إدارة الصفّ السليمة: وعي الذات ومسؤوليّاتها
إدارة الصفّ السليمة: وعي الذات ومسؤوليّاتها

في العمل على العدد الثاني والعشرين الضخم من منهجيّات، وفي لحظة التقاط أنفاس، لفت نظرنا أنّ هذا الجهد لا يني يستمرّ منذ خمس سنوات. نعم، منهجيّاتنا بلغت خمس سنوات، وهو عمر في حساب المجلّات عظيم: كبر حجم المجلّة؛ اغتنت الملفّات وشملت؛ أسرة كتّابنا تمدّدت شرقًا وغربًا فافتخرنا؛ وانحيازنا إلى مفهوم التربية العربيّة الأصيلة صلُب مع كلّ مقال رام هذا التأصيل.  

إدارة العمل مع التربويّات والتربويّين جعلتهم أكثر اشتراكًا في المشروع، تبنّوه وانتموا إليه. وهذا لا يأتي من فراغ، بل من تصوّر لإدارة العمل بين مجموعات مختلفة، وخلفيّات ثقافيّة واجتماعيّة متعدّدة، وتنوّع أمزجة وقدرات، واختلاف أعمار وخبرات... وهذا بالتحديد كان موضوع ملفّنا: إدارة تجمّع معيّن بأكثر السبل تكيّفًا، وصولًا إلى تحقيق هدف الاجتماع. 

ملفّ "إدارة الصفّ اليوم: ممارسات ومشكلات ومفاهيم" أصاب عصبًا في وجدان الكتّاب المشاركين، لما له من أثر عظيم في حياة الحصّة الصفّيّة لكلّ معلّم ومعلّمة: فهذا معلّم يرمي الإبرة في صفّه فيُسمع وقعها، وآخر تكون حصّته كسفينة تتلاعب بها الأمواج العاتية، لا ينتهي منها إلّا بآخر نفس. وتلك معلّمة تتمنّى الدخول الدائم إلى هذا الصفّ لا ذاك، وأخرى ضائعة بين مزاجها التعليميّ وكراسة الضبط المفروضة إداريًّا... وهكذا تتوازى هذه المشكلة مع التغييرات التعليميّة وتطويرات الممارسات. 

عالجت مقالات الملفّ الستّة عشر موضوع الإدارة الصفّيّة من زوايا مختلفة: سوسيولوجيّة وثقافيّة وقانونيّة مدرسيّة، وردفت الملفّ بتجارب مختلفة أوضحت أنجع السبل إلى إدارة صفّيّة ناجحة، وحدّدت أدوار الثالوث الإداريّ للصفّ: الإدارة والأهل والمعلّم. فجاء الملفّ شاملًا ومرجعيًّا لكلّ تربويّ مهتمّ بهذا الموضوع. 

 

لكن، إذا أعدنا التفكير في السياق الزمنيّ لهذه القضيّة، سيظنّ معلّم اليوم أنّ معلّم الزمان السابق كان أكثر راحة: يدخل إلى الصفّ، يقف الطلّاب ويخشعون، يجلسهم ويمارس تعليمه. إن أزعجه ولد فتك به بصرخة، وإن زاد الولد أصابته اللطمة. ليذهب الولد إلى البيت خائفًا من إخبار والديه أنّه ضُربَ لأنّه سيُضرب مجدّدًا، فلا بدّ أنّه المخطئ! هذا التصوّر ليس بعيدًا نسبيًّا عمّا كان، لكنّه ينبع من تعاقد اجتماعيّ – ثقافيّ راسخ بين الأهل والمدرسة: تصوّر واضح موحّد وثابت للذات، وسبل التربية وأهدافها التي تتلخّص بإعادة إنتاج المتعلّم ليكون كأهله وأستاذه. 

تصوّر الذات هو مشكلة اليوم. الاتّحاد الافتراضيّ السابق بين ذات الأهل وذوات التربويّين يذوب اليوم، وذلك لأنّنا - بوصفنا جزءًا من المجتمعات الأطراف لا المركز - لا ننتج تصوّراتنا عن أنفسنا: من نحن؟ من نريد أن نكون؟ من قدوتنا؟ ما أهدافنا التي تتخطّى ذاتيّتنا لتتفاعل من أهداف مجتمعيّة؟ 

ظروف كثيرة أودت بنا إلى هذا الوضع، وحشرتنا في دائرة استهلاك ما يُقدّم إلينا، بغثّه وسمينه. وإذا كان السمين كثيرًا، وهو عصارة جهود مفكّرين وتربويّين وفلاسفة، إلّا أنّ إيقاع حياتنا السريع القائم على تعزيز منحانا الاستهلاكيّ، يقضم من قدرتنا على التمييز والاختيار.  

والأمر أن إدارة الصفّ تستدعي ممارسة ديمقراطيّة من المعلّم، وتفكيرًا بفاعليّة الذات عند المتعلّم. وإذا كان المعلّم الحديث ينحو إلى الدمقرطة ذاتيًّا أو بقرار خارجيّ (وهو فرض للديمقراطيّة!)، فإنّ ما يشهده المتعلّمون بأنفسهم، وبمراقبة حياة أهليهم ومسار القرارات في مجتمعاتهم، لا يشي بشيء من التدريب على الفاعليّة الذاتيّة. وبغياب فهم المتعلّم دوره في الصفّ، يسقط في أيدي المعلّمين وتتهاوى الإدارة التي لا تتّكل على التهديد. 

مشاكل إدارة الصفّ تنبع من تفكّك صور المجتمع الذاتيّة، فيصير هذا الاجتماع لذواتات مختلفة لا تتّفق على أسلوب، أو هدف، أو احترام تفرّد حقيقيّ. وبين مطالبة المعلّم بصفّ هادئ، وحشره باستراتيجيّات تفاعليّة تكسر الهدوء، هل ننتظر أن يرتاح المعلّمون إلى ما يُطلب إليهم؟ 

ولا نستطيع أن نختم إلّا بملاحظة نموذج إدارة القوى العظمى للعالم، بالتهديد والضرب والتواطؤ الإعلاميّ، كي يُترك معلّمونا وطلبتهم وأهلوهم في غزّة الجرح وحيدين أمام المذبحة... فشاركونا كسر الصمت.