قل لي كيف تُدرِّس أقل لك مَن أنت!
قل لي كيف تُدرِّس أقل لك مَن أنت!
وليد امبارك | معلم فرنسية في الاكاديمية العربية الدولية-تونس/قطر

قد لا يهتمّ التدريب الذي يتلقّاه المعلّمون كثيرًا بأهمّيّة النموّ الاجتماعيّ والعاطفيّ كعامل من عوامل إنجاز الطلّاب الأكاديميّ. ونحن، المعلّمين، نعرف المحتوى الخاصّ بما نعلِّم، ولدينا شهادات تثبت كفاءاتنا، ومهارات إداريّة للفصول الدراسيّة نستند إليها عندما نقف أمام طلّابنا ونحاورهم. لكن، هل يكفي ذلك لنكون معلّمين ناجحين؟ أم يلزمنا المزيد من المهارات لتحقيق ذلك؟ ماذا لو كنّا نشعر بالتوتّر حيال علاقتنا بطلّابنا خارج مجال دراستنا؟ لماذا يخشى بعض المدرّسين إظهار جانب من الالتزام العاطفيّ مع طلبتهم، وكأنّ ذلك تحريف لمسار عمليّة التعليم؟ لماذا يتجنّب بعضنا التعلّم المبنيّ على العواطف، ويركِّز فقط على دعم ذكاء المتعلّم من دون الغوص في عالم المشاعر؟ 

 

منذ نشأة المدارس والجامعات، كان النجاح مبنيًّا على المجالات الأكاديميّة، حيث التمكّن من مهارات الرياضيّات والقراءة يمنح الطالب درجات جيّدة، ويزيد من احتماليّة حصوله على شهادة جامعيّة. لا شكّ في أنّ هذه المهارات مهمّة وأساسيّة، ولكن نعتقد أنّ الوقت قد حان للتركيز على مجموعة أخرى من المهارات اللازمة لتحقيق نجاح يستمرّ مدى الحياة. 

وعليه، لا يمكن فهم مَهمّة المعلِّم من دون العودة إلى ما يشير إليه الأصل اللاتينيّ لفعل "علّم" (ēdŭcāre) من تعليم وتدريب وإنتاج، حيث يكمن دوره الرئيس في مرافقة الطفل في مسيرة تعلّمه، ومساعدته على تنمية مهاراته، قصدَ التعرّف إلى بيئته وإدراكها، بدءًا من مشاعره واحتياجاته، من أجل تحصيل المُنتَج المراد. 

 

كيف يعمل الارتباط الآمن بالمعلّم على تحسين النموّ الفكريّ للطفل؟

أظهرت الدراسات التي تعنى بالرفاه النفسيّ والأمان خلال رحلة التعلّم، والتي قادتها جامعات كبرى كهارفرد، أنّ الطلّاب الذين لديهم ارتباط آمن بمعلّمهم تتحسّن تنشئتهم الاجتماعيّة، حيث يسعون إلى النجاح سعيًا أفضل. لذلك، من الواضح أنّ الارتباط الآمن بالمعلّم يسهم في اكتساب الطالب المهارات الاجتماعيّة والعاطفيّة واللغويّة والمعرفيّة. عندما يُشعر المعلّم طلّابه بالدفء ويُظهر التعاطف في تعامله معهم، يتمكّن الطفل ذو الارتباط غير الآمن من بناء علاقات متينة مع معلّمه، ويصبح أقلّ مقاومة وأكثر مرونة. يحيلنا الحديث عن الارتباط العاطفيّ بين المعلّم والطالب إلى "نظرية التعلّق" (Attachment Theory) عند (John Bowlby (1988، والتي تعتبر هذا الارتباط نظامًا تحفيزيًّا من بين أنظمة أخرى، مثل النظام الاستكشافيّ ونظام تقديم الرعاية. يتعلّق الأطفال، مثلًا، بوالديهم ويشعرون بالأمان في حضورهم وبانعدام الأمان في غيابهم، وهو الشعور ذاته الذي يظهره الطالب مع المعلّم الذي يلهمه الأمان، والذي يشعره بالأهمّيّة والتقدير.

 

الانخراط الأصيل: كن أنت ولا تكن غيرك

كلّ طالب أصيل، وكذلك هو المعلّم. لذلك، لا بدّ للمعلّم من أن يعبِّر عن نفسه بالأسلوب الذي يبدو أكثر واقعيّة بالنسبة إليه. يمكن للمعلّم التواصل مع طلّابه تواصلًا هادئًا وأصليًّا، يحترم احتياجاتهم ويشعرهم بالاهتمام والتحفيز. تَمكُّن الطلّاب من تجربة مجموعة متنوِّعة من العلاقات وطرق التواصل مع البالغين، يمنحهم المزيد من فرص الشعور بالراحة والاهتمام والانتماء إلى الفصل والمجموعة والمعلّم. وتتّصل إحدى الآليّات التفاعليّة التي يتمّ من خلالها هذا النوع من التعامل الصفّيّ بمدى تبادل المعلّم للضحك أو الابتسامة الأولى مع الطالب. تنسجم هذه الابتسامة مع العمل التربويّ، وتشكّل جزءًا من الموقف العاطفيّ الذي يجمع المعلّم والطالب، ويضفي على المحيط شعورًا بالرفاه والأمان (Jefferson, 2013).

قد يتواصل طالب هادئ يجلس على مقعد في آخر الصفّ تواصلًا أفضل مع معلّم يشجّعه بطرق هادئة. وقد يشعر الطالب الذي يسعى إلى لفت الانتباه بتلبية احتياجاته عندما يشجّعه المعلّم تشجيعًا مُعلَنًا، يريد به دفعه إلى دعم صوته وتحفيز دافعيّة التعلّم لديه. أن نعلن اهتمامنا بطلبتنا، أن نقول لهم إنّهم محبوبون، يثير استجابات نفسيّة وفسيولوجيّة في أجسامهم من شأنها أن تسهم في تدفّق هرمون السعادة (الدوبامين)، والتركيز (الإندورفين)، وتيسِّر مسارات المكافأة وتزيد من سرعة التشابكات العصبيّة، وهذا بدوره يؤدّي إلى استعداد جيّد ومتوازن نحو تعلّم أفضل. أظهر علماء النفس أنّ البشر بحاجة إلى أن يكونوا محبوبين؛ قد يكون هذا بالفعل أحد احتياجاتنا الإنسانيّة الأساسيّة، وأحد أهدافنا الأساسيّة في الحياة. وكما يقول البعض: هذا ما يجعل الحياة ذات معنى، وهذا ما يستحقّه الطالب... الحب والاهتمام. 

 

في فصل الفرنسيّة كلغة إضافيّة، على سبيل المثال، يتيح استخدامُ التعدّديّة اللغويّة، أو الاستخدام المتزامن للّغتين العربيّة والفرنسيّة، تأكيدَ الشعور بالأمان؛ فاللغة الأخرى لا تهدّد هويّة الطالب كما يظنّ بعض أولياء الأمور، بل هي تيسِّر عمليّة الاندماج، حيث يفكِّر الطالب بلغته الأمّ، ويجد الأفكار وينتقل إلى إمكانات الترجمة من دون خوف أو شعور بالإحباط. 

ونتذكّر في هذا السياق أنّ نظام التعلّم في البكالوريا الدوليّة ينبني على مثلّث مهمّ يتكوّن من ثلاثة عناصر أساسيّة، هي: صوت الطالب، وانتماؤه، واختياره. تحرّك دافعيّة هذه العناصر التعلّمَ، وتدفع القوّة المحرّكة للطالب حتّى يسير نحو تساؤل بنّاء ودائم. فكلّما شعر الطالب بإمكانيّة نقل التعلّم من لغة إلى أخرى من دون ضغط أو قيد، يتحسّن تدفّق الكلام عنده، وتتكوّن له شخصيّة قويّة وتفاعليّة. 

 

استمتع بالتجربة: كن شجاعًا ولطيفًا

عندما ينشئ المعلّم علاقات آمنة مع طلّابه، يعزّز نموّ شعورهم بالرفاهيّة والانتماء. من هنا، يتوجّب على المعلّم أن يأخذ بضع لحظات، ليتعرّف إلى الطرق التي يكسر بها الجليد الذي يحول بينه وطلّابه. فلا يخاف إذا فشل؛ إذ كلّ ما يقوم به محاولات، ولا وجود للفشل. هو يحاول أن يعيش مغامرات فريدة معهم، ويخبر نفسه أنّ العواطف جسر إلى الآخر، وليست حجرًا يمنع من الوصول إليه. 

وبما أنّ الطلّاب يقضون وقتًا طويلًا مع معلّميهم في المدرسة، يكون دعم المعلّمين حيويًّا للتطوّر الأكاديميّ للطلّاب؛ حيث يسهم الشعور بالرفاه والأمان في دعم استقلاليّة الطالب الذي لن يخشى المخاطرة والمبادرة والخطأ، لأنّه يشعر بدعم نفسيّ من المعلّم الذي يدعم هذا النوع من التعامل الممزوج بطابع المغامرة. تقوى شخصيّة الطالب نتيجة ذلك، وتتطوّر ثقته بنفسه لأنّه أزاح حاجز الخوف الذي كان يحرمه متعة التساؤل وشغفه، عندما أدرك قيمة المحيط الآمن الذي يعيش داخله. 

 

نحن لسنا آلات تدريس، بل كائنات مليئة بالعواطف والمشاعر، ويكمن دورنا في تسهيل بناء العلاقات مع الطلّاب بأفعال بسيطة، ولكنّها عميقة. لذا، ينبغي على المعلّم أن يسأل، مثلًا، إن تناول جميع الطلّاب وجبة الفطور، وماذا يأكلون ويتبادلون من الطعام. لحظة قصيرة وودّية تضفي إيجابيّة على مناخ الفصل، وهذا ما قد يُشعِر الطالب بالاهتمام، ويُعزِّز ثقته وشعوره. 

استمتع بعمليّة زراعة البذور، وثِق بأنّها ستنمو وتزدهر في حدائق تتجاوز حدائقك. يقول أنطونيو داماسيو، وهو طبيب الأمراض العصبيّة السلوكيّة وعلم الأعصاب: "ما زلت مفتونًا بحقيقة أنّ المشاعر ليست الجانب الغامض للعقل فحسب، بل إنّها تساعدنا على التوصِّل إلى قرارات أيضًا".

 

 

المراجع

  • Jefferson, Gail. (2013). Studies of Laughter in Interaction.
  • Bowlby, John. (1988). A Secure Base Parent-Child Attachment and Health Human Development.