دعوا الواقع يصير معلّمًا!
دعوا الواقع يصير معلّمًا!
بنان منصور | معلّمة صفّ- الأردن

مقدّمة

لاحظتُ، إثر ما شاهدتُه في بعض المدارس، أنّ التعليم ليس على ارتباط وثيق بالحياة الواقعيّة، فالمعرفة تُقدَّم في الموادّ الدراسيّة منفصلة عن الحياة العمليّة، كما لاحظتُ أنّ بعض المعلّمين يهملون ربط التعليم بالواقع، على الرغم من أهميّة هذا الربط في تنمية مهارات التفكير والاستكشاف والتواصل الفعّال وتثبيت المعلومات، فضلًا عمّا يضيفه إلى الحصّة الدراسيّة من متعة، وما يتيحه من فرص أمام المتعلّم للإبداع والابتكار. أمّا أساليب التعليم التقليديّة فلا تلبّي طموح المتعلّمين في أغلب الأحيان، إذ تعتمد على التلقين السلبيّ الذي يكون فيه دور المتعلّم هامشيًّا، بل لا يكتمل التعلّم لديه، بحيث تكون المعلومات نظريّة مجرّدة، تنتهي في ذهنه بانتهاء العام الدراسيّ.

من أجل ذلك، كان لا بدّ من تغيير استراتيجيّة التعليم بطرق تدمج المتعلّمين بالحياة الواقعيّة، في سبيل الحصول على جودة عالية من المعرفة المستمرّة، إذ إنّ مبدأ التعليم استمرار المعرفة وتطويرها بحسب المرحلة العمريّة وربطتها بالحياة الواقعيّة، لتساعد المتعلّمين على الاندماج فيها والتعامل مع مواقفها بسهولة. من هنا جاءت أهمّيّة ربط التعليم بالمهارات الحياتيّة. 

يهدف هذا المقال إلى توضيح أهميّة ربط التعليم بالحياة العمليّة والمواقف الواقعيّة، وذلك بالاستناد إلى بعض الأمثلة والتجارب التي نفّذتها مع طلّاب الصفّ الأوّل. وعليه، أبدأ المقال بحديث نظريّ أحدّد فيه مفهوم التعليم المرتبط بالواقع وصفات المعلّم المتجدّد، ثمّ أنتقل إلى عرض تجربتي بتقديم ثلاثة أمثلة أنموذجيّة.

 

التعليم المرتبط بالواقع والمعلّم الواقعيّ

 

مفهوم التعليم المرتبط بالواقع

يرى كلّ من تويج والزهراني (2018)، وعبد الرؤوف ومحمّد (2019) أنّ التعليم المرتبط بالواقع يعني ربط المواقف التعليميّة بالمواقف الحياتيّة، وهي السياق الذي يتمّ فيه التعليم ويستمرّ بناء مهارات التفكير العليا، كالتفكير الإبداعيّ وحلّ المشكلات، فضلًا عن المعارف التي تربطه بواقع الحياة التي يعيشها، وبالتجارب التي يختبرها.  

تكمن أهميّة هذا التعليم أيضًا في إعداد المتعلّمين للمستقبل من خلال الأمثلة الحيّة التي يمارسونها في العمليّة التعليميّة، وفي زيادة وعيهم بالمفاهيم الواقعيّة، وبناء ثقتهم بأنفسهم بما يجدونه من حلول للمشكلات التي تواجههم وبما ينمو لديهم من مهارات التواصل والحوار، بالإضافة إلى إثارة تفكيرهم وفق ما يطرحونه من أسئلة افتراضيّة، ناهيك عن تحقيق الاستقلاليّة والقدرة على اتخاذ القرار، وذلك من خلال اختيارهم النشاط المحبّب إليهم.

من هذا المنطلق، اقترح ديلور (1996) رؤية متكاملة للتعليم، تستند إلى مفهومين رئيسيّين: التعلّم مدى الحياة، والأركان الأربعة للتعليم التي تقتضي من المتعلّم أن يتعلّم: أن يعرف، وأن يفعل، وأن يكون، وأن يتعايش، مشترطًا أن تكون معرفة المتعلّم عامّة وواسعة، وأن يكون فعله مرتكزًا على اكتسابه المهارات التي تعينه على التعامل مع المواقف الحياتيّة، فضلًا عن ضرورة تطوير شخصيّته لصبح قادرًا على التصرّف بمسؤوليّة واستقلاليّة، وعلى فهم الآخرين واحترام الرأي الآخر.

 

كيف أكون معلّمًا واقعيًّا ومتجدّدًا؟

تكمن الإجابة على هذا السؤال في العمل على تطوير المهارات التعليميّة في مختلف المجالات، ولذا، يجب ألّا يقف المعلّم عند حدود المنهاج المدرسيّ، بل يأخذ المعرفة من المصادر المتنوّعة ليصبح متميّزًا ومؤهّلًا، من أجل إكساب المتعلّم معلومات خارج النطاق التقليديّ في التعليم، فالبحث عن التجدّد يدفع بالمتعلّم إلى البحث عن المعلومة من مصادر مختلفة، مع ضرورة توجيهه إلى المصادر الموثوقة.

لأتمكّن من تحقيق ذلك، كان عليّ الاطّلاع على التجارب والخبرات المتّصلة بالتعليم المرتبط بالواقع، فضلًا عن تجديد مهاراتي في المجالات كافّة، كي أكون قادرة على مواكبة مستجدّات التعليم. فمن المهارات التي ساعدتني على تحقيق ربط التعليم بالحياة الواقعيّة التخطيط الجيّد للعمليّة التعليميّة، والتخطيط للنشاطات، بالإضافة إلى التجارب والخبرات التي اكتسبتها.

من هنا، أعتقد أنّ أسلوب التعليم للحياة يعدّ محفّزًا لمهارات التفكير، وأنّ تطبيق هذا النمط من التعليم في مرحلة الصفوف الأساسيّة الدنيا مهمّ جدًّا في العمليّة التعليميّة، إذ من شأنه أن يجعل التعليم ممتعًا وجذّابًا، وأن يكشف ميول المتعلّم وهواياته.

 

 أمثلة تطبيقيّة حول التعليم المرتبط بالواقع

يمكن تطبيق التعليم المرتبط بالواقع في المراحل الدراسيّة المُبكِرة، وذلك بتنظيم نشاطات صفّيّة ولاصفيّة، أو باستخدام غرفة الأركان التعليميّة التي تعدّ جزءًا مهمًّا في العملية التربويّة، ولا سيّما في رياض الأطفال والصفّ الأوّل، والتي تتمّ باختيار كلّ طالب الركن والنشاط الذي يشبع حاجاته ويرضي ميوله، ما يسهم في تحقيق تواصل فعّال بين المتعلّمين، وتطوير مهارة الحوار واتخاذ القرار لديهم. ومن الأركان المهمّة التي ترتبط بواقع الحياة ركن الموسيقى، وركن المنزل، وركن الاكتشاف، وركن المكتبة، وركن الفن، وركن الابداع، وركن إعادة التدوير... وليس من الضروريّ أن تكون جميع الأركان موجودة، إذ يعتمد ذلك على مساحة الصفّ، ومدى توافر غرفة خاصّة بها، بالإضافة إلى إمكانات المدرسة والمعلّم. وسأعرض هنا ثلاثة أمثلة من واقع تجربتي التعليميّة.

 

دكّان الحساب

دفعني إلى هذا النشاط ما يواجهه متعلّمو الصفّ الأوّل من صعوبة في مفاهيم الجمع والطرح، فنفّذت نشاطًا تعليميًّا أسميته "الدكّان الصغير"، يربط المتعلّم من خلاله المفاهيم الحسابيّة بالواقع، حيث يؤدّي أحد المتعلّمين دور التاجر، ويؤدّي آخر دور المشتري، فيحدّد التاجر أسعار السلع الموجودة ضمن مجسّمات، والعملة المُعبَّر عنها ببطاقات تمثّل قيمة فئات العملة النقديّة، والتي يتمّ تطبيق المفاهيم الحسابيّة من خلالها، كما تمّ ربط النشاط بالقيم الأخلاقيّة، كالأمانة والصدق.

أدّى النشاط إلى تبسيط عمليّة الحساب للمتعلّمين، ولا سيّما في المرحلة الأساسيّة الدنيا، إذ أصبحت عمليّة الحساب ممتعة وغير معقّدة، ما جعل المتعلّمين يعشقون حصّة الرياضيات. وتجدر الإشارة إلى أنّ ممارسة هذا النشاط يجعل المتعلّمين قادرين على الحساب بشكل ذهنيّ، ويساعدهم في عمليّة الشراء دون أن يتمّ خداعهم. أمّا الهدف من النشاط فيكمن في تمكين المتعلّم في مرحلة مبكرة من إدراك الجدوى من دراسة المفاهيم الحسابيّة، وعلاقتها بمواقف الحياة الواقعيّة التي يواجهها في حياته، فضلًا عن غرس بعض القيم والمبادئ التي يتوجّب اكتسابها منذ الصغر.

 

التعلّم بالزراعة

هدفتُ من النشاط إلى إجراء تطبيق عمليّ في مادّة العلوم بطريقة ممتعة وجذّابة، خرجتُ بها عن المألوف وكسرت الجمود الذي يكسو المواد العلميّة شكل عامّ، فمن الصعب عادةً تعليم الصغار المفاهيم العلميّة المجرّدة. لذلك، طبّقنا درس "أجزاء النبات" عمليًّا بزراعة النباتات في حديقة المدرسة، وبعرضها أمام المتعلّمين، وقد تابع المتعلّمون مجموعات النباتات التي زرعوها، واستمرّت متابعتهم لها بعد انتهاء السنة الدراسيّة. لفت انتباهي إلى هذا الأمر أحد المتعلّمين، إذ كان يتابع ما زرعه بعد خروجه من المدرسة، ما يدلّ على تحقّق استمراريّة التعليم عنده.

 

التعلّم بالأدوار

درّبتُ المتعلّمين على تأدية أدوار مختلفة، أردتُ بها منحهم أدوارًا يعزّزون من خلالها ثقتهم بأنفسهم، مثل دور المعلّم الصغير، حيث يؤدّي المتعلّم دور المعلّم بشرح فكرة بسيطة أمام زملائه بأسلوبه الشخصيّ، أو مثل دور الكاتب المبدع الذي كتب فيه المتعلّمون جملة أو جملتين تعبِّر عن شعورهم أو عن موقف مرّوا به، ثمّ قرأ كلّ متعلّم جملَهُ أمام زملائه. وقد أثّرت فيّ طالبة حين قدّمت خاطرة بسيطة، عبّرت بها عن حبّ الوطن أمام جميع طلّاب المدرسة، وهي في الصف الأوّل. فهذا الأسلوب يمنح المتعلّم الثقة بنفسه، ويساعده على اكتشاف مواهبه.

 

خاتمة

بناءً على التجارب التي نفّذتها مع طلّابي، شعرتُ أنّ هذه الأساليب التعليميّة المبنيّة على الواقع منحتهم القدرة على تحمّل المسؤوليّة بما أنجزوه من مهمّات طُلِبت إليهم، وساعدتهم في اتخاذ القرار، وذلك باختيارهم مثلًا الركن الذي يرغبون به، أو الدور الذي يحبّون تأديته، من معلّم، أو كاتب مبدع، أو رسّام ماهر، كما شعرتُ أنّ الأمثلة السابقة ساعدت في صقل مهارات المتعلّمين الفنيّة والعمليّة، ولا سيّما في ركن الابداع وإعادة التدوير، وطوّرت لديهم مهارة الحوار والتواصل عن طريق لعب الأدوار ومناقشة الأسئلة، وغرست فيهم أهمّيّة المشاركة الاجتماعيّة في النشاطات المجتمعيّة، مثل زراعة حديقة المدرسة، أو تكريم عمّال الوطن، وأسهمت في تنمية القدرات العقليّة لديهم من تخيّل وتحليل، وجعلتهم يمارسون أدوارًا فعّالة في عمليّة التعليم، حيث كانوا محور الممارسات والنشاطات وليسوا الأطراف المتلقّين فيها. 

من هنا، نجد أنّ الواقع اليوميّ المعاش كان معلّمًا مساعدًا لا يقلّ أهمّيّة عن المعلّم وأدواته الصفّيّة، إذ قدّم اقتراحات وممارسات جعلت المتعلّمين قادرين على مواكبة التطوّر وحلّ المشكلات، ومفكّرين خارج النطاق التقليديّ، ومستعدّين لخوض تجارب الحياة، ولا يخافون التغيير.

 

المراجع

تويج، سليمان، والزهراني علي. (2018). مدخل إلى التعلّم النشط. دار اللؤلؤة للنشر والتوزيع.

ديلور، جاك. (1996). التعلّم: ذلك الكنز المفقود. اليونسكو.

عبد الرؤوف، طارق، ومحمّد، ربيع. (2019). الصف المتمايز. دار اليازوري العلميّة.