الحكاية في التعليم الأوّليّ: من مهارة الاستماع إلى مهارة التحدّث
الحكاية في التعليم الأوّليّ: من مهارة الاستماع إلى مهارة التحدّث
يوسف وزّول | باحث بسلك الدكتوراه - المغرب

مليكة رفيق | أستاذة مؤهّلة في المدرسة العليا للأساتذة - المغرب

سعيدة تاقي | أستاذة مؤهّلة في المدرسة العليا للأساتذة - المغرب

 

 يعكس المتحدِّث في حديثه اللغةَ التي استمع إليها في البيت والبيئة. في المقابل، يؤثِّر أداء المتحدِّث ولهجته في المستمع، ويدفعه إلى محاكاتها. كما تُكتسَب الدقّة في المحادثة بالاستماع الدقيق إلى المتحدِّث، إذ يساعد نموّ مهارات الاستماع على الانطلاق في الحديث. فالاستماع أساس التعلّم اللفظيّ في سنوات الدراسة الأولى، حيث يتعلّم الضعيف في القراءة من الاستماع أكثر ممّا يتعلّم من القراءة، إذ القدرة على التمييز السمعيّ مرتبطة بالقراءة، فإذا كانت عالية تقدّم الناشئ في القراءة، وإذا كانت منخفضة تراجع مستواه في القراءة. بالإضافة إلى ذلك، تساعد الدقّة في الاستماع على تحصيل الأفكار الرئيسة وتذكّرها في ما بعد، ويتذكّر الطلّاب في مراحلهم الأولى ما يستمعون إليه أكثر ممّا يقرؤونه (السيّد، 1996).

وعليه، يرمي الإطار المنهاجيّ للتعليم الأوّليّ - الابتدائيّ، وفق ما يرى بوزفور (2015)، إلى تهيئة الطفل لاكتساب أدوات التعبير والتواصل والتمرّن على مهارتَي الاستقبال (القراءة والاستماع)، ومهارتي الإنتاج (الكتابة والتحدّث). ولتحقيق هذه المهارات، اقترح الدليل البيداغوجيّ للتعليم الابتدائيّ الحكاية منطلقًا لتدبير الأنشطة الخاصّة بالمجال التعلّميّ الثالث: "التعبير اللغويّ والتواصل" (وزارة التربية الوطنيّة والتعليم العالي والبحث العلميّ، 2020). من هنا، يحقّ لنا أن نسأل عن جدوى اعتماد الحكاية اختيارًا بيداغوجيًّا، وعن مدى إسهامها في إكساب الطفل مهارتي الاستماع والتحدّث. وهو ما نحاول تبيانه في هذا المقال، انطلاقًا من ثلاث فرضيّات:

1. لا تراعي الحكايات المقترَحة في المجموعة التربويّة المدروسة الخصوصيّات الثقافيّة والنمائيّة، وتفتقد إلى العناصر المشوِّقة للأطفال، ممّا يؤثِّر في تنمية مهارتي الاستماع والتحدّث. 

2. يمكن للطفل الاستماع الجيّد إلى الحكاية إذا قُدِّمت بطرق ديدكتيكيّة تراعي خصوصيّته في هذه المرحلة العمريّة. 

3. يوظِّف الطفل كلمات معدودة من الحكاية، من دون القدرة على الربط بينها لصياغة جمل شفويّة.

 

الدراسة الميدانيّة ونتائج الاستبانة

تشكّلت عيّنة الدراسة من المربيّات والمربّين العاملين في مديريّة بني ملال، فوزِّعت الاستبانة داخل المجموعات الخاصّة بالتعليم الابتدائيّ، عبر تطبيق "الواتساب"، والتي شملت ستين مربّيّة ومربّيًا.

 

السؤال الأوّل: هل توفِّر جوًّا صفّيًّا يشوِّق الأطفال ويحفِّزهم على الاستماع؟ 

نسعى بهذا السؤال إلى تبيان مدى وعي عيّنة الدراسة بأهمّيّة توفير أجواء مساعدة على تلقّي الحكاية والاستماع إليها بشوق. أبانت الإجابات المُحصَّلة عن نسبة 80.3% من المربيّات والمربّين ممّن يهيّئون أجواءً تحفِّز الأطفال على الاستماع، في حين بدا أنّ نسبة %19.7 منهم يوفّرون أجواء مشوِّقة للاستماع كلّما سمحت لهم الظروف بذلك.  

السؤال الثاني: هل تلائم الحكايات المقترَحة مستوى الأطفال النمائيّ والمعرفيّ؟ 

طرحنا هذا السؤال لاستجلاء مدى ملاءمة الحكايات المقرَّرة في المجموعة التربويّة لمستوى الأطفال النمائيّ والمعرفيّ. أظهرت النتائج أنّ نسبة 70.5% من المستجوَبين يجدونها ملائمة مستوى الأطفال النمائيّ والمعرفيّ، بينما ذهب %29.5 منهم إلى اعتبار الحكايات المقترَحة غير ملائمة البتّة.

السؤال الثالث: هل تؤثِّر الأسناد المصاحبة (صور، فيديوهات، موسيقى) في مهارة الاستماع؟

Picture1

 

نتوخّى من هذا السؤال تبيان رأي المستجوَبين في مدى تأثير الأسناد المصاحبة في مهارة الاستماع. تكشف المعطيات المُحصَّلة من الإجابات أنّ 67.2% من العيّنة تقرّ بتأثير الأسناد المصاحبة في الاستماع، في حين تنفي 18% منها التأثير، وهناك 14.2% يرون الدعامات الملازمة للحكاية مؤثِّرة في مهارة الاستماع.  للتأكّد من هذه النسب، طرحنا على المستجوَبين سؤالًا يرتبط بالاستراتيجيّة التي يعتمدها المربّون والمربّيات أثناء تقديم الحكاية، فجاءت الإجابات على النحو الآتي:  

انطلاقًا من هذا الرسم البيانيّ، يتّضح أن نسبة 10% من المربّيات والمربّين يكتفون بالإلقاء الشفويّ للحكاية، بينما يجتهد 41% منهم في تنغيم الصوت بحسب ما تقتضيه الأحداث وأحوال الشخصيّات، ويلجأ 31% منهم إلى الاستعانة بأسناد بصريّة (فيديوهات وصور)، في حين يستعين 18% من العيّنة بأسناد صوتيّة تساعد الأطفال على الانتباه أثناء الشروع في تقديم الحكاية.  

السؤال الرابع: هل يمتلك الطفل القدرة على إنتاج جملة تتضمّن كلمة أو كلمتين واردتين في الحكاية؟ 

يهدف هذا السؤال إلى معرفة مدى قدرة الطفل على إنتاج جمل تتضمّن كلمة أو كلمتين واردتين في الحكاية، وقد كشفت الإجابات عن غلبة الفئة التي أقرّت بقدرة الطفل على إنتاج جمل تتألّف من كلمات مسموعة، بلغت نسبة هذه الفئة 70.5 %، وتلتها الفئة التي شهدت هذا الأمر في بعض الأحيان ونسبتها %24.6، أمّا الفئة الثالثة فبلغت نسبتها 4.9%، وهي الفئة التي تقرّ بعجز الطفل عن توظيف كلمة أو كلمتين واردتين في الحكاية. 

السؤال الخامس: هل يمكن للطفل إجراء حوار لغويّ بسيط مع زملائه أثناء لعب الأدوار؟ 

كشفت المعطيات المُحصَّلة أنّ نسبة 57.4% يقرّون بقدرة الأطفال على التحاور باللغة العربيّة أثناء لعب الأدوار، في حين ترى نسبة 34.4% أنّ الطفل لا يقدر على إجراء حوار أثناء لعب الأدوار، أمّا النسبة الباقية، 8.2%، فيعتقدون بقدرة الطفل على ذلك في بعض الأحيان. 

 

تمحيص الفرضيّات واستخلاص النتائج

نعود هنا إلى الفرضيّات التي انطلقنا منها لتمحيصها والتأكّد من مدى صحّتها أو خطئها، وفق النتائج المُحصَّلة في تحليل البيانات والأدوات البحثيّة.

الفرضيّة الأولى

لا تراعي الحكايات المقترَحة في المجموعة التربويّة المدروسة الخصوصيّات الثقافيّة والنمائيّة، وتفتقد إلى العناصر المشوِّقة للأطفال، ممّا يؤثِّر في تنمية مهارتي الاستماع والتحدّث. 

يقتضي تمحيص هذه الفرضيّة العودة إلى الاستبانة الموجَّهة إلى معلّمي مرحلة ما قبل المدرسة. خلصنا بهذه الأداة إلى تأكيد الفرضيّة، إذ تبيّن لنا أنّ الحكايات موجَّهة إلى فئة من الأطفال، ولا تراعي التنوّع الثقافيّ للطفل المغربيّ، رغم انسجامها والمشاريع الموضوعاتيّة ومحاولة تبسيطها، مراعاةً لمستوى الطفل النمائيّ والمعرفيّ، إلّا أنّها افتقدت عنصر التشويق لعدم استنادها إلى خطاطة سرديّة قائمة على الترتيب الآتيّ: بداية - عقدة - نهاية. من هنا، أظهرت نتائج الاستبانة أنّ نسبة 13% من عيّنة الدراسة وجدت الحكايات المقترَحة في المجموعات التربويّة التي يعملون فيها، لا تناسب مستوى الأطفال النمائيّ والمعرفيّ.

الفرضية الثانية

يمكن للطفل الاستماع الجيّد إلى الحكاية إذا قُدِّمت بطرق ديدكتيكيّة تراعي خصوصيّته في هذه المرحلة العمريّة. 

اقتضى التأكّد من هذه الفرضية الاستعانة بمجموعة من الأدوات البحثيّة. وبالرجوع إلى إجابات بعض أسئلة الاستبانة، ظهر لنا أنّ مهارة الاستماع تتحقّق باستخدام الحكاية، وأنّ هذه المهارة تنمو لدى الأطفال كلّما كانت الحكاية مشوِّقة وقريبة من اهتماماتهم وثقافتهم المحلّيّة، وكلّما توفّرت الوسائل الديدكتيكيّة المساعِدة: عرض الحكاية باستخدام الفيديو، أو القراءة المشخِّصة لأدوار الشخصيّات، أو غير ذلك من الوسائل والاستراتيجيّات التي تشدّ انتباه الطفل وتحفِّزه على الاستماع والتركيز مع الحكاية وأحداثها وشخصيّاتها.  

الفرضية الثالثة

يوظِّف الطفل كلمات معدودة من الحكاية، من دون القدرة على الربط بينها لصياغة جمل شفويّة.

اقتضى التأكّد من هذه الفرضيّة الاستعانة بالاستبانة الموجَّهة إلى المربيّات والمربّين. أفرزت الاستبانة نتائج تؤكِّد نسبيًّا ما ذهبنا إليه في هذه الفرضيّة، حيث رأت نسبة 70.5% من عيّنة الدراسة أنّ الطفل قادر على إنتاج جملة تتضمّن كلمة أو كلمتين واردتين في الحكاية، في حين ذهب %24.6 منهم إلى الإقرار بقدرة الطفل على القيام بذلك في بعض الأحيان.

تبقى هذه النتائج مهمّة، لأنّها تعزِّز التصوّر الذي انطلقنا منه في هذه الدراسة، والذي يؤكِّد الارتباط الوثيق بين الاستماع الجيّد والطلاقة في الحديث، باستثمار الحكاية في التعليم الأوّليّ.  

 

مقترحات عمليّة لتجويد الاستراتيجيّة

  • - تخصيص ركن خاصّ بسرد الحكاية، واختيار الوقت المناسب لتقديمها.
  • - توفير الوسائل الديدكتيكيّة المساعِدة، مع الحرص على تنويعها (حاسوب، جهاز العرض العلوي، تلفاز، دمى، الديكورات، صور الحكاية من الحجم الكبير...).
  • - استثمار النصّ الحكائيّ في تعبيرات أخرى، مثل الرسم والمسرح والألعاب التربويّة.
  • - توظيف بيداغوجيّة اللعب في تقديم الحكاية.
  • - اختيار حكايات تربويّة تلائم المجال الجغرافيّ ومستوى الطفل المعرفيّ.
  • - عرض الحكاية يوميًّا ضمن الأنشطة الاعتياديّة، وجعل الطفل يتقمّص أدوار الشخصيّات ويقلّدها.
  • - حبّ المربّي الحكواتي الحكاية وتحفيز طلّابه على الاستماع لإدماجهم في الكلام.
  • - إعداد مؤلّفي الحكايات والكتب المدرسيّة الخاصّة بالتعليم الابتدائيّ حكاياتٍ مصوَّرةً ومدعَّمة بصور للتلوين، وبموقع إلكترونيّ يتضمّن حكايات تساعد الآباء على مواكبة أطفالهم.
  • - فسح مجال للطفل لتخيّل حكاية خاصّة به، والاستعانة بأصدقائه لتحقيق ذلك. الأمر الذي يساعدهم على تنمية مهارات عديدة، بالإضافة إلى مهارتي الاستماع والتحدّث، مثل التواصل والابتكار وتنمية الثقة في النفس.   

 

* * *

بناءً على ما سبق، سعينا في هذه الدراسة إلى إثارة الانتباه إلى أهمّيّة الحكاية ودورها في تنمية مهارتي الاستماع والتحدّث، منطلقين من إشكاليّةٍ تساءلنا وفقها عن جدوى الحكاية، اختيارًا بيداغوجيًّا في تربية الطفل على المهارات اللغويّة (الاستماع والتحدث). ولمعالجة الإشكاليّة، انطلقنا من التذكير بالترابط بين مهارتي الاستماع والتحدّث، ثمّ انتقلنا إلى تفريغ الاستبانة الموجَّهة إلى عيّنة من المربّيّات والمربّين قصد تمحيص الفرضيّات المصاغة في مستهلّ الدراسة. من هنا، قدّمنا مجموعة من المقترحات العمليّة لتجويد التدبير الديدكتيكيّ للحكاية في مؤسّسات التعليم الأوّليّ. 

 

المراجع

- بوزفور، أحمد. (2015). الحكاية والقصّة. جريدة الاتحاد الاشتراكيّ.

- السیّد، محمّد. (1996). في طرائق تدريس اللغة العربيّة. جامعة دمشق.

- وزارة التربية الوطنيّة والتعليم العالي والبحث العلميّ. (2020). الدليل البيداغوجيّ للتعليم الأوّليّ. مديريّة المناهج.

ملحق

- الاستبانة الإلكترونيّة الموزَّعة إلى معلّمي التعليم الابتدائيّ.

https://forms.gle/ek3F1hPF7bm5tQTf9