أدب الأطفال نهجًا حواريًّا في مرحلة الطفولة المبكِرة: من المحاضرة إلى المحاورة
أدب الأطفال نهجًا حواريًّا في مرحلة الطفولة المبكِرة: من المحاضرة إلى المحاورة
بدر عثمان | مدير تحرير منهجيّات - فلسطين/ قطر

* مقال مُستند إلى ورقة بحثيّة قُدّمت في مؤتمر "التربية في مرحلة ما قبل المدرسة: رهانات العرض والجودة"، في المدرسة العُليا للأساتذة- جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء في المغرب، بتاريخ 15 آذار/ مارس 2023.

 

في درسه الافتتاحيّ البديع الذي ألقاهُ في الكوليج دو فرانس، ونُشر لاحقًا بعنوان "درسٌ حول الدرس". ناقش المُفكِّر الاجتماعيّ بيار بورديو ثنائيّة السلطة والعلم، بسؤالٍ افتتاحيّ: "كيف يمكن أن يُشكِّل العلم سلطةً ضدّ العلم؟" وطرح فكرة المؤسّسة وممارسات سلطتها الرمزيّة، والتي دفعتنا إلى إهمال سؤال فارق: "بأيّ حقّ نقوم بالإلقاء؟" (بورديو، 1984، ص 53).

تبرز، ضمن المنطوق المُستهلّ أعلاه، أسئلة، مثل: ماذا نُعلِّم الأطفال بجانب المادّة التعليميّة؟ وماذا نُمرِّر لهم من رسائل؟ مِن منطلق أنّ الصفّ، مكانًا فيزيائيًّا، يمثّل مساحة مليئة برموز السّلطة، على غرار اختلاف نوع مقعد المعلّم عن مقاعد الطلبة، ومكان المعلّم في المقدّمة، والحقّ الضمنيّ بأن يقول كلامًا مشروعًا على الطلبة أن يسمعوه. وبالتالي، يُصبِح المكان الذي نسمّيه "صفًّا" بمثابة بؤرة تسودها قوّة ومجموعات رموز تحملُ مؤدًّى سلطويًّا بالمعنى الرأسيّ للكلمة. 

ينطلق المقال من هذه الفكرة، ليقترح كسرًا أداتيًّا لهذه السلطة برمزيّتها. فعلى الرغم من فهمنا الشكل العصيّ على التغيير، وهيمنة المنظومة التعليميّة من أعلى، ومحاولات المعلّمات والمعلّمين المستمرّة للتغيير، إلّا أنّ المقال يرى أنّ لكسر رمزيّة سلطة التعليم، في مرحلته المبكِرة، إسهامًا كبيرًا في مفهمة الطلبة سير التعليم وسيرورته واستمراره.

 

منطلق المقترح التأمّليّ: "الطريق هو الطريقة"

يُمثِّل هذا المقال مُنطلقًا تأمّليًّا لمقترح أدب الطفل، نهجًا حواريًّا في الطفولة المبكِرة. فهو مُجرّد دعوة إلى تشكيل حالة نقاشيّة حول المقترح ومصداقيّته، أكثر من ميله إلى إنتاج نظريّة مُجرّدة في ظلّ واقع تزداد تحدّياته يوميًّا، ويُثقَل فيه كاهل المجتمع التعليميّ عامّةً، والمعلّم والطالب خاصّةً.   

وينطلقُ المقال في هذا السعي مرتكزًا إلى فكرة مُستلهَمة من التعلّم الحواريّ: الحوار والحواريّة كأساسيْن لتشاركيّة خلق، وإعادة خلق، المعنى، وكإسهاميْن في الفهم والتجريب والنقد. هذه الدعوة إلى النقاش تشبه الدعوة إلى التغيير، لارتكاز النقاش إلى تعدّديّة الصوت، في سبيل إنتاج معانٍ تشاركيّة، ضمن حواريّة أو تحاوريّة، وفق المنظّر الروسيّ باختين (تودوروف، 1996).

إذًا، هي محاولة لخلق نقاش حول تفكيك النظم التعليميّة، بمؤدّاها المعروف مُسبقًا، وفي مرحلتها المبكِرة جدًّا، وإعادة بنائها لتؤدّي معنى ليس معروفًا مُسبقًا، وإنّما يُكتَشف بالحوار والتحاور. بذلك، يُؤسِّس هذا المقال مُقتَرحًا تُقصَد به مداورة السلطة أُفقيًّا بين المعلّم والمتعلّم، فيمسي الصفّ مساحةً للاكتشاف والنقد وإنتاج المعاني.  

من هنا، تصبح العمليّة التعليميّة عمليّة كرنفاليّة بالمعنى الباختينيّ (Bakhtin, 1998)؛ أيّ تصبح مساحات من كسر الروتين المنشود التي تُكسر ضمنها علائقيّة السلطة العموديّة في الغرفة الصفّيّة. فيُعاد إنتاج رموز المساحة، لصالح معنى التعلّم التشاركيّ القائم على أدب الطفل، وإعطائه مصداقيّة، والتفكير بثيمات القصص والقصائد، بالتحاور واللعب والفرح والاكتشاف والدهشة. قد تدفع قراءة النصّ، هذا النصّ، بهذا المعنى، إلى الوقوف أمام أسئلة مُختلِفة، فيكون الحوار الشيّق المبنيّ من ثيمة أو حدث أو كلمة أو فعل أو سلوك أو زمن أو واقعة، أحد طرق الوصول إلى إجابات هذه الأسئلة، أو طرح أسئلة أخرى تتشعّبُ منها، بما يُترجِم معنى صغيرًا يتمثّل في تشكُّل التعلّم في الطريق، لا في الوصول: "والطريقُ هو الطريقةُ" (درويش، 2004).

 

ما نريد أن نُعلّم، وما يريد الطالب أن يتعلّم

يذكر المُفكِّر والشاعر الفلسطينيّ حسين البرغوثي، في مقاله الأثير "الرشاقة الذهنيّة"، مثالًا من رواية "طريق المحارب السلميّ"، يُحاور فيه معلّمٌ طالبًا، فيقول له: "إنّ ما أقدر أن أعلّمك إيّاه يعتمدُ على حاجتك أنت". هذه المعادلة الواقعيّة، بين المادّة أو المنهاج، وحاجة الطالب، فارقةٌ في التعلّم، وتُصعِّب مهمّة المعلّم. فالتعليم، وفقًا للبرغوثي، فنّ الحياة، لا ممارسات آليّة فحسب، "والطالب الذي لا يستطيع أن يشعر بالحياة في معلّميه، لا يتعلّم منهم إلّا الموت" (البرغوثي، 2015، ص 29).

من هنا، يبرز اقتراح مقال أدب الطفل، أداةً ومساحة مفتوحة ومرنة، لإحداث تحوّل في هرميّة النظام، حتّى يصبح نظامًا قائمًا على المساواة: فنُحوِّل، على سبيل المثال، إلقاء الدرس، من محاضرة إلى محاورة، ثمّ نتعامل مع أدب الطفل، سواء القصصيّ منه أم الشعريّ، كمساحة تفتح على تعلّم مهارات مختلفة، مع عدم تشذيب دهشة الطفولة أو صقلها، وفرحة الاكتشافات الصغيرة. 

يأتي اقتراح المقال لوسيلة أدب الطفل من منطلقات مختلفة، من شأنها أن تثير الدهشة في المتحاورَين، المعلّم والطالب، وتسمح لهما بالقفز إلى ما وراء الآليّ (البرغوثي، 2015)، إلى مرحلة ما هو صادق وأصيل في اكتساب المعارف، والمرتبط بالواقع ارتباطًا عفويًّا يقود إلى مساحات مجهولة، نعتقد أنّ اكتشافها بالحوار يكون بالتعلّم. 

 

المحاورة منطق السير

يُقدِّم المُفكِّر الإيطاليّ الشهير كالفينو Calvino (1987) في كتابه "The Uses of Literature" نقدًا سياسيًّا واضحًا لديناميّات الصوت (صوت الشخصيّات في سير حبكة النصّ في القصّة). يمكن، على هذا الأساس، النظر والتفريق بين الأصوات السياسيّة لشخوص القصّة، أيّ قصّة. فهناك شخصيّات تتحرّك بلا أصوات سياسيّة فاعلة، في حين تأخذ الشخصيّة الرئيسة، أو راوي القصّة، صوتًا مباشرًا وعاليًا وواضحًا ووحيدًا. من هنا، تبدأ أصوات الشخصيّات تدور في فلك الراوي، كونه يعلوهم صوتًا، بما يُمهِّد لشرعيّته، ضمن سياق يتنافذ بين دلالات النصّ وتأويل القارئ.

يصحّ النظر إلى الصفّ الدراسيّ من منطق مقاربة كالفينو للصوت السياسيّ في القصّة. النصّ هو الصفّ الدراسيّ، والشخوص متساوية، يُفرِّق بينها الصوت والدلالة. ويمكننا التأمّل في هذا المنطق القياسيّ، كمساحة لتفكيك الشكل الكلاسيكيّ للغرفة الصفّيّة، مُمهِّدينَ لتقديم نقد واقعيّ لهيمنة الرمز؛ نقدٍ يحاور ويكشف ممارسات الصوت العالي، والعنف الرمزيّ الذي يحصل في المدرسة، الصفّ عينيًّا، بما تحمل هذه الممارسات من سياق، يُعيد إنتاج نفسه من مناح عديدة، منها تقديم المعلومة وشكل الدرس. 

يمثِّل أدب الطفل في هذا السياق منهجًا أداتيًّا، ومساحةً للتفاعل في سياق عمليّة الهدم والبناء المُقترَحة. يُمهِّد أدب الطفل، بما يحتوي عليه من فرح جماليّ ومحطّات استكشافيّة، إلى تحويل الصفّ الدراسيّ، والتفاعل بين عناصر العمليّة التعليميّة من محاضرة صوت واحد إلى محاورة أصوات. 

 

أدب الطفل نهجًا للتجدّد والتعلّم

يترتّب على المنهجيّة أعلاه التعامل مع أدب الطفل من منحيين: 

المنحى الأوّل

النصّ منهجًا لإحداث قطيعة إبستمولوجيّة بين شكل تقليديّ يسير وشكل حداثيّ يحبو. ويعدّ المقال إنتاج القطيعة مع الماضي، شرطًا أوّليًّا لخلق مساحة للتجدّد والتجديد من مناطق، منها ما يمنحه هذا الأدب بنصوصهِ وآفاقهِ الرحبة ومركّباته المختلفة، من مساحة لتجديد المضمون (في نوع المادّة)، والشكل (في طريقة إدارتها) عند المعلّم. من هنا، يمكن للمعلّم أن يفتح على مساحات غامضة في النصّ، فيتشارك متعة التعلّم مع طلبته، ويفرحون معًا بلذّة الاكتشاف ودهشة البحث.  

ولمّا كان كلّ نصّ مُختلفًا، وجب أن تكون طريقة التعامل مع كلّ نصّ مختلفةً، من حيث قراءته ومحاورته، بما يُتيح للمعلّم تجدّدًا أسلوبيًّا ديناميكيًّا ومرغوبًا في التعليم. لا يقود المضمونُ الشكلَ، والشكل لا يحتّم المضمون؛ يسيران معًا. الأمر الذي يسمح ببناء محاورة مُختلفة تعتمدُ نصّ القصّة وشكلها أساسًا. 

نتعامل في هذا المقال بحذر مع المحاورات التي نسعى إلى بناء منطق لها، فالنقطة الجوهريّة هي عدم ضبط الشكل أو المفهوم ضمن تصوّر معيّن، وإنّما اكتشاف ما تُتيحه هذه الطريقة، بمجاورة أدب الطفل، من مساحات التجدّد. يحدث ذلك بالاعتماد على فكرة عدم جهوزيّة القالب والنصّ، والتشكيك في هذه الجهوزيّة بعمليّة تعلّم أُفقيّة ودائريّة، تتكسّر فيها علائقيّة السلطة، لصالح تشاركيّة أقسام المجتمع التعليميّ في استخلاص التعلّم الذي يأملون به ويسعون إليه، وهو غير مُحدَّد مسبقًا بطبيعة الحال. 

المنحى الثاني

يساعد هذا النهج في تحويل الغرفة الصفّيّة إلى مساحة مفتوحة للتعلّم المُعتمِد على حاجة الطالب، وأسئلته وعمليّة بحثهِ المُستمرّة. فأساس اقتراح تحويل المحاضرة إلى محاورة جعلُ الغرفة الصفّيّة مساحة للتفكير مع الطالب، حيث يُشارِك الطالب، بقدر ما يُشارِك المعلّم في تعلّمهِ، أسئلة غامضة تكوِّنها نواة شغف تعلّم الطالب. وعليه، يسمح شكل المحاورة بتعلّم غير قصديّ؛ بمعنى أنّ الطالب يبني قاموسه اللغويّ خلال عمليّة القراءة والحوار، فيبني قدرات ومهارات مُختلفة، كالتفكير الناقد والتواصل والبحث. 

 

* * *

بقدر ما يتعامل هذا المقال بحذر مع كسر شكل الصفّ التقليديّ، يدعو إلى التنبّه من سلطة المعلّم، ضمن افتراض أنّه يمنح الطالب صوتًا. فهو لا يمنح الصوت، بل يفتح المجال أمامه، وييسِّر له عمليّة التعلّم، لتحدث ضمن سياق طبيعيّ، بنشر الحوار حول أفكار نصّ معيّن. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ التأسيس للشكل الجديد (المحاورة)، يحتّم تعاملًا جديدًا لا يفترض أنّ لكلّ سؤال جوابًا، أو لكلّ حديثٍ نتيجة، ويتعامل مع فكرة دهشة التعلّم والاستكشاف على أنّها أساسات واقعيّة لعمليّة التعلّم، ومن دونها قد نؤسّس طفلًا يكون أقصى طموحه نهاية الحصّة. لذلك، وجب التنبّه إلى نقطتين: اختيار النصوص التي ستُقرأ مع الطلبة، وعودة النمط التقليديّ في مراحل لاحقة لتعلّم الطفل.

في الختام، حاول هذا المقال تقديم لمحة صغيرة عن تجاور أدب الطفل والمحاورة، كونهما مساحتين تُشكّلان أساسًا لكسر شكل التعلّم التقليديّ، لصالحِ شكل يقوم على كسر روابط السلطة، وتفكيك رموزها في الغرفة الصفّيّة. يفتح ذلك المجال لحواريّة تعلّم عفويّة، تعتمد على قلق الاستكشاف عند الطالب، وتدفعه إلى مساحات البحث والتفكير والتفكّر. وفي حين يبدو المقال محاولةً لتقديم اقتراح لحواريّة تعلّم تجعل منه أفقًا رحبًا، إلّا أنّه مُجرّد محاولة فضوليّة في مناقشة سؤال: من أين يأتي التعلّم؟ وكيف يحدث أساسًا؟ 

 

المراجع

- البرغوثي، حسين. (2015). الرشاقة الذهنيّة، مجلّة طيف- مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ.

- بورديو، بيار. (1984). درس في الدرس. مجلّة الفكر العربيّ المعاصر.

- تودوروف، تزفيتان. (1996). ميخائيل باختين: المبدأ الحواريّ. المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر.

- درويش، محمود. (2004). لا تعتذر عمّا فعلت. رياض الريّس للكتب والنشر.

- Bakhtin, M. M. (1968). Rabelais and His World. Cambridge, MA, Massachusetts Institute of Technology.

- Calvino, Italo. (1987). The Uses of Literature. Harcott Brace Jovanovich.