الشراكة مع العائلة: تجربة مدرسة حكوميّة لبنانيّة
الشراكة مع العائلة: تجربة مدرسة حكوميّة لبنانيّة
فيروز سلامة | خبيرة مشروع تمام في بناء الشراكات بين المدرسة والمجتمع المحلّيّ- لبنان
ريما كرامي | استاذة مشاركة في الجامعة الأميركيّة ومديرة مشروع تمام- لبنان

المقدّمة والسياق

يؤمن "مشروع تمام" أنّ غاية التطوير التربويّ النهائيّة هي تنمية المجتمع باعتماد مقاربة تربويّة تهدف إلى إعداد التلميذ ليصبح مواطنًا متفاعلًا ضمن مجتمعه، مع يقين أنّه لا يمكن للمدرسة وحدها أن تؤدّي ذلك؛ إذ يتطلّب إعداد التلميذ المواطن تبنّي رؤية مشتركة شاملة متكاملة بين الأطراف المعنيّة جميعها من جهة، وبذل الجهود من كلّ فرد معنيّ بذلك من جهة أخرى. مواطن المستقبل هو طفل ضمن عائلته، وتلميذ ضمن مدرسته، والشراكة مع العائلة أساسيّة للعمل سويًّا على تحضيره ليكون مواطنًا فاعلًا في المجتمع.

نتطرّق في مقالنا هذا إلى تجربة فريق تمام الموجِّه في بناء قدرات الفريق القياديّ في "متوسّطة الغبيريّ الثانية المختلطة" لتفعيل الشراكة مع العائلة بتطبيق مقاربته الاجتماعيّة الثقافيّة. متوسّطة الغبيريّ هي مدرسة حكوميّة ذات موارد محدودة حالها حال المدارس الحكوميّة في لبنان، التي تستقبل الطلّاب من مختلف البيئات الصعبة. واكب فريق تمام الموجِّه المدرسةَ لتحويل العلاقة بينها وبين العائلة من تفاعل فطريّ، إلى شراكة قائمة على التطوير المستند إلى المدرسة بتفعيل هذه الشراكة أثناء عمل المدرسة على مشروعها التطويريّ، الذي كان يهدف إلى أن يشعر التلاميذ بالانتماء إلى مدرستهم، وأن يفتخروا ببيئتهم.

 

تغيير المنحى الفكريّ

التزمت متوسّطة الغبيريّ برؤية تطويريّة قوامها أن تصبح مدرسةً تماميّةً مجتمعيّةً، تنبثق من محيطها، وتتفاعل معه، وتعمل له، وتهدف إلى إعداد التلميذ ليكون مواطنًا فاعلًا وعنصر تغيير في المجتمع، لا لصَهره ضمنه فقط. يمكن تحقيق هذه الرؤية بالتواصل القائم على الشراكة بين المدرسة، والعائلة للعمل سويًّا، وهذا يستلزم تغييرًا في المنحى الفكريّ، ودعوةَ المدرسة لإعادة النظر بممارساتها الحاليّة بناءً على تحديد مكانها من هذه الشراكة مع العائلة والتكامل معها.

يشمل تغيير المنحى الفكريّ، وفق حركة "التغيير من أجل المساواة"، ثلاثة جوانب يجب توفّرها في سبيل تفعيل الشراكة مع العائلة:

 

أوّلًا، الوعي بالاختلاف بين العائلة والمدرسة حول دور كلّ منهما في عمليّة التعلّم: العائلة تشكّل البيئة الحاضنة التي تؤمّن العاطفة، والحماية للطفل، ويتعلّم فيها مهارات الحياة الأساسيّة. أمّا المدرسة، فهي مؤسّسة تقوم على أسس ثابتة، ومن واجبها تنمية تلميذ مواطن يعمل على نهضة مجتمعه. هما عالمان مختلفان متكاملان في الأدوار.

 

ثانيًا، تكوين فهم اجتماعيّ-ثقافيّ للعائلة وللمدرسة، وتصنيفهما بناءً على مقاربتهما لعمليّة التعلّم: بالنسبة للعائلة، ممكن أن تصنّف ثقافتها بكونها عاطفيّةً محضةً، أو عاطفيّةً-عقلانيّةً، أو عاطفيّةً-اجتماعيّةً. كما يمكن أن تصنّف المدرسة أيضًا إلى ثلاثة أنواع من نفس المنطلق: مدرسة تطغى على ثقافتها الفطرة والمشاعر، أو مدرسة ذات بنية عقلانيّة مؤسّسيّة، أو مدرسة تتبنّى دورها في التنمية المجتمعيّة الثقافيّة. يؤدّي اختلاف مقاربة التعلّم بين ثقافة العائلة وثقافة المدرسة إلى تحدّيات في التواصل تقف عائقًا في كثير من الأحيان أمام تفعيل الشراكة بين العائلة والمدرسة. وقد تترجم تحدّيات هذا الاختلاف إلى صدمة ثقافيّة عند الطفل، ينتج عنها صعوبة في انتقاله من دوره بوصفه طفلًا في عائلته إلى دوره بوصفه تلميذًا في مدرسته، وفي التأقلم مع متطلّبات التنقّل بين العالمين. تترجم هذه الصدمة في معظم الأحيان إلى عجز التلميذ عن الشعور بالانتماء إلى مدرسته، والانخراط في التجارب التعلّميّة فيها.

 

ثالثًا، تكوين فهم لطبيعة العلاقة القائمة بين المدرسة والعائلة، وتصنيفها. تتفاوت العائلات في أنّ بعضها لديه صورة سلبيّة عن المدرسة، وبعضها الآخر لديه صورة إيجابيّة عنها. نتيجةً لهذه المواقف من المدرسة، فإنّ العائلة من الممكن أن تختار الانخراط، أو عدم الانخراط في علاقةٍ مع المدرسة. من جهة أخرى، قد يكون لدى القائمين على المدرسة انطباعات مختلفة عن العائلة، متمثّلةً إمّا بصورة محدودة عن دورها في عمليّة التعلّم، فلا يدركون أهمّيّة مساهمة العائلة، أو بصورة سلبيّة، فيصفون العائلة بكونها غير مهتمّة، أو بصورة إيجابيّة فيعتبرون العائلة مهتمّةً متابعةً لطفلها راعيةً له. لتحقيق الشراكة، لا بدّ من مساعدة العائلة على تكوين صورة إيجابيّة حول المدرسة، ومساعدة المدرسة أيضًا على فهم العائلة، وتقبّل الدور الإيجابيّ الموسّع لها، وذلك لتصبح مستعدّةً للانخراط في الشراكة معها.

إذًا، تدعو مقاربة تمام الاجتماعيّة الثقافيّة المدرسةَ إلى ضرورة الوعي بهذا الاختلاف، وبأهمّيّة أن تفهم دور العائلة مع الطفل، وأن تساعد المدرسة العائلة على فهم دورها مع التلميذ، وتقدّم آليّةً للتلاقي بينهما لتحقيق سمات الطالب التماميّ من أجل أن نصل إلى إشراك العائلة بطريقة تفاعليّة. فكيف يتمّ ذلك؟

يحتاج هذا الإشراك إلى تفعيل التواصل، ويبدأ بمرحلة التعارف، ثمّ الإبلاغ، فالتخطيط، ثمّ المرافقة والمساندة، وصولًا إلى تحويل العائلة إلى شريك. في المرحلة الأولى، يجري التعارف، وينشر الوعي حول ثقافة كلّ من الطرفين من أجل الوصول إلى التوافق على رؤية مشتركة حول مخرجات التعلّم. يجري التعرّف إلى العائلة عن طريق جمع معلومات عنها من خلال "الاستمارة الاجتماعيّة الثقافيّة". تحدّد هذه الاستبانة سيرة العائلة الدراسيّة، وعلاقتها مع المدرسة، ومدى تشاركها وانخراطها، كما تساعد على فهم سيرة التلميذ في الصفّ والمدرسة، ورؤيته للمستقبل. من جهة ثانية، تدعو المقاربة الاجتماعيّة الثقافيّة المدرسة والتربويّين فيها إلى التعريف عن أنفسهم أمام العائلة بوصفهم أعضاء في مؤسّسة تؤدّي دورها، ويتحمّل التربويّون فيها مسؤوليّة مساعدة هذه العائلة على فهم ماهيّة رؤية المدرسة، هدفها، فريق العمل فيها، وكذلك متطلّبات دورها في تحضير الطفل ليصبح تلميذًا متعلّمًا. هذا التعارف يضع الأسس لبناء العلاقة بين الطرفين وينقل علاقة المدرسة مع العائلة من مرحلة التعارف إلى مرحلة أخذ التفويض من هذه العائلة الذي يتمّ عمليًّا عند تسجيل التلميذ في المدرسة، ويفتح المجال لأنّ تحصل المدرسة وهيئتها التعليميّة على إذن بإعداد الطفل ليصبح تلميذًا مواطنًا. هذا الإذن مبنيّ على وعي العائلة بماهيّة المدرسة التي اختاروها لأطفالهم، ومعرفة المدرسة بالعائلات التي تبني الشراكة معها للوصول إلى أهمّ مخرجات هذه الشراكة، وهي إعداد مواطن المستقبل.

يستدعي وصول المدرسة إلى الشراكة مع العائلة، استكمال المراحل التالية، وهي: الإبلاغ، والتخطيط التشاركيّ لتقديم المساندة والدعم، وتنفيذه. في مرحلة الإبلاغ، تتواصل المدرسة مع العائلة مبلغةً إيّاها بالتقدّم الذي يحرزه التلميذ، وبالتحدّيات التي تواجهه، وتتشاور معها حول كيفيّة تجاوزه لها، وما الدور الذي يمكن أن تلعبه مع الطفل ليتكامل مع الدعم الذي تقدّمه المدرسة له، إذ تتضمّن الشراكة الفاعلة مساندةً مخطّطًا لها على يد المدرسة لسدّ الثغرات بمساهمات هادفة من العائلة، ومحيطها الاجتماعيّ لضمان نجاح الدور التكامليّ مع العائلة في تحضيره بوصفه مواطنًا.

 

فهم المدرسة ضمن بيئتها

كانت انطلاقة الفريق الموجِّه مع متوسّطة الغبيريّ الثانية المختلطة مبنيّةً على حماس فريقها القياديّ المؤلّف من مديرتها، وخمسة من أفراد هيئتها التعليميّة ذوي مهمّات إشرافيّة، واندفاعهم إلى العمل على حاجة تطويريّة متعلّقة بانخراط التلميذ في المدرسة ليس فقط مدرسيًّا، بل واجتماعيّا أيضًا. حدّد الفريق القياديّ في المدرسة حاجته التطويريّة، وفهم طبيعتها، ودرس أسبابها، ووضع أهدافًا تضمّنت تشجيع التلميذ على التكامل مع محيطه المدرسيّ والاجتماعيّ، وعدم الخجل به. من أجل أن يستطيع الفريق الموجِّه مواكبة المدرسة في رحلتها التطويريّة، ابتدأ بالتعرّف بعمق على تاريخ المدرسة، وتفاعلها مع محيطها لفهم أيّ مدرسة هي ضمن بيئتها. وقد حصل ذلك من خلال مقابلات مع أعضاء من المجتمع المحلّيّ، ومجلس الأهل، ومن خلال التفاعل مع الهيئة التعليميّة في المدرسة. وتبيّن لنا أنّ متوسّطة الغبيريّ مدرسة حاضنة لطلّابها مع تنوّع خلفيّاتهم، وجهوزيّتهم للتعلّم، منفتحة على بيئتها، تستقبل كلّ مبادرة تربويّة، أو ثقافيّة، أو صحّيّة، أو رياضيّة تطرق بابها، وترى فيها منفعةً لتلاميذها، عملًا بمبدأ "زيادة الخير، خير". وقد تميّزت المدرسة بهذا الانفتاح منذ أعوام، فتاريخها حافل بتشبيكها مع محيطها من فعاليّات، وجمعيّات من أجل خدمة تلاميذها.

استجابةً لملامح المدرسة، كان لا بدّ لفريق تمام الموجِّه من إظهار التقدير لمبادرة المدرسة، وانفتاحها، وتأمينها للموارد أيًّا كان مصدرها خاصّةً ضمن طاقتها المحدودة مادّيًّا أو بشريًّا، لكنّه أيضًا دعا فريقها القياديّ للتفكّر في: كيف يرى هذا النوع من التفاعل مع محيط المدرسة ضمن دوره في تلبية الحاجة التطويريّة لتحقيق الانخراط المدرسيّ الاجتماعيّ المنشود؟  فانخراط التلميذ في بيئته، والشعور بالانتماء إليها والتكامل معها، لا يتطلّب تفاعل المدرسة لتأمين ما توفّره من الموارد مع المحيط فقط، لكنّه يستلزم تفاعلًا مع شريك أساسيّ في هذا المحيط، وهو عائلة الطفل. بناءً عليه، وجّهنا الفريق القياديّ نحو التفكّر في كيفية تفاعل متوسّطة الغبيريّ مع العائلة، ورؤيتها لدور هذه العائلة ضمن مبادرتها التطويريّة.

 

الوعيّ بالممارسات المهنيّة

طرح الفريق الموجِّه أسئلةً داعيًا أعضاء الفريق القياديّ إلى التفكّر بهدف إحداث زعزعة إيجابيّة، لمساعدتهم على الوعي بممارساتهم، وإدراك إن كانت المدرسة تعتمد شراكة فعليّة مع العائلة: هل استقبال كلّ المبادرات من المحيط تلبّي فعلًا حاجة التلاميذ الشخصيّة في الانخراط الاجتماعيّ؟ هل ظروف العائلة المتمثّلة بالسعي وراء لقمة العيش، وطلب المساعدة هي سبب كافٍ لتسمح المدرسة لنفسها بأن تأخذ دور البديل عن العائلة، وتقرّر منفردةً ما يجب العمل عليه مع التلميذ؟

إذا كان هدف تفعيل الانخراط أن يكون التلميذ القيمةَ المضافةَ لواقعه ومحيطه الاجتماعيّ، فهل تعي المدرسة من هو هذا التلميذ المتعلّم ضمن بيئته الاجتماعيّة؟ وهل تعلم ما يحمل معه هذا التلميذ من أثر واقعه ومحيطه على مسيرته التربويّة؟

هل المدرسة على قناعة بتحدّيات انتقال الطفل إلى كونه تلميذًا؟ هل عملت متوسّطة الغبيريّ على تعريف دورها وتحديده في مواكبة التلميذ، وأخذ الإذن، والوصول إلى مشاركة العائلة؟ 

بعد تحليل المعلومات التي جُمعت نتيجة التفكّر مع الفريق القياديّ، تبيّن لنا أنّ أفراده يصفون العائلة بأنّها تسعى وراء لقمة العيش، ممّا أفقدها السلطة اللازمة بنظرهم لممارسة دورها في الرعاية التربويّة لأبنائها، ودفعها في حالات كثيرة إلى اللجوء إلى المدرسة طلبًا للمساعدة. أمام هذه الصورة الظاهريّة العاجزة للعائلة، سمحت المدرسة لنفسها بتحديد ما يجب العمل به مع التلاميذ بالنيابة عنها. فقامت منفردةً على عمليّة تفعيل الانخراط الاجتماعيّ للتلاميذ معتقدةً أنّها الأكثر درايةً بظروف العائلة القاسية، ومن هنا لعبت الدور البديل عن هذه العائلة نتيجة وضعها.  نتيجة هذا التفكّر، تشكّل الوعي عند الفريق القياديّ بممارساته، وبنظرته إلى دعوة العائلة للّقاءات المدرسيّة على أنّها خير مؤشّر لوجود الشراكة اللازمة بين المدرسة والعائلة، وإلى استقبال كلّ المبادرات من محيطها: أكانت جمعيّات، أو مرجعيّات محلّيّة، أو مراكز اجتماعيّة على أنّها أفضل آليّة للوصول إلى الانخراط الاجتماعيّ للتلميذ مع المحيط.

 

من تفاعل فطريّ إلى شراكة فاعلة

مع تبنّي مقاربة تمام الاجتماعيّة الثقافيّة، بدأت معالم علاقة متوسّطة الغبيريّ الثانية مع العائلة تختلف وتتطوّر، وظهرت أدلّة كثيرة على ارتفاع مستوى الوعي عند الفريق القياديّ فيما يتعلّق باحترامهم لمكانة العائلة، ولخصوصيّة الطفل في عائلته، وقدرتهم على تجاوز تحدّيات انتقال الطفل من البيت إلى المدرسة عن طريق تفعيل التواصل مع العائلة.

لقد بات ثمّة وعي بدور المدرسة في تحضير الطفل ليصبح تلميذًا، وبأهمّيّة أخذ الإذن من العائلة بوصفها خطوةً أساسيّةً في تمتين الشراكة معها؛ فقد أدرجت المدرسة التعرّف إلى العائلات الجديدة المنضمّة للمدرسة ضمن نشاطاتها بدايةَ كلّ عام دراسيّ، واستخدمت "الاستمارة الاجتماعيّة الثقافيّة" لتحقيق ذلك، كما صمّمت يومًا ترحيبيًّا عند انطلاقة كلّ عام دراسيّ تدعو فيه عائلات تلاميذها، لتعرّفهم إلى المدرسة، ورؤيتها، وخططها التربويّة للعام الدراسيّ. انخرط المشرفون في المدرسة في متابعة تعلّم التلاميذ، وحُدّدت محطّات لإبلاغ العائلة حول تقدّم التلميذ، ومشاركتها التحدّيات التي يواجهها، والتفاوض معها على طبيعة الدعم الذي يمكن أن تقدّمه العائلة لطفلها ليتكامل مع الجهود التي يبذلها المعلّم مع هذا الطفل بوصفه تلميذًا.

نجحت متوسّطة الغبيريّ في إحداث تغيير في رؤيتها وممارساتها من أجل تحقيق الشراكة مع العائلة، فربطتها باستراتيجيّات تنفيذ مبادرتها التطويريّة لتحقيق انخراط تلميذها اجتماعيًّا. وشكّل هذا الوعي أرضيّةً نقلت الانخراط مع المحيط من استقبال مفتوح للمبادرات الخارجيّة العفويّة إلى تخطيط لشراكات مع المحيط قائمة على خطّة تطويريّة تلبّي حاجة تلاميذها، وتحظى بدعم عائلاتهم، التي تلعب دور الشريك في إنجاح مهمّة الطرفين في تحضير التلميذ المنصهر في بيئته، والمؤهّل لأن ينخرط ويتفاعل معها بوصفه عنصر تغيير إيجابيّ فاعل.