"ماذا لو كانت الإنجليزيّة لعبة نكسب فيها نقاطًا كلّما تحدّثنا بطلاقة؟" سؤال طرحه الفريق القياديّ في "مدرسة الأحفاد" في إحدى جلساته التفكّريّة، فكان أن تحوّل إلى مبادرة واقعيّة ملموسة داخل المدرسة؛ ففي عالم تتحكّم فيه الإنجليزيّة بمفاتيح الوظائف والمنح الدراسيّة، يواجه السودان – مثل كثير من الدول النامية – فجوة تعليميّة حادّة: 52% من خرّيجي الثانويّة يعجزون عن كتابة فقرة متماسكة بالإنجليزيّة (المجلس الثقافي البريطانيّ، 2022). لكنّ تجربة "الأحفاد" تُظهر أنّ الحلّ قد يكمن في دمج التعليم باللعب، أو ما يُعرف بـ"التلعيب"، فحوّلت الخوف من اللغة إلى شغف بتعلّمها.
ما التلعيب؟ ولماذا ينظر إليه بوصفه أحد أكثر الأساليب فعّاليّة في القرن الحادي والعشرين؟
التلعيب (Gamification) ليس مجرّد ألعاب، بل استراتيجيّة تعليميّة حديثة تقوم على تحويل الأنشطة التقليديّة إلى تجارب تفاعليّة تُحاكي الألعاب، وذلك باستخدام عناصر مثل: النقاط والمستويات والشارات والمكافآت والتحدّيات. تُظهر الدراسات أنّ التلعيب يزيد من المشاركة، ويُعزّز الاحتفاظ بالمعلومات بنسبة تصل إلى 40% مقارنة بالطرق التقليديّة (Deterding et al., 2011)، وله دور فعّال في تحفيز السلوك وتحسين الأداء، ما يُسهم في إنعاش الدافعيّة الذاتيّة والانخراط الفعّال في عمليّة التعلّم – خصوصًا في البيئات التي تُعاني ضعف الموارد، كما هو الحال في كثير من المدارس السودانيّة. وتُؤكّد نظريّة التحديد الذاتيّ (Self-Determination Theory) في علم النفس، أنّ الإنسان يُطوّر دوافعه الذاتيّة عندما يشعر بالكفاءة والاستقلاليّة، وهذا بالضبط ما يُتيحه التلعيب: تحويل المهامّ الدراسيّة إلى مغامرات جماعيّة ممتعة، تُعزّز الشعور بالنجاح والاستقلاليّة.
بين التحدّيات البنيويّة وفرص الابتكار التعليميّ
لفهم تجربة "مدرسة الأحفاد"، لا بدّ من التعرّف إلى السياق التربويّ المعقّد الذي تعمل فيه:
تعدّ "مدرسة الأحفاد الثانويّة" – التابعة لجامعة الأحفاد للبنات في السودان – نموذجًا رائدًا في تبنّي استراتيجيّات تعليميّة مبتكرة. فمنذ انطلاقتها في مشروع "تمام" التطويريّ سنة 2016، قطعت المدرسة أشواطًا ملحوظة في تحسين تعلّم اللغة الإنجليزيّة. وقد تُوّجت هذه الجهود بإصدار تقرير ختاميّ مفصّل سنة 2024، يُوثّق الإنجازات ويضع معايير جديدة للتميّز الأكاديميّ (التقرير الختاميّ، 2024). في مسيرتها، واجهت المدرسة تدنّيًا ملحوظًا في نتائج الطالبات في مادّة اللغة الإنجليزيّة، وتشير بيانات التقرير إلى تدنٍّ واضح في أداء طالبات الصفّين الأوّل والثاني الثانويّين، وفقًا لنتائج السنتين الدراسيّتين (2015 – 2017). وقد أُرجِع ذلك إلى جملة من الأسباب، أبرزها:
- - مناهج غير ملائمة: يعتمد منهج (SPINE) المقرّر من وزارة التربية السودانيّة على الحفظ، ويهمل تنمية المهارات العمليّة.
- - نقص الموارد: تفتقر 70% من المدارس إلى معلّمين مؤهّلين أو أدوات تفاعليّة (تقرير مشروع تمام، 2024).
- - خوف الطالبات: تظهر استبانة أجرتها المدرسة أن 80% من الطالبات يشعرن بالخوف من التحدّث بالإنجليزيّة أمام الآخرين.
غير أنّ هذه التحدّيات، بدلًا من أن تكون عائقًا، وسببًا لاستمرار النتائج غير المرضية، شكّلت حافزًا للبحث عن حلول تعليميّة مبتكرة غير تقليديّة.
من الفصول الصامتة إلى منصّات التحدّي: كيف طبّقت "الأحفاد" التلعيب؟
1. البداية (2016 – 2017): إصلاح المنهج وتدريب المعلّمين
بدأت المدرسة أولى خطواتها سنة 2016 بمشروع "تمام"، بالشراكة مع جامعة الأحفاد للبنات والجامعة الأمريكيّة في بيروت، وتركّزت المرحلة الأولى على:
- - تطوير منهج مساند (Skills in English) يركّز على المهارات الأربعة الأساسيّة.
- - تدريب المعلّمين على استراتيجيّات التعلّم النشط، والمتمركز حول المتعلّم.
وكان التحدّي الأكبر يتمثّل في كسر حاجز الصمت لدى الطالبات، والخجل الذي يعيق تفاعلهنّ داخل الفصول.
2. المرحلة الانتقاليّة (2018): التجربة الأولى مع التلعيب
على الرغم من الجهود المبذولة، لاحظ الفريق القياديّ أنّ التحسين في مهارات الطالبات كان محدودًا. دفعهم ذلك إلى إجراء استبيان كشفَ أنّ 80% من الطالبات يفضّلن التعلّم عبر الأنشطة الحركيّة والتفاعليّة. ومن هنا بدأت أولى محاولات إدماج التلعيب في العمليّة التعليميّة، عن طريق:
- - مسرحيّات تفاعليّة: مثل تمثيل حوارات في مطعم أو مستشفى، مع منح نقاط على الدقّة والطلاقة.
- - مسابقات كتابيّة: تتنافس فيها الفرق في تأليف قصّة قصيرة في وقت محدّد.
3. الذروة (2020 - 2023): نظام المستويات المتصاعدة
بحلول سنة 2020، أصبح التلعيب استراتيجيّة معتمدة في تطوير مهارات اللغة الإنجليزيّة لدى طالبات الصفّين الأوّل والثاني الثانويّين. ومن أبرز ملامح هذه المرحلة:
- - بطاقات المهامّ التراكميّة: تجمع الطالبات بواسطتها نقاطًا تُحوّل إلى شهادات (مبتدئة إلى خبيرة).
- - صيد الكلمات العلميّة: نشاط يدفع الطالبات إلى البحث عن مصطلحات إنجليزيّة في موادّ غير لغويّة، مثل الفيزياء والكيمياء والحاسوب والفنون والموسيقى.
- - تقييم مرح: استبدال الامتحانات التقليديّة بنظام "المستويات"، بحيث تُقاس مهارات الطالبة في التحدّث والكتابة الإبداعيّة.
وبهذه الأنشطة، تحوّلت الفصول الدراسيّة إلى ساحات إبداعيّة مليئة بالتحدّيات الجماعيّة والمستويات التصاعديّة، في بيئة تعليميّة تُحفّز التعلّم الذاتيّ، وتمنح الطالبات شعورًا بالإنجاز والتقدّم المستمرّين.
توظيف التلعيب في تنمية المهارات الأربع في اللغة الإنجليزيّة
يمكن دمج آليّات الألعاب – مثل النقاط والتحدّيات والمكافآت – في سياق تعليميّ بحت، لتحويل مادّة اللغة الإنجليزيّة إلى تجربة تفاعليّة تحفّز الطلاب على المشاركة والانخراط. وفي تجربة مدرسة الأحفاد، لم يكن التلعيب مجرّد أداة للترفيه، بل مثّل منهجيّة مخطّطة لتعزيز التعلّم الذاتيّ وتذليل صعوبات اللغة، بتحويل المهارات المجرّدة إلى مهامّ ملموسة وشيّقة.
تركّز خطّة مشروع "تطوير أداء الطالبات في اللغة الإنجليزيّة" في المدرسة، على تنمية المهارات الأربع (الاستماع والقراءة والتحدّث والكتابة)، عن طريق أنشطة عمليّة وتفاعليّة. وقد أسهم إدخال عناصر التلعيب في تعزيز هذا النهج، على النحو الآتي:
- - الاستماع: تصميم تحدّيات استماع على شكل "مهامّ سرّيّة"، تحصد فيها الطالبة نقاطًا عند إتمام التمرين بدقّة.
- - القراءة: إدراج قصص قصيرة متدرّجة في الصعوبة، تُمنح فيها شارات تميّز عند اجتياز كلّ مستوى، ما يعزّز الشعور بالإنجاز.
- - التحدّث: اعتماد نظام "المهامّ الجماعيّة الشفهيّة" (Group Speaking Quests)، بحيث تتعاون الطالبات على حلّ لغز عن طريق الحوارات، ما يعزّز التفاعل ومهارات التواصل الشفهيّ.
- - الكتابة: تنظيم مسابقات أسبوعيّة لكتابة فقرات أو رسائل قصيرة، مع عرض أفضل المشاركات على "لوحة الشرف".
أثر التلعيب: من الخوف إلى التحدّي
تُظهر الدراسات أنّ إدماج عناصر التلعيب في التعليم، قد يرفع من مستويات انخراط الطلّاب في الأنشطة بنسبة تصل إلى 70%، ويُحسّن تحصيلهم الأكاديميّ بأكثر من 30% مقارنة بالأساليب التقليديّة. وعند إسقاط هذه المعطيات على تجربة "مدرسة الأحفاد"، يتّضح أنّ التلعيب لم يكن مجرّد وسيلة ترفيهيّة، بل أضاف بُعدًا تحفيزيًّا بالغ الأهمّيّة، خصوصًا في ظلّ التحدّيات الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تُثقل كاهل العمليّة التعليميّة.
لم تكن الأرقام وحدها ما تغيّر. فقد قفزت النسبة في اللغة الإنجليزيّة من 45% إلى 65% خلال عامَين فقط، وارتفعت نسبة مشاركة الطالبات في الأنشطة اللغويّة بنسبة 40%. أمّا من حيث الطلاقة، فتقول إحدى الطالبات في التقرير الختاميّ:
"كنتُ أتلعثم عند النطق بكلمة (Hello)، أمّا اليوم فأنا أُقدّم عروضًا مسرحيّة كاملة بالإنجليزيّة!"
تُثبت تجربة "الأحفاد" أنّ كسر حاجز الخوف لا يتطلّب دائمًا مزيدًا من الموارد، بل أحيانًا يكفي تغيير طريقة اللعب.
عوائق التلعيب في بيئات محدودة الموارد: الواقع والتجاوز
على الرغم ممّا يُتيحه التلعيب من إمكانيّات واعدة، إلّا أنّ تطبيقه في البيئات محدودة الموارد – مثل السودان – يواجه عوائق تستدعي المراجعة والتأمّل، أبرزها:
- - ضعف البنية التحتيّة التقنيّة: إذ تعاني أغلب المدارس انعدام الاتّصال بالإنترنت، أو حتّى غياب أجهزة الحاسوب الأساسيّة.
- - قلّة التدريب المهنيّ للمعلّمين: أظهر تقرير "الأحفاد" أنّ 70% من المعلّمين لم يتلقّوا أيّ تدريب متخصّص في تصميم الأنشطة التعليميّة التفاعليّة، ما أدّى إلى استمرار الاعتماد على التلقين والإلقاء.
- - ضغط المناهج وضيق الزمن المدرسيّ: تُخصّص للغة الإنجليزيّة حصص أسبوعيّة محدودة في معظم المدارس، ما يجعل إدماج أنشطة تفاعليّة أمرًا صعبًا، من دون التأثير في سير المقرّرات الأخرى.
ومع ذلك، تؤكّد تجربة "مدرسة الأحفاد" أنّ التلعيب لا يتطلّب أدوات رقميّة معقّدة، بل يمكن تفعيله باستخدام أنشطة ورقيّة وشفهيّة مصمّمة بإبداع. ومن بين أبرز هذه الأنشطة:
- - بطاقات المهامّ التراكميّة: تُمنح فيها الطالبات نقاطًا عند إنجاز تمارين محدّدة، تُحوّل لاحقًا إلى "شهادات تفوّق".
- - مسرحيّات الحوار السريع: تحاكي مواقف حياتيّة بسيطة، مثل طلب وجبة أو زيارة طبيب، ما يساعد في تعزيز الطلاقة بطريقة ممتعة وعمليّة، من دون الاعتماد على التكنولوجيا.
وقد أثبتت هذه البدائل فعّاليّتها، إذ لم تقتصر على تحسين التحصيل الأكاديميّ، بل أسهمت أيضًا في رفع نسبة مشاركة الطالبات في الأنشطة الصفّيّة، وفقًا لقياسات المشروع.
***
تمثّل تجربة "مدرسة الأحفاد" نموذجًا واعدًا لتطوير تعليم اللغة الإنجليزيّة في بيئة مليئة بالتحدّيات. وإذا أُعيد تصميم جميع الأنشطة التعليميّة ضمن إطار تلعيبيّ متكامل، فإنّ المدرسة ستقترب أكثر من تحقيق رؤيتها في تمكين الطلّاب أكاديميًّا واجتماعيًّا، بما يعزّز ثقافة تعليميّة جديدة، قوامها الحافز والتفاعل والتمكّن.
ولعلّ أهمّ ما يمكن استخلاصه من هذه التجربة، أنّ الابتكار التربويّ لا يحتاج إلى موارد خارقة، بل إلى عقل يؤمن بالتغيير، وبيئة تحتفي بالتجريب، وفريق يرى في الطالب محورًا لا متلقّيًا.
المراجع
- المجلس الثقافيّ البريطانيّ. (2022). تقرير عملنا في التعليم.
- مشروع تمام. (2024). التقرير النهائيّ لرحلة التطوير: تحسين أداء الطالبات في اللغة الإنجليزيّة الصفّ الأوّل والثاني، مدرسة الأحفاد الثانويّة. السودان.
- وزارة التربية والتعليم – السودان. (دون تاريخ). SPINE: منهج مقرّر.
- وزارة التربية والتعليم – السودان. (دون تاريخ). Skills in English: منهج إضافيّ أدخل مع المنهج المقرّر للتحسين والمعالجة.
- 5 Deterding, S., Khaled, R., Nacke, L. E., & Dixon, D. (2011). Gamification: Toward a definition. In Proceedings of the CHI 2011 Gamification Workshop (pp. 12–15).