الصراع داخل الصفّ
الصراع داخل الصفّ
محمد أزلحاض | أستاذ الفرنسية ثانوي- المغرب

قد يُنظر إلى الصراعات بوصفها اختلالات علينا تلافيها، أو قمعها حتّى لا تضرّ بالمنظومة التي تحتويها، سواءً إن كانت مؤسّسةً، أو مدرسةً، أو غرفةً صفّيّةً، أو ما شابه. الصراعات تحدث بسبب دوافع غير متوافقة (Galisson & Coste, 1988). وقد لا يكون للصراعات هذه الدلالة السلبيّة بالضرورة، بل وقد ينظر إليها على أنّها مظاهر إيجابيّة تمثّل اهتمامات أعضاء المنظومة.

في الغرفة الصفّيّة، تساهم الصراعات، معرفيّةً كانت أو علائقيّةً، في تغيير تمثّلات المتعلّمين، وتطوير تعلّمهم. يَعُدّ النهجُ البنائيّ مفهوم الصراع المعرفيّ شرطًا أساسيًّا لبناء المعرفة، إذ إنّه يعمل على تدمير تمثّلات المتعلّمين وإعادة بنائها، كما يسمح بتطوير أنماط معرفيّة جديدة. يهدف هذا المقال إلى توضيح مفهوم الصراع العلائقيّ داخل الصفّ الدراسيّ بوصفه عاملًا من عوامل التفاعل، والتواصل بين مختلف عناصر هذا الصفّ. نظرًا لضرورة فهم المعلّم لهذه التفاعلات من أجل التعامل معها، سأعرض بعض المفاهيم التي ترتبط بالصراع، ثمّ أخلص إلى أنواعه.

 

مفاهيم مرتبطة

العنف: يعتقد Debarbieux (1993)، أنّ العنف مصطلح ذو معنى عامّ واسع يمكنك تضمينه أيّ شيء، ليصبح في نهاية المطاف كلمةً ليس لها معنًى محدّد. ويمكن تعريف العنف بكونه ردّة فعل مدمّرةً على سلوك معيّن. ردّة الفعل هذه تستنزف طاقة الفرد الذي يلجأ إليها. علاوةً على ذلك، إنّ جذور كلمة "عنف " تعود إلى مفهوم "الاستدلال بالقوّة"، وهو عكس العقلانيّة، ويمكن أن نستحضر هنا حالة المتعلّم الذي يهين زميله، أو يضربه، أو يهين من يؤدّي مهمّة تعليمه لفظيًّا، أو فعليًّا.

العدوانيّة: إنّ العدوانيّة سمة فرديّة تسمح للمتعلّم أن يأخذ مكانه داخل صراع ما. ووفقًا لكلّ من Laplanche & Pontalis (2007)، فإنّ العدوانيّة هي اتّجاه، أو مجموعة اتّجاهات سلوكيّة تهدف إلى إيذاء الآخرين، أو تدميرهم، أو إذلالهم، أو إجبارهم على ما لا يريدونه. هذا هو الحال لدى المتعلّم الذي يرفض القيام بعمله، أو الذي يستجيب بصورة غير لائقة لمدرّسه، أو المتعلّم الذي يتغيّب عن حصصه.

السلوكيّات غير المتحضّرة: يعرّف Debarbieux (1993)، السلوكيّات غير المتحضّرة بكونها أيّ من الأشياء مهما بدت صغيرةً ما دامت تفسد سير الأمور داخل المؤسّسة. إنّها مجموعة من السلوكيّات تخرق القوانين والضوابط (مثل القانون الداخليّ للمدرسة، أو أعراف الصفّ الدراسيّ). وهي دليل على عدم الارتياح من جانب المتعلّم. إنّها رسالة تحذير؛ إذ إنّ المتعلّم يكون على وشك التحوّل إلى ما هو محظور، وما هو خارج عن القانون. يجب أن يكون المدرّس قادرًا على فكّ شفرة هذه الإشارات. السلوكيّات غير المتحضّرة تمنع التعلّم، ويكون سوء تدبيرها مدمّرًا، فقد يصل للعنف. هذا هو الحال لدى المتعلّمين الذين ينامون في الصفّ، أو يفعلون شيئًا آخر في أثناء الدرس، أو يتثاءبون، أو يتنهّدون للتعبير عن الملل. ولتجنّب أيّ انفلات، يجب أن يتعرّف المدرّس بوادر هذه السلوكيّات من أجل تمييز كلًّ منها عن غيره، ما يسمح له أن يعالج الصراعات بصورة أفضل.

 

أنواع الصراع

ميّز Brunet et al. (1991)، بين أنواع الصراعات الآتية التي يمكن ربطها بالصفّ الدراسيّ:

 

- تضارب المصالح

يحدث هذا النوع من الصراع عندما يطمع شخصان في الشيء نفسه، أو عندما يسعى الشخص نفسه إلى تحقيق هدفين متعارضين. في صفّ تدريس اللغة مثلًا، ينطبق هذا على المتعلّم والمدرّس اللذين من المفترض أن يكون لهما الهدف نفسه. ومع ذلك، فإنّ إرادة المدرّس ليست دائمًا مطابقةً لإرادة المتعلّم، وقد يكون كلّ ما يريده المتعلّم الحصول على درجة جيّدة دون قلق بشأن اكتساب مهارات الاتّصال في اللغة المراد تعلّمها. والتضارب الناجم عن سعي الشخص نفسه إلى تحقيق هدفين متعارضين ينطبق على المتعلّم الذي يعيش صراعًا داخليًّا بين تمثّلاته، والمعارف الجديدة التي يريد اكتسابها. هذا راجع الى أنّ التمثّلات أو التصوّرات هي ما يشكّل مقاومةً لكلّ ما هو جديد.

 

- تضارب الأدوار

يحدث هذا النوع من الصراعات عندما يضطلع شخصان أو أكثر بأدوار يرونها غير متكاملة، وعندما يشعر الشخص بأنّه يؤدّي دورين يصعب عليه التوفيق بينهما. ويمكن أن نميّز خمسة أنواع من الأدوار: الدور المفضّل (الدور الذي نريده)، والدور المتصوّر (الذي نتخيّله)، والدور الفعليّ (الذي نقوم به فعلًا)، والدور المحدّد (المهمّات المسندة إلينا)، والدور المتوقّع (الذي يجب القيام به) .(Brunet et al., 1991)مع ذلك، ينشأ الصراع عندما يواجه الشخص عددًا من الحالات، ولا يكون قادرًا على مواجهتها جميعها. لذلك، يأخذ الصراع شكل عدم التوافق بين دورين كالدور المتصوّر، والدور الفعليّ. على سبيل المثال، الدور المتصوّر للمدرّس داخل الفصل هو الوساطة بين المتعلّمين والمعارف، إذ يساعدهم على التمكّن من المهارات بفضل استراتيجيّات التعلّم، إلّا أنّ الدور الفعليّ الذي يلعبه داخل الصفّ أوسع من ذلك بكثير. فهو مربٍّ، ومؤطّر، ومصلح اجتماعيّ، وطبيب نفسيّ، وفي بعض الأحيان هو من يزوّد المتعلّمين المحتاجين بالكراريس، والمناهج، وأحيانًا الملابس.

 

- صراع الشخصيّة

عندما يتضمّن الصراع نظرةً سلبيّةً نحو شخص يوصف بأنّه مصدر للصراع، يمكننا آنذاك أن نتحدّث عن صراع الشخصيّة. في صفّ تعلّم اللغة مثلًا، كما هو الحال في أيّ منظومة، يحدث أن يلقي المتعلّمون والمدرّسون باللوم على بعضهم بعضًا حول حالة الصراع التي تشهدها الفصول الدراسيّة، يشعر المدرّسون أنّ المتعلّمين لا يجتهدون بما فيه الكفاية في أداء مهمّاتهم، وأنّهم غير مهتمّين باللغة، أو بالمعارف المدرّسة. أمّا المتعلّمون، فينتقدون المدرّسين لعدم مراعاتهم خصائصَهم الفرديّة، ولتعاملهم مع الصفّ كأنّه كلٌّ متجانس، كما يرون أنّ المطلوب منهم أكثر ممّا يمكن أن يُعطى لهم. وتحت ضغط البرامج الدراسيّة التي يجب إتمامها، يتجاهل المدرّس الصعوبات التي يواجهها المتعلّمون، فينتج ذلك عدم الاكتراث من طرفهم.

 

داخل الصفّ، يوجد ثلاثة أطراف للصراع، هي: المتعلّمون، والمدرّسون، والمعرفة. ويحدث بينها ثلاثة أنواع من الصراع:

 

- صراع بين المتعلّمين أنفسهم

يحدث هذا النوع من الصراع بصورة رئيسة على مستوى التعلّم الأساسيّ. وهذا راجع إلى ما تتوقّعه المدرسة من المتعلّم، وهو يؤثّر في التفاعلات بين الأقران. وغالبًا لا يكون الصراع بين المتعلّمين مستقلًّا عن الصراع بين المتعلّم والمدرّس.

 

- صراع بين المتعلّم والمدرس

إنّه صراع الأدوار. كلّ مشارك في هذا التفاعل التعلّميّ يريد من الآخر أن يلعب دورًا معيّنًا: المدرّس يريد من المتعلّم أن يلعب دوره. يرفض المتعلّم الدور المؤسّسيّ للمدرّس، الذي هو تعليم المعارف؛ لأنّه يرغب في أن تأخذ علاقاتهما بعدًا شخصيًّا، كأن يريد المتعلّم وضع علاقته مع مدرّسه في سياق تواصل طبيعيّ، كالذي هو عليه مع البالغين الآخرين داخل أسرته أو في الشارع، أي إنّ المتعلّم يرغب في التحدّث إلى المدرّس بوصفه شخصًا، لا ضمن صفته الوظيفيّة. وهو أيضًا صراع بين الأهداف. عندما تكون الأهداف واضحةً دقيقةً، فإنّها تمكّننا من تجنّب تضارب الرؤية بين المدرّس والمتعلّم. أمّا مع غياب الأهداف، فتكون الرؤية غير واضحة لدى المتعلّم بخصوص ما يريد المدرّس تحقيقه.

 

- صراع بين المتعلّم والمعرفة

علاقة المتعلّم بالمعرفة يشوبها شيء من الغموض، لأنّها تعدّ مصدرًا للمتعة، ورمزًا للطمأنينة خصوصًا لدى المتعلّم الذي يكون في مأمن من ملاحظات المدرّس بفضل إلمامه بالمعارف المدرّسة الذي يشعره بالقوّة، واحترام الذات، هذا من ناحية. من ناحية أخرى، فإنّ العلاقة بالمعارف تؤثّر سلبًا في جوّ الصفّ، وفي تماسك المجموعة. ينتج عن هذا صراع قد يؤدّي إلى نفق مسدود؛ إذ إنّ المتعلّم لا يرى معنى التعلّم أو الفائدة منه. يمكن أن ينظر إلى التعلّم بكونه تكرارًا لما شوهد من قبل، وقد يرى الطالب المحتوى الذي يتعلّمه معارضًا لقيمه. ولمواجهة هذا النوع من الانغلاق، يلجأ بعض المدرّسين إلى السلطة لإرغام المتعلّمين على العمل من خلال التهديد والعقاب، وحتّى لو قبلنا فكرة العقوبة، فإنّها لكي تكون فعّالةً يجب أن يعي المتعلّم الهدف منها، إذ إنّ المتعلّمين في معظم الحالات لا يفهمون لماذا يفرض المدرّس عليهم عقوبةً معيّنة. لذلك، فاللّامبالاة في هذه العلاقة تعدّ بمثابة ردّة فعل على عدم فهمهم.

 

في النهاية، يمكننا أن نرى الطابع المعقّد للصراعات، وظهورها داخل الفصل الدراسيّ. الصراع موجود، سواءً أكان ضمنيًّا أو صريحًا، وعلى المعلّم أن يكون على دراية تامّة بكلّ هذه المفاهيم، قادرًا على التمييز بينها، ليكون تدخّله إيجابيًّا.

 

 

المراجع:

  • Brunet, L., Dupont, P. & Lambotte, X. (1991). Satisfaction des enseignants ? Labor.
  • Debarbieux, E. (1993). La violence dans la classe. PUF.
  • Galisson, R. & Coste, D. (1988). Dictionnaire De Didactique Des Langues. Hachette.
  • Laplanche, J. & Pontalis, J. (2007). Vocabulaire de la psychanalyse. Broché.