في كيفيّة استخدامها، وفي مخاطرها والفرص التي ستقدّمها... القائد التربويّ هو أوّل متعلّم ينشر ثقافة التعلّم بين الجميع ويشجّعها، ويدعمها ويسلّط الضوء عليها. نكرِّر دائمًا أنّ التعلّم المتمايز أساس داخل الفصل الدراسيّ، ويجب ألّا ننسى أنّه أساس أيضًا حين نقدِّم تدريبًا للمعلّمين. فالمعلّم الجديد والمعلّم ذو الخبرة لديهما احتياجات مختلفة، وعلى القائد أخذها بعين الاعتبار حين يضع خطط التطوير المهنيّ.   

 

من التدريب المهنيّ إلى مجتمعات الممارسين

قد يكون الانتقال من التدريب الفرديّ المستمرّ إلى التدريب ضمن مجموعات صغيرة تهتمّ بالموضوعات ذاتها، وإنشاء مجتمع من الممارسين، فرصة للتأكّد من أنّ التعلّم في الورشة سيُنقَل إلى غرفة الصفّ، وسيدعم المعلّمون بعضهم بعضًا، وستتحوّل حواراتهم إلى حوارات مهنيّة. بذلك، ينتقل المعلّم من مرحلة نقل المعرفة إلى مرحلة تصميم المناهج، حيث يصبح معلّمًا ذا تفكير ناقد وإبداعيّ، وقادرًا على تصميم الأفكار وتخطيط مناهج جديدة. يبدأ التغيير داخل المدرسة بقائد لديه قدرة على إشراك الجميع في اتّخاذ القرارات، ويحوّل مدرسته إلى مساحة يصبح فيها التأمّل من صلب عمليّة التعلّم والتعليم، وتصبح فيها عمليّة التعلّم بأهمّيّة المنتَج ذاته.

 

* * *

أختم هذا المقال بفكرة التشبيك المدرسيّ والتعاون بين المدارس، من أجل تقديم تدريبات مشتركة إلى المعلّمين، وفتح أبواب الصفوف لزيارات صفّيّة بين المدارس، في سبيل عقد مؤتمرات من معلّم إلى معلّمين. المعلّم الذي نجح بتطبيق فكرة يستطيع أن ينقلها سريعًا إلى جميع المعلّمين، مثل الطالب الذي يستطيع أن يشرح لزميله مفهومًا صعبًا بأسلوبه وكلماته. كلّنا نكرِّر أنّ تعليم الأقران جزء أساس في عمليّة التعلّم، فهيّا بنا نعمِّم هذه التجربة بين المعلّمين ونشجّعها، إذ من الممكن أن تصبح عادةً يوميّة في المدرسة، وتكون بكلفة مقبولة جدًّا في ظلّ كلّ التحدّيات الاقتصاديّة التي تواجهها البلدان العربيّة.