فضفضة عابرة: ماذا لو لم يكن المعلّم على ما يُرام؟
فضفضة عابرة: ماذا لو لم يكن المعلّم على ما يُرام؟
2022/03/26
فيروز شريف | معلّمة لُغة عربيّة- الجزائر

ساعات من أعمارنا نقضيها بين جدران أقسام المؤسّسات التّربويّة الّتي نعمل بها. أي نعم، الأمانة التي اخترنا أن نحملها ثقيلة، لكن الذاكرة مكتظّة بما علينا أن نخبر به هذا العالم. في كلّ قسم يحدث أن ندرّس فيه طلّابنا، هُناك قصص كثيرة تستحقّ أن تُروى؛ كلمات قلناها، ولحظات فرح حدثَ أن عشناها، ولحظات أُخرى صعبة جدًّا مرّت وانقضت، صدمات وصِدامات، أُناس عرفناهم، وأُناس فارقناهم، أشخاص خابت الظّنون بهم، وآخرون وجدناهم عَكس ظنوننا السّيئة بهم. وفعليًّا قد صدق جميع من قال وأكّد بأنّ التّعليم ليس مجرّد وظيفة.

التّعليم حقّا ليس مجرّد وظيفة، التّعليم حياة قائمة بذاتها، أعمار تنقضي هناك، وأحداث تدور هنالك. أجراس تدقّ مُعلنة عن انقضاء حصصٍ تربويّة معيّنة، وبداية حصص تربويّة أُخرى، دموع، وانتصارات، صمت مريب، وابتسامات مدويّة، أصوات ممضوغة، وأخرى مسموعة على الرّغم من كلّ شيء وأيّ شيء.

من يدخل ميدان التّعليم ويعرفه ليس كمن يسمع عنه. هناك نساء ورجال على حدّ سواء، لا يستطيعون تحمّل صراخ أطفالهم وفلذات أكبادهم لدقائق معدودات، يُشعرهم الأمر بالتذمّر والضّياع، ويضغطهم فيتأفّفون دون وعي طوال الوقت، وهناك من لا يطيقون صبرًا على عملهم أثناء تواجدهم فيه، فما بالكم بمن يصطحبونه معهم أيضًا، غالبًا، إلى بيوتهم. الأستاذ أستاذ في قسمه، والمؤسّسة التربويّة التي يعمل بها، وأستاذ، أيضًا، في أحايين معيّنة في بيته. المذكّرات التربويّة تحاصره حتّى حين يرغب بالنّوم، أوراق الفروض والاختبارات الّتي تنتظر التصحيح، وقبل ذلك إعداد مواضيع الدروس، ومواضيع التعابير إن كان يدرّس لغات.

التّعليم حقيقة لا تشبه إلّا نفسها، بفصول متتالية، تعكس الواقع بكلّ ما فيه من تفاصيل. ملامح وجوه مألوفة وأخرى غير مألوفة، عقليّات مختلفة، أسماء هؤلاء وأولئك وطموحاتهم، ما يصرّحون به في العلن، وما يقولونه بأصوات خفيضة في الخفاء. التّعليم عالم آخر، يعرفه أبطاله الرئيسيّون كما يجب، ولدى كلّ منهم ما يسرده لو أتيحت له الفرصة لذلك، أو ربّما لو بقي له من الرّغبة ما يجعله يفكّر بفعل ذلك! هُنا في عالمنا في ميدان التّعليم أُناس تجتمع كلّ صباح، تقريبًا، أو مساء لتنجز المطلوب منها، التّوفيق وارد بطبيعة الحال، والفشل وارد أيضًا، لكن لا مجال للتوقّف. الميدان الّذي أشتغل فيه مُستمرّ كما الحياة، مستمرّ لا يتوقّف، لا بسبب غياب فلان أو مرض فلانة، أو وفاة هذا أو تلك، إنّه، وإن كنّا ندّعي بأنّه جزء فقط من حيواتنا، دوّامة تُبعدنا عنها أحيانًا، لتعيدنا صاغرين لحضنها.

ربّما يتساءل بعضكم ماذا بعد؟ بمعنى، هل على بعضهم مثلًا، الفرار بأنفسهم بعيدًا عن هذا القطاع، ليعيشوا ولا تُمضغ أعمارهم بصمت بين جدران أقسام مؤسّسات تربويّة معيّنة؟ طبعًا لا، لا أعني ذلك، وما يفهمه الأغيار متوقّف على فهمهم لا على ما قلته. وأعترف وبسرور، على الرّغم من أيّ شيء وكلّ شيء، بأنّ التّعليم تجربة متفرّدة ورائعة وماتعة، ماتعة لحدٍّ كبيرٍ، وشخصيًّا تعلّمت منها الكثير، وعرفت فيها ما لم أتصوّر أنّي سأعرفه من خلالها، وسُررت بخوض غمارها، لكن بالمقابل أتصوّر بأنّ أغلب من يعملون أساتذة، تنتابهم رغبة جامحة بين الحين والآخر، بأن ينتقلوا بعد انقضاء مدّة معيّنة إلى العمل الإداريّ، أو ربّما إلى قطاع آخر. الأمر ليس فرارًا من الأستاذيّة، أو ازدراء لها، بقدر ما هو فرار من التعوّد، الذي سيصيرُ بمرور السّنوات إلى انطفاء تدريجيّ، ونكران تامّ للذّات. ذلك لا يعني أنّ مهام الإداريّ سهلة، بالعكس تمامًا، ولكن على الأقلّ وظيفة الأخير تعفيه من الحديث باستمرار، ودون توقّف؛ تعفيه من التّظاهر بأنّه بحالٍ جيّدة أثناء قيامه بمهامه وإن لم يكن كذلك.

باختصار، التّعليم صديق عظيم جدًّا، لكن أجدّ بأنّه من المنطقيّ أن يأتي وقت يفكّر فيه من صادقوه، حقًّا وفعلًا، بالانفصال عنه دفعة واحدة. ويحضرني، في هذا المقام، ما ورد في رائعة نيكوس كازانتزاكيس الخالدة، رواية "زوربا اليونانيّ": "كم هو مرير أن ننفصل ببطء عن الأصدقاء العظام! من الأفضل الانفصال عنهم دفعة واحدة". المعنى أنّ التّعليم يحتاجنا لأجله أكثر ممّا نحتاجه لأجلنا، ولذا علينا غالبًا أن نكون ليكون هو، لا لنكون نحن. طبعًا في بلدان أخرى قد تختلف الأمور، لكن مع ذلك، محبّة أغلب التّلاميذ لأساتذتهم، وامتنانهم الصّادق لهم، وتقديرهم لأيّ جهد يبذلونه لنفعهم، يهوّن عليهم ما يعلمه الله وحده. ولأنّ أهل مكّة أدرى بشعابها كما يقال، فليس عيبًا أن يفكّر أيّ أستاذ بالانتقال إلى العمل الإداريّ أو الترقّي بمرور حفنة من السّنوات، لينعم لساعات بالتزام الصّمت أثناء عمله، فالرّاحة في العمل الإداريّ مُستبعدة لمن يعملون بضمير، لكن كما أتصوّر، عملهم لا يتطلّب الحديث في أغلب الأوقات، كما هو الحال بالنّسبة للأساتذة، طبعًا في ظلّ العمل بالمقاربة بالكفاءات العمليّة التّعليميّة لا تعتمد على التّلقين، لكن الأستاذ على الرّغم من ذلك، لا يمكن أن يسير درسه دون أن يتحدّث، وذلك ما يجعل أيّ عاقل في مواقف معيّنة يفكّر بتغيير الوظيفة وتغييرها، لا أعني به تركها هُنا، فلنتّفق على هذه النّقطة.

ويبقى ما قلته مجرّد فضفضة عابرة، وقد يتغيّر رأيي بمرور الأيّام، فالأمور تبدو أكثر وضوحًا بتجريبها أكثر، لا بالحديث عنها فقط.