التعلّم الذاتيّ: من قدرات فرديّة إلى قيادة تحويليّة
التعلّم الذاتيّ: من قدرات فرديّة إلى قيادة تحويليّة
مايا عباس | معلمة تاريخ للقسم الثانوي – لبنان

مع بداية انتشار وباء كورونا والقيود التي فرضها على الأنشطة الاجتماعيّة، والتي طالت القطاع التعليميّ بشدّة، كان لا بدّ من التفكير مليًّا بنوعيّة التعلّم الذي سنقدّمه إلى الطلّاب. بدا لنا، بالمتابعة اليوميّة، وجود قصور معرفيّ لدى الطلّاب في كيفيّة إدارة معلوماتهم وتنظميها تنظيمًا ذاتيًّا، فكان لا بدّ من تنظيم حلقات تفكّر للبحث عن نوعيّة تعلّم تخدم المرحلة، وتجعل الطالب قادرًا على إدارة معارفه بمفرده، مع توجيه معلّمه.

يتناول هذا المقال مفهوم التعلّم الذاتي وصلته بمهارات القرن الواحد والعشرين، بتسليط الضوء على مشروع نفّذته مع طلّاب المرحلة الثانويّة في ثانويّة الرحمة في لبنان.

 

مفهوم التعلّم الذاتيّ وعلاقته بمهارات القرن الواحد والعشرين

تعرِّف مجموعة من الباحثين التعلّم الذاتيّ بأنّه نشاط يؤدّيه الطلّاب، من أجل الوصول إلى المعلومات بالبحث الذاتيّ والاجتهاد الفرديّ. أو هو، في تعريف آخر، جهد ذاتيّ مبذول من أجل تحصيل التعلّم في الوقت الملائم وبحسب احتياجات الطلّاب التدريبيّة. أمّا رائد الأعمال الأمريكيّ جون رون فيقول: "التعليم الرسميّ يمنحك وظيفة، أمّا التعليم الذاتيّ فيمنحك ثروة". وهو بهذا يصف التعلّم الذاتيّ باعتماده على توفير شتّى صور المعرفة بطريقة مبسّطة ومجّانيّة، مكتوبة أو مسموعة أو مرئيّة، عبر منصّات التعليم الرقميّ المنتشرة في الإنترنت. وعليه، فما الثروة الفكريّة التي ينمّيها التعلّم الذاتيّ في المتعلّم، وترتبط بمهارات القرن الواحد والعشرين؟

ينمّي الطالب مهارة الحصول على المعلومات من مصادرها الصحيحة، وتحمّل مسؤوليّة ذلك، لأنّه يُحصِّل التعلّم تحصيلًا فرديًّا، فيتحقّق مبدأ التربية المستمرّة. كما يساعد الطالب على اكتساب مهارات البحث والتقصّي، وتنظيم وقته بعيدًا عن مشتّتات الوقت، فضلًا عن قدرته على الربط والتحليل والتفكير المنطقيّ في حلّ المشكلات. بالإضافة إلى مهارة العرض التي تخلق من الطلّاب مدرِّبين وقادة ينفّذون ورشًا تعليميّة.

 

مراحل تنفيذ مشروع التعلّم الذاتيّ

في البداية، طبّقتُ مهارات التعلّم الذاتيّ على نفسي، بالبحث عن مضمونه، وتحويل المعطيات إلى مادّة تدريبيّة بسيطة، توضِّح للطالب ما بحثته، مع اختيار أكثر خمس مهارات أهمّيّة. ويمكن إدراج كيفيّة تنفيذ المشروع ضمن مرحلتين:

 

المرحلة الأولى: مرحلة نشر الوعي حول التعلّم الذاتيّ

اخترت فرعًا واحدًا من الصفّ الثانويّ الثالث، وعقدت جلسات معهم عن بعد، ثمّ عرضت المشروع عليهم ودرّبتهم على الأفكار الأوّليّة، حيث هدفت هنا إلى نشر الوعي حول الموضوع. نقل طلّاب الصفّ بدورهم التوعية إلى زملائهم في الفروع الأخرى، في جلستين عن بعد، نظّمتُها بموافقة إدارة المدرسة.

 

وبعد عقد الجلسة الثانية التي عُقدت للتفكّر بالخطوة التالية، بلغ حماس الطلّاب ذروته، وشعروا بأهمّيّة هذا التعلّم في حياتهم وحاجتهم إليه، من حيث وعيهم المشكلة التي يعانونها، والتي تطال تنظيم وقتهم والدرس بمفردهم واكتشافهم مهارات هذا النوع من التعلّم.  فاقترحوا نقل التدريب إلى رفاقهم من الصفّ الثانويّ الثاني، لنشر المعرفة والوعي بالمشروع تدريجيًّا. كما اختيرت مجموعة طلّاب من الصفّين الثاني والثالث الثانويّ، لنقل التجربة خارج المدرسة، حيث وقع الاختيار على مدرسة رسميّة في محافظة النبطيّة جنوبي لبنان. فعقدت جلسة تدريب عن بعد بين مجموعة طلّاب ثانويّة الرحمة وطلّاب المدرسة المستهدَفة، لتبادل الأفكار وصياغة التطلّعات. ومن هنا، انطلقت الرحلة المعرفيّة والمهاراتيّة والتطبيقيّة والقياديّة.

 

المرحلة الثانية: التدريب على المهارات

مع بداية السنة الدراسيّة (2021-2022) وانتقال الطلّاب القائمين بالمشروع إلى الصفّ الثانويّ الثالث، باشرنا بتطبيق المرحلة الثانية من المشروع، بالتخطيط والتدريب على مهارات التعلّم الذاتيّ (تنظيم الوقت وإدارة المعرفة)، وانشاء مجموعات متخصّصة على النحو الآتي:

  • - مجموعة البحث والتقصّي عن مهارات التعلّم الذاتيّ.
  • - مجموعة التكنولوجيا لإخراج فيديوهات رقميّة عن المهارات.
  • - مجموعة ميسّرين لنقل التدريب.
  • - مجموعة الأرشفة.
  • - مجموعة التصوير.

كما حُدِّدت الفئة المستهدفة بالتدريب، وهم طلّاب الصفّ الثانويّ الأوّل في المدرسة.

 

توزّعت الأدوار بين الجميع، ودارت حلقات نقاش مكثّفة بين الطلّاب المنظّمين حول المحتوى الذي سيُقدَّم وطريقة التدريب، بجلسات عن بعد، أو في المدرسة أحيانًا، بعد الدوام المدرسيّ. اتّفق الطلّاب على تدريب رفاقهم، انطلاقًا من الحاجة الملحّة إلى مهارات تنظيم الوقت، بتمكينهم من التقنيّات المعتمدة لهذه الغاية. تحقّق ذلك في جلستَي تدريب، تمحورت الأولى حول مشتّتات الوقت، والثانية حول التقنيّات المتّبعَة لطرق تنظيم الوقت. أمّا مهارة إدارة المعرفة، فمُكِّنوا منها بتنظيم نشاط مكتبة متنقّلة داخل القسم الثانويّ، لتبادل المعلومات بالكتب والمجلّات والمواقع الإلكترونيّة الموثوقة. بعد ذلك، وانطلاقًا من سعينا إلى إنتاج قادة وشركاء في التعلّم الذاتيّ داخل المدرسة، طلبنا إلى طلّابنا في الصفّ الثانويّ الأوّل أن يدرّبوا بدورهم طلّاب الصفّ التاسع على أكثر مهارة يحتاجون إليها، وهي تقنيّات تنظيم الوقت. وهنا، ظهر التحدّي الحقيقيّ، حيث حوّلنا كلّ مشارك في المشروع إلى مدرِّب ومتدرِّب في آن، حيث يكتسب خبرات تراكميّة في هذا المجال.

 

وعقب كلّ تدريب، كنّا نعقد جلسات تفكّر متتاليّة لرصد نقاط القوّة والضعف، وتقييم الحاجة إلى التطوير، فكان الطالب يخوض تجارب حياتيّة تمكّنه من المهارات. فهو صاحب القرار في صنع المحتوى التعليميّ، بالاعتماد على المصادر الموثوقة، ويُقدِّم المحتوى بمهارات العرض والتفاعل ضمن محيطه، بحيث يستطيع التأمّل في أدائه، ليترجم ذلك جودةً في التعليم والتعلّم.

 

الصعوبات التي واجهت المشروع

من الصعوبات التي واجهت المشروع عامل الوقت، إذ صَعُب دمج المشروع مع الحصص التعليميّة، واختيار أوقات العرض لتتلاءم مع دوام الطلّاب. أضف إلى ذلك صعوبة تبنّي الطلّاب المتعثّرين في تقنيّات تنظيم وقتهم، هذا المشروعَ، نظرًا إلى أهمّيّة التعلّم الذاتيّ بالنسبة إليهم. فنظّمنا جلسات فرديّة لهم، لتقريب الفكرة ومساعدتهم على اختيار التقنيّة المناسبة للتقدّم في التحصيل الدراسيّ، وتنمية الوعي الذاتيّ بحاجاتهم. لكنّ الجهد المضاعف بالنسبة إليّ كان المواءمة بين المحتوى والعرض والأنشطة، وجعلها أكثر انسيابيّة بين الطلّاب، ما استدعى التقييم الدائم والمكثّف للتفاصيل كافّة، من أجل تطوير العمل.

 

أثر المشروع في طريقة تفكير الطلّاب وسلوكهم

نعرض هنا آراء بعض الطلّاب وتجاربهم حول التعلّم الذاتيّ:

  • - "استفدتُ من التعلّم الذاتيّ في تحديد أولويّاتي، فوضعتُ برنامجًا مناسبًا للدرس. وعندما أبدأ بإضاعة الوقت أتذكّر جيّدًا أنّني درّبت رفاقي على تقنيّات تنظيم الوقت. الأمر الذي جعلني أتحمّل مسؤوليّة تجاه نفسي، لكي أكون قدوة لرفاقي في ذلك".        
  • - "أتقنتُ طريقة درسي أكثر بفهم ذاتي، وذلك باختيار التقنيّات المطروحة التي تناسبني، وتنمّي لديّ الشعور بالمثابرة والقدرة على التنظيم والثقة بالنفس".
  • - "أصبحتُ قادرة على التخطيط وتنظيم وقتي بطريقة ممتعة ومسليّة، وتمكّنتُ من مهارة البحث".
  • - "ربطتُ التعلّم الذاتيّ بحياتي اليوميّة، ولا سيّما على صعيد التحضير للمادّة والنقاشات التي كانت تحصل، وتبادل الأفكار والمعلومات وابتكار أفكار جديدة. كما تعلّمتُ أمرًا مهمًّا، أن أتقن عملي، بدل الحصول على العمل المثاليّ، وتمكّنتُ من مهارات التواصل والعرض. وأعتقد أنّ الفائدة الأكبر سأحصّلها في الجامعة، لأنّي أصبحت قادرة على استخدام كلّ ما تعلّمته".          
  • - "أسهم التعلّم الذاتيّ في التركيز على تنمية مهارتي في الربط والتحليل، وبالتالي، مهارة حلّ المشكلات. ظهر ذلك بالأنشطة التي أشرف عليها طلّاب القسم الثانويّ، والتي ركّزت على كيفيّة تحديد الأولويّات بمعاينة النتائج والظروف وربطها بالإمكانيّات المتاحة، ومن ثمّ اتّخاذ القرارات الصائبة. فوسط الضغوطات الحياتيّة اليوميّة، ظهر التعلّم الذاتيّ مخلّصًا من لظى الأزمات وأعاد لنا الإيمان بقدرتنا، بالاعتماد على ذواتنا والتنظيم المستمر، بما يمكّننا من التغلّب على جميع ما قد يحيط بنا من مشكلات، والمُضي قُدمًا في رحلة الحياة".         
  • - "اكتسبتُ القدرة على التحليل والتدقيق والنقد والبحث وحلّ المشكلات، فضلًا عن صقل شخصيّتي المستقلّة والاعتماد على نفسي. أذكر موقفًا جرى في حصّة التاريخ جعلني أثق بفعّاليّة مهارات التعلّم الذاتيّ في تنمية قدرتنا على حلّ المشكلات، إذ أثناء عرض حدث تاريخيّ، حدث تضارب بين روايتين للموقف ذاته، كلّ منهما يندرج في مصدر مختلف. عندها تطوّعت للبحث عن صحّة كلّ من الروايتين المعروضتين، باستخدام مهارات التفكير النقديّ، واختيار المصادر الموثوقة، لأتمكّن في المحصّلة من تحديد الرواية الصحيحة وتعميمها".
  • - "أصبحتُ متمكِّنًا من تنظيم وقتي وإعداد برنامج خاصّ بي. وعندما أعددت برنامجًا خاصًّا لتنظيم دراستي قبل الامتحان، اطّلعَتْ إدارة الحلقة على هذا البرنامج، وعمّمَته على رفاقي. وهكذا، خلق هذا التعلّم اندفاعًا عندي وشعرتُ بجاذبيّة تجاه التعلّم عامّةً".

 

* * *

في النهاية، يمكن القول إنّ التعلّم الذاتيّ زاد إيماني المطلق، بصفتي معلّمةً، بقدرات الطلّاب، إذ بدوا لي أنّهم قادرون، بالتوجيه والتحفيز والمتابعة الدائمة، على أن يحصّلوا المعارف بمفردهم. كما بدا لي أنّي قادرة على أن أصنع من الطالب باحثًا ومنتجًا وقائدًا ومشاركًا في صنع القرار، وتوجيه الطاقات الكامنة إلى ما يحقّق الرسالة التي نرنو إليها، مربّين ومعلّمين، في صروحنا التربويّة. وعليه، أصبحت كلّ سنة أختار مهارة من المهارات، وأدرّب الطلّاب عليها بطرق وأفكار جديدة تحاكي تطلّعاتهم.  ومن هنا، علينا نحن، المربّين، التفكّر الدائم بكيفيّة تحويل التهديد إلى فرصة تجعل الطالب واعيًا بقدراته، ومتمكِّنا من مهاراته الاجتماعيّة والتواصليّة والإبداعيّة.