تتّسم الرياضيّات بوصفها علمًا، بمجموعة من الخصائص، مثل اعتمادها في بنائها المعرفيّ على المنطق والاستدلال بدرجة كبيرة وأساسيّة. كما تتّسم بالتركيب القويّ المتناسق بين مكوّناتها من تعاريف ونظريّات، بالإضافة إلى اللغة الرسميّة التي تعتمد عليها، والتي تميل بدرجة كبيرة إلى التجريد، المتمثّل في الرموز والأعداد والأشكال.
واقع تدريس الرياضيّات
تتميّز ممارسات تدريس الرياضيّات في كثير من الأحيان بالتركيز على التلقين والشرح المباشر، إذ تُقدّم المفاهيم والقواعد بشكل مجرّد وجاهز، من دون منح المتعلّم فرصة للملاحظة أو الاستكشاف أو التحليل الذاتيّ. هذه الطرق تجعل المتعلّم متلقّيًا سلبيًّا للمعرفة، ما يقلّل من تفاعله، ويُضعف متعته في تعلّم الرياضيّات. نتيجة لذلك، تظهر مشاكل متنوّعة لدى المتعلّمين، مثل الخوف والقلق من الرياضيّات، وضعف في فهم المفاهيم الرياضيّة، وتراجع في قدراتهم الإبداعيّة.
التعلّم بالمتعة
وبناءً على ما تقدّم، هناك حاجة ملحّة تقتضي إعادة النظر في الممارسات التعليميّة لتقديم المحتوى الرياضيّ، والانتقال إلى استراتيجيّات جديدة تركّز على المتعلّم، وتتجاوز التلقين إلى تجارب تعليميّة غنيّة تشجّع المتعة والشغف بالتعلّم. هذه الاستراتيجيّات لا تهدف فقط إلى نقل المعرفة، بل إلى تمكين المتعلّمين من اكتساب المهارات والمعارف، بإيجاد التوازن بين الأهداف الأكاديميّة ومتعة التعلّم. فلم يعد التعلّم للمتعة ترفًا، بل حاجة ملحّة تعزّز رؤية إنسانيّة عادلة للمتعلّم. ويعكس الفنّ هذا التوجّه، بقدرته على إثارة المتعة والسعادة في التجربة التعليميّة.
في ضوء ما سبق عرضه، يتحدّد السؤالان الرئيسان لمقالنا:
- كيف يمكن للفنون أن تكون عاملًا مساعدًا في خلق متعة تعلّم الرياضيّات لدى المتعلّمين، وتنمية دافعيّتهم إلى تعلّمها؟
- ما الفنون التي يمكن استخدامها لتدريس الرياضيّات للمرحلة الابتدائيّة؟
الحكاية والرياضيّات
باستكشاف تجربتنا الشخصيّة، نطمح إلى تقديم إلهام للمعلّمين الآخرين، لاستخدام الفنّ أداة تعليميّة تكميليّة في تدريس الرياضيّات، ما يتيح الفرصة للطلّاب لاستكشافها من زوايا جديدة.
- الحكاية وجدول الضرب
يُعدّ تعليم الضرب بالحكاية من الأساليب الجديدة والمبتكرة والمحفّزة على الحفظ، عن طريق تحويل الأرقام إلى صور، ثمّ ربط الصور بحكايات مشوّقة وغريبة ومضحكة ومحفّزة على التعلّم. تعتمد أمل أبو مسلّم هذه الطريقة، عن طريق "ربط الأرقام بالحكايات والصور"، لجعل الأرقام أكثر ارتباطًا بالعقل، وبالتالي تذكّرها بسهولة. تقوم الفكرة، بحسب الكاتبة، على تحويل الأرقام إلى صور مرتبطة بحكايات بسيطة يمكن تذكّرها سريعًا، بحيث ترمز كلّ صورة إلى شيء واقعيّ. اختيرت الصورة المناسبة لكلّ رقم من 0 إلى 9 بعناية فائقة، تراعي أسرار الذاكرة والقدرة على التذكّر من مرّة واحدة فقط، اعتمادًا على شيفرة ومنطق يفهمهما الدماغ.
بعد وضع صور ذهنيّة للأرقام، انتقلت الكاتبة إلى ربط ضرب كلّ عددين بقصّة مشوّقة وغريبة، فكلّما زادت الغرابة، زادت سهولة التذكّر (أبو مسلّم، 2021).
- حكاية من حكايات جدول الضرب
المكان: المحكمة.
ساعتان رمليّتان 8 × 8 (حسب الشيفرة أعلاه 8 هي الساعة الرمليّة) تحتكمان إلى القاضي لحلّ مشكلة بينهما. تدخلان قاعة المحكمة، أمامهما مباشرة كرسيّ كبير 4 يصل إلى سقف القاعة. أين القاضي؟ نحلة صغيرة 6 بلباسها الأسود تجلس على الكرسيّ، إنّها القاضي. الجواب: كرسيّ ونحلة 64 (أبو مسلّم، 2021، ص 46).
تجربتي في تدريس جدول الضرب باستخدام الحكاية
أستطيع القول: كانت واحدة من أكثر التجارب التعليميّة نجاحًا وإبداعًا. لطالما كان حفظ جدول الضرب تحدّيًا للطلّاب الصغار، لكنّني وجدت في تحويله إلى قصص وسيلة فعّالة وممتعة، لتبسيط المفهوم وجعله أكثر قربًا من عالمهم.
لم يكن التفاعل الذي حصلت عليه مجرّد إجابات صحيحة، بل أيضًا مشاركات إبداعيّة من الطلّاب. بدؤوا في إعادة الحكايات، بل أبدعوا فيها، ما جعلني أشعر بأنّهم لا يفهمون المفهوم الرياضيّ فحسب، بل يستمتعون أيضًا بتطبيقه في سياق القصّة.
الدراما ودرس النقود
بتقديم درس النقود لتلاميذ المرحلة الابتدائيّة، لاحظنا أنّ العديد منهم يواجهون صعوبات في التعامل مع المبادلة النقديّة، سواء كانت مبادلة قطعة نقديّة بأخرى، أو مبادلة عدّة قطع بقطعة واحدة. كما يواجهون صعوبة في التعامل مع الأوراق النقديّة في وضعيّات حياتهم اليوميّة.
ولحلّ هذه المشكلة، استخدمنا الدراما في درس النقود. كانت تجربة ناجحة ومثيرة بالنسبة إلى الجميع. قرّرنا تنفيذ هذه الاستراتيجيّة، لأنّنا أردنا تشجيع التفاعل والمشاركة النشطة في الفصل، وجعل عمليّة التعلّم ممتعة.
قسّمنا الطلّاب إلى مجموعات صغيرة، وأعطينا كلّ مجموعة مشهدًا يتعلّق بمفاهيم النقود. تمكّن الطلّاب من اختيار الأدوار التي يرغبون في تجسيدها، وتطوير حواراتهم وحركاتهم المسرحيّة. كما وفّرنا الموادّ والملحقات اللازمة للتمثيل، مثل الأزياء والأدوات الماليّة المصغّرة.
بالعروض المسرحيّة، كانت لدينا فرصة لتناول المواضيع الماليّة المختلفة، مثل عمليّة البيع والشراء؛ إذ يجسّد الطلّاب زبائن يزورون سوقًا ممتازة، وآخرون يقومون بدور أمين الصندوق (الصرّاف). وبعد اقتنائهم ما يحتاجون من البضائع المعروضة أمامهم، يتّجهون إلى الصندوق لأداء ما عليهم، مستخدمين نقودًا حقيقيّة، ما مكّنهم من تطبيق المفاهيم في سياق واقعيّ، واستكشاف التحدّيات والقرارات الماليّة المختلفة.
بعد العروض، أجرينا مناقشات مع الطلّاب حول المفاهيم الماليّة والتحليلات والتجارب الشخصيّة التي اكتسبوها بالتمثيل. كانت هذه المناقشات فرصة رائعة لتعزيز التفاهم، وتبادل الأفكار، وتعزيز الثقة في مهاراتهم الماليّة.
وباستخدام الدراما، تمكّنّا من جعل عمليّة التعلّم ممتعة وشيّقة، وتعزيز فهم الطلّاب المفاهيمَ الماليّة بشكل أفضل. كما ساعدتنا في بناء جوّ تعاونيّ في الفصل، إذ تفاعل الطلّاب وتعاونوا مع بعضهم البعض في إعداد العروض المسرحيّة وتقديمها.
الفنّ التشكيليّ والزوايا
الفنّ التشكيليّ يمكن أن يكون أداة قويّة في تدريس الرياضيّات. يمكن استخدام العناصر الفنّيّة، مثل الأشكال والألوان والنماذج، لتوضيح المفاهيم الرياضيّة بطريقة بصريّة وملموسة.
قمنا بتجربة استخدام الفنّ التشكيليّ في تدريس الرياضيّات للمرحلة الابتدائيّة في درس الزوايا. في بداية الدرس قدّمنا مفهوم الزوايا، وشرحنا الخصائص والصفات الرئيسة لكلّ نوع منها: حادّة وقائمة ومنفرجة ومستقيمة.
ثمّ سألنا الطلّاب عن الأماكن التي قد يرون فيها الزوايا، مثل زوايا الغرفة، أو الكتب المفتوحة، أو مقاعد السيّارة. بعد ذلك، وفي نشاط تطبيقيّ، عرضنا لوحة فنّيّة للفنّانة التشكيليّة المغربيّة الشعيبيّة طلال. وبعد التعريف بهذه الفنّانة العصاميّة، وجّهنا النقاش والتفاعل بين الطلّاب بشكل استباقيّ، بحيث استُخدمت العناصر البصريّة الموجودة في اللوحة، مثل الأشكال والخطوط والألوان، لتوضيح الزوايا وتجسيدها بشكل بديهيّ ومفهوم.
بالأنشطة الفنّيّة الملموسة، يُعزّز الاستكشاف والتفاعل النشط للطلّاب مع الزوايا، ويُشجّعون على إنشاء أعمال فنّيّة خاصّة بهم تمثّل الزوايا الموجودة في اللوحة، باستخدام الأشكال والألوان والتراكيب المختلفة. هذا النوع من الأنشطة يساعد الطلّاب في تطوير مهاراتهم الفنّيّة والابتكاريّة، ويعزّز تعبيرهم الفرديّ والتعاونيّ.
وبالنقاش والتفاعل الجماعيّ، يمكن للطلّاب تبادل الأفكار والملاحظات والاستفسارات حول المفاهيم الرياضيّة وتطبيقاتها العمليّة، مثل استخدام الزوايا في الحياة اليوميّة، ما يعزّز تطبيق الفهم النظريّ في سياقات واقعيّة.
وفّرت اللوحة الفنّيّة منصّة بصريّة جذّابة لاستكشاف العناصر الهندسيّة المختلفة، وتحليل الزوايا المتعلّقة بها. وأتاحت للطلّاب فهم العلاقات المكانيّة بين الأشكال والزوايا، واستكشاف الخصائص الفريدة لكلّ نوع منها.
التشكيل الخزفيّ والمجسّمات الهندسيّة
التشكيل الخزفيّ فنّ تشكيل الطين وتحويله إلى أشكال فنّيّة ثلاثيّة الأبعاد، والتي تُنشأ بعمليّة العجن والنمذجة والتشكيل والتجفيف. ويعتبر الخزف من أقدم الفنون التقليديّة التي يعود تاريخها إلى آلاف السنين، وكان يُستخدم لإنتاج الأواني والمجسّمات والتماثيل، وغيرها من الأعمال الفنّيّة والوظيفيّة.
قمنا بتجربة استخدام التشكيل الخزفيّ في تدريس الرياضيّات للمرحلة الابتدائيّة في درس المجسّمات الهندسيّة، مثل المكعّب ومتوازي المستطيلات والأسطوانة والهرم. تهدف هذه التجربة إلى توفير بيئة تعليميّة تفاعليّة وملهمة للطلّاب، لاستكشاف المفاهيم الهندسيّة الأساسيّة وتطبيقها بالتجربة العمليّة والإبداع.
في بداية الدرس قدّمنا مفهوم المجسّمات الهندسيّة والخصائص الرئيسة لكلّ مجسّم، مثل عدد الأوجه والحوافّ والزوايا الموجودة في كلّ منها. واستخدمنا العروض التوضيحيّة والنماذج البسيطة للمجسّمات، لتوضيح الشكل والهيكل والأبعاد.
ثمّ وفرنا الطين الخزفيّ وأدوات التشكيل اللازمة للطلّاب، ووجّهناهم في صنع المجسّمات الهندسيّة باستخدام تقنيّات التشكيل الخزفيّ المناسبة، مع التركيز على الأشكال الهندسيّة والأبعاد الصحيحة. كما وجّهناهم في إنشاء الأوجه والحوافّ والزوايا المناسبة لكلّ مجسّم.
أثناء العمل، قدّمنا التوجيه والدعم الفرديّ للطلّاب، لضمان تنفيذهم الصحيح للمجسّمات والتحقّق من الدقّة والتفاصيل. وتمكّن الطلّاب من استخدام المهارات الهندسيّة المكتسبة، مثل التصميم والتشكيل والقياس، لإنشاء المجسّمات بشكل دقيق.
وعندما انتهوا من صنع المجسّمات، جُفّفت لإعطائها المتانة والصلابة المطلوبة. وبعد ذلك، استُخدمت المجسّمات في جلسة تقييم واستعراض ومناقشة للخصائص الهندسيّة المتعلّقة بها، مثل عدد الأوجه والحوافّ والزوايا. وتمكّن الطلّاب من التفاعل والتحليل وتحديد الصفات الهندسيّة المختلفة لكلّ منها.
كما أُتيح للطلّاب التحدّث عن العمليّة التصميميّة والتشكيليّة التي خاضوها، والتطرّق إلى التحدّيات التي واجهوها وكيفيّة حلّها. وتمكّنوا من التعبير عن الإبداع الفنّي والفكريّ الذي وظّفوه في إنشاء المجسّمات، وتطبيق المفاهيم الهندسيّة التي تعلّموها.
عزّزت هذه التجربة فهم الطلّاب المفاهيمَ الهندسيّة الأساسيّة وتطبيقها عمليًّا، وأسهمت في تنمية مهارات التصميم والتشكيل والتعبير الإبداعيّ لديهم. كما عزّزت الطريقة التفاعليّة متعة التعلّم والمشاركة الفاعلة في العمليّة التعليميّة.
***
تدريس الرياضيّات بالفنّ ليس مجرّد وسيلة لجعل المادّة أكثر تشويقًا، بل نهج تربويّ يعزّز التفكير النقديّ والإبداعيّ لدى الطلّاب. فعندما يجتمع المنطق الرياضيّ مع جماليّات الفنّ، يُفتح أمام الطلّاب باب لفهم أعمق وأشمل للعالم من حولهم، ما يساعدهم في ربط المعرفة النظريّة بالتطبيقات العمليّة. وتُسهم هذه الاستراتيجيّة في جعل التعلّم أكثر متعة وتفاعليّة، وتشجّع الطلّاب على استكشاف المفاهيم الرياضيّة من زوايا جديدة وغير تقليديّة. لذا، فإنّ دمج الفنّ في تدريس الرياضيّات، قد يكون خطوة نحو تطوير جيل من المفكّرين المبدعين القادرين على الابتكار في مجالات متعدّدة.
المراجع
أبو مسلّم، أمل. (2021). جدول الضرب الخارق. Golden Star Services.