التعلّم المتروك في الجوار
التعلّم المتروك في الجوار
شيرين عبد الستار جبالي | مديرة ومشرفة تربويّة- فلسطين

ماذا يحدث لو كسر الطالب قيود المناهج وخرج منها؟ فبُعدها عن تصاميم المكان وزوايا الشارع والحيّ، قد يُؤدِّي الى ملله وتسرّبه الذهنيّ داخل غرفة الصف. وربّما يُؤثِّر ذلك سلبًا في تحصيله ومخرجاته الحسّيّة والاجتماعيّة والتعليميّة المرجوّة منه، ما قد يخلق فجوات تعلّميّة تكبر وتزداد خلال مراحل تعلّم الطالب. كذلك، ماذا يحدث للطالب لو ترك المنهاج والغرفة الصفّيّة، وخرج ليبحث عن مضامين المنهاج ومحتواه في الجوار، أو بين الأزقّة والمساحات المفتوحة؟ كيف يكون أداء المعلّمين في هذه الحالة؟ وكيف يُوجِّهون طلّابهم لإعادة إنتاج المعرفة لديهم، خلف معارفهم المناهجيّة الكامنة في الكتب؟ 

ليس المقصود بهذه الأسئلة نقل مقاعد الدراسة والسبورة إلى خارج غرفة الصفّ، ولا تنظيم نشاط هنا وفعّاليّة هناك. وبالطبع ليس المقصود إلغاء المنهاج، وإنّما استحضار تعلّم قِيَميّ وفق علاقات تبادليّة بين الطالب ومَن حوله، تتجّلى في سيرورات تعلّميّة تحاكي احتياج الطالب، وتُمكِّنه من تطوير مهاراته الذهنيّة والمعرفيّة والاجتماعيّة (Bamberger & Tal, 2007).  أضف إلى أنّها تُمكِّن المعلّم من تغيير أساليبه التعليميّة في بيئات مجاورة ومتنوّعة. يسهم ذلك في منح التعليم مفهومًا مختلفًا ومغايرًا لمفهومه المناهجيّ.

يهدف هذا المقال إلى عرض تجربة مدرسة للإناث في القدس، كنتُ قد أدرتُها قبل أعوام. وكانت تَتّبِع أسلوب تدعيم المناهج بأنماط تعلّميّة وتعليميّة مختلفة ومتنوّعة، بهدف الوصول الى تعلّم متكامل وتعليم شموليّ للطالب. فنعرض نتائج المُخرجات الحسّيّة والاجتماعيّة للطالبات في المدرسة، ونتائج أداء المعلّمين والمعلّمات.

 

واقع مجتمع المدرسة وإشكاليّات المناهج

تعدّ المدرسة "المولوية" الأساسيّة للإناث واحدة من أربع مدارس حكوميّة متواجدة في البلدة القديمة في القدس، تتَّبِع أنظمة وزارة التربية والتعليم الإسرائيليّة، ويُعتمَد فيها منهاج السلطة الفلسطينيّة. وهذا هو حال معظم المدارس العربيّة في القدس. 

كان مُلاحَظًا في المنهاج الفلسطينيّ افتقار التعمّق والتحقّق في جوهر المضامين وصحّة المعلومات؛ فقد ذُكِر مثلًا في النسخة القديمة من منهج التاريخ للصف الخامس الأساسيّ، أنّ أعلى جبل في فلسطين هو جبل النبيّ يونس الذي يقع في قرية حلحول، قضاء مدينة الخليل في الضفّة الغربيّة، بينما في الواقع يعدّ جبل الجرمق أعلى جبال فلسطين، والذي يقع في منطقة الجليل شمال غرب مدينة صفد!   

من ناحية أخرى تُفعِّل السلطات الإسرائيليّة، في سياق هيمنتها المُمثَّلة بوزارة التربية والتعليم، وبالتعاون مع بلديّة القدس، رقابةً قويّة على المناهج قبل دخولها إلى المدارس وتسليمها إلى الطلّاب؛ إذ تؤخذ الكتب قبل توزيعها على المدارس وتُفحَص بدقّة، وتُحذَف منها جمل وصفحات يُذكَر فيها مثلاً أنّ القدس عاصمة فلسطين، أو تحوي صورة العلم الفلسطينيّ، أو تتضمّن تعبير "الاحتلال الإسرائيليّ"، أو تتناول موضوع النكبة.  

بالإضافة الى ذلك، نلاحظ ابتعاد المنهاج عن واقع الحياة اليوميّة الاجتماعيّة للطالب والمعلّم المقدسيّين. مثال ذلك أنّ المقدسيّين ليسوا مواطني السلطة الفلسطينيّة، وليسوا مواطنين إسرائيليّين في الآن ذاته؛ فهم يحملون وثيقة إقامة خاصّة بالمقدسيّين، تمنحهم إيّاها السلطات الإسرائيليةّ. وهذا موضوع مغيّبٌ في دروس منهاج الاجتماعيّات التي تتطرّق إلى الوطنيّة. ولا إجابة عن سؤال مهم: كيف يُعلَّم طالب غير مواطن موضوعَ المواطنة؟  

يُشكِّل كلّ ما ذُكِر عائقًا أمام الطالب والمعلّم المقدسيينّ، ويضعهما بين الهيمنة ورقابة السلطات الإسرائيليّة من جهة، وبين اغتراب مناهج السلطة الفلسطينيّة عن عمق واقع المقدسيّين من جهة أخرى.

 

كيفيّة تمكين المعلّمين من خوض التجربة

تعجّ البلدة القديمة في القدس بالأماكن الأثريّة والتاريخيّة والدينيّة المتنوّعة، والشاهدة على مرور شعوب كثيرة عبر حقب زمنيّة مختلفة، فضلًا عن الأسواق وأصحاب المهن، مثل سوق اللحّامين وسوق الدبّاغين وسوق العطّارين... بالإضافة إلى الأماكن التي تُنظَّم فيها النشاطات المجتمعيّة، مثل نادي أبناء القدس، التي نجد فيها كنزًا من القصص والحكايات الغريبة عن الكتب الدراسيّة القابعة بين أيدي طالباتنا، وقصصًا غنيّة بالمعارف غير المحكيّة، لم تُكتَب في المناهج، ولم يروِها المعلّمون والمعلّمات.    

من هنا، ارتأت المدرسة أن تتّخذ قرار الخروج عن المألوف في تدريس المنهاج، والتفكير في خلق أطر ومساحات تعلّميّة وتعليميّة أخرى، تعتمد على الجوار وموارده، وتدفع المدرسة إلى إجراء التخطيط والتدريب اللازمين لإعداد طواقم المعلّمين (Dyment, 2005).

جرى التحضير للعمل على إعداد المعلّمين والمعلّمات وفق ورش عمل مطوَّلة، وذلك أثناء دوام العمل، وضمن ساعات إضافيّة بعد انتهائه. تمّ التخطيط لهذه الورش مسبقًا بإشراك الطاقم الإداريّ في المدرسة، والذي يشمل النائبة ومركز الحوسبة ومركز التربية الاجتماعيّة، خلال جلسات دوريّة تَضمّنت أفكارًا إبداعيّة حول التخطيط.

وخرجنا بفكرة التعلّم خارج المدرسة في الجلسة الأسبوعيّة العامّة للطاقم التعليميّ. وخلصنا في نهاية الجلسة بالآتي:

1. بالنظر الى عدم ارتباط المنهاج بالحياة اليوميّة للطالبات، وجب علينا تطوير نشاطات تراكميّة وممنهجة، تبنيها المدرسة بالتعاون مع الأماكن المتاحة في الجوار، وذلك من أجل ربط المنهاج بسياق الحياة اليوميّة.

2. توجيه الطالبات إلى التعلّم ضمن مجموعات صغيرة، ومن خلال البحث والسؤال لتجميع المعلومات ثمّ معالجتها. وذلك من أجل استخلاص النتائج وعرضها ضمن محطّات في يوم مفتوح، بمشاركة الأهل وشخصيّات من الجوار. 

3. العمل على دمج المجتمع المجاور والأهل في العمليّة التعلّميّة. 

4. تعديل مدّة الدرس من 45 دقيقة إلى 90 دقيقة، لمنح الطالبات والمعلّمات الوقت الكافي للخروج الى الجوار واستكشافه. 

 

وُزِّع المعلّمون والمعلّمات ضمن طواقم مُصغَّرة للعمل، بحسب موضوعات التعليم (رياضيّات، تاريخ وفنون، علوم...). وارتأينا بدء العمل بحسب الفئات العمريّة، فكان التخطيط الأوّليّ لصفوف الثالث والرابع.  

استغرق العمل والتحضير سنة دراسيّة كاملة، استعنّا خلالها بمرشدين تربويّين من ذوي الاختصاص، لتنظيم ورشات عمل تهدف إلى تأهيل الطواقم المُصغَّرة للعمل، من أجل الوصول الى النتائج المرجوَّة بعد التخطيط للتعلّم في الجوار. تمحورت الورشات حول النقاط الآتية:

1. كيفيّة تدريس مجموعات صغيرة من الطالبات بهدف الوصول إلى تعلّم تعاونيّ. 

2. كيفيّة توجيه الطالبات إلى صياغة أسئلة مُوجَّهة ومفتوحة. 

3. آليّة معالجة المعلومات والوصول إلى استنباطات. 

4. تمكين المعلّمين من آليّات تواصل وحوار مع القائمين على الأماكن المجاورة لمجتمع المدرسة. كان علينا التواصل مثلًا مع إدارة الأوقاف الأردنيّة وشرح خطّتنا، كي تستطيع الطالبات الدخول مع معلّماتهن بشكل مُمنهَج إلى التكيّة. والأمر انطبق كذلك على الأماكن الأخرى وأصحاب المهن في السوق. 

5. إرشادات حول إدارة الوقت، ولا سيّما في الدروس التي مدّتها 90 دقيقة.

6. العمل على إنتاج كرّاسات داعمة للمنهاج، تتضمّن تجارب التعلّم في الجوار، لتستعين بها الطالبات خلال الدروس الصفّيّة.

 

كيفيّة تنفيذ المدرسة تجربة التعلّم في الجوار

وظّف المعلّمون والمعلّمات مجتمع الجوار في تعليم الدروس. فعلى سبيل المثال، في مادّة الرياضيّات تطرح المعلّمة مسألة كلاميّة: "من باب الساهرة إلى نادي أبناء القدس نخطو 42 خطوة، فاذا خطونا من باب الساهرة (باب من أبواب البلدة القديمة في القدس) إلى بوّابة المدرسة نخطو 136 خطوة. كم خطوة نخطو من النادي إلى باب المدرسة؟ فتخرج الطالبات لفحص الخطوات وقياسها فعليًّا، وبعد الخروج إلى الأزقّة وحساب الخطوات تستنتج الطالبات العمليّة الحسابيّة المطلوبة، فتكتبنها كتمرين حسابيّ (وليس العكس كما هو مُتّبَع في واقع المناهج)، ثمّ يعرضن تجربتهن في الصف مع شرح الخطوات التي قمن بها. 

أمّا في سياق التاريخ والفنون، فخطّطنا لزيارات تراكميّة وممنهجة لتكية خاصكي سلطان وكنيسة القيامة والمسجد العمري ودير الأرمن والزاوية الهنديّة والنادي الإفريقيّ. سألت الطالبات فيها أسئلة بحثيّة موجّهة ومفتوحة، بهدف تجميع المعلومات المُغيَّبة في المناهج، من أجل معالجتها فيما بعد، واكتساب معارف جديدة لم توردها المناهج. ومن هذه الأسئلة:

- ما الخدمات التي تقدّمها التكيّة لأهالي البلدة القديمة؟ وما سبب تأسيسها؟ ومَن أسّسها؟ ومتى؟  

- في أيّ عهد بُنيَت كنيسة القيامة؟ لماذا بُنيَ المسجد العمري بجانبها؟ وما أهمّيّة العهدة العمريّة لسكّان بيت المقدس؟ 

- ما منتجات السيراميك الأرمنيّ واستخداماته؟ وكيف يتمّ تصنيعه؟  

- كيف وصلت الجاليات الهنديّة والإفريقيّة إلى بلادنا؟ ولماذا استقرّت فيها؟ 

أنجزت الطالبات بحثًا كاملًا حول الأماكن التاريخيّة والأثريّة، عرضنه وشرحنه وفق شرائح عرض في الصف، وفي اليوم المفتوح في نهاية العام الدراسيّ. جسَّدت الطالبات كذلك الشخصيّات التاريخيّة المحوريّة، بمساعدة معلّمة اللغة العربيّة وتوجيهها، من خلال عمل مسرحيّ عرضنه في نهاية العام الدراسيّ (دمج الدراما بالتعلمّ). بالإضافة إلى ذلك، أحضرت الطالبات قطعًا صغيرة من السيراميك بعد تجوّلهن في دير الأرمن، وصنعن، بتوجيه من معلّم الفنون، فسيفساء من وحي الجوار، عُرِضت على جدران المدرسة. 

تعلّمت الطالبات ضمن مجموعات صغيرة، إذ كان لا بدّ من توزيعهنّ إلى مجموعات من 5-6 طالبات، كي يتحقّق التعلّم التعاونيّ تحقّقًا ناجعًا، يُسهِم في إعادة إنتاج المعارف المرجوّة. أمّا تفاعل أصحاب المهن مع أسئلة الطالبات، فكان له صدى وأثر جليّ في مخرجاتهنّ التعلّميّة. ومن أقوال احدى الطالبات: "... عندما كتبتُ ما قاله العطّار عن فوائد الأعشاب وطبّقنا الوصفات في الصف، أصبحتُ أُحضِّر الوصفات يوميًّا مع والدتي في البيت". وعبّرت طالبة أخرى عن انفعالها خلال الجولات داخل كنيسة القيامة: " نلعب في ساحة الكنيسة دائمًا أنا وأخوتي، فنحن نسكن في الحيّ نفسه... لكنّنا لم ندخلها قط... لم أكن أعلم ما في داخلها قبل زيارتي لها مع المدرسة".

 اقترن ذلك كلّه بإشراك أهالي الطالبات في خطّتنا، بدعوتهم إلى حضور اجتماعات مع المعلّمات والمعلّمين وإطّلاعهم على البرنامج المرجوّ تنفيذه. كما سُلِّط الضوء على أهمّيّة المُخرجَات التي نصبو إلى تحقيقها لدى الطالبات. وعليه، تمّ أخذ موافقتهم على خروج الطالبات إلى الجوار خلال الدوام المدرسيّ. 

وأخيرًا، كان لمركزة التربية الاجتماعيّة في المدرسة دور كبير في نسج شبكة التواصل بين المدرسة وأصحاب المهن والمصالح والمسؤولين، بالنظر إليهم كشركاء في الجوار. تمحور دورها حول شرح فكرة التعلّم في الجوار، والتنسيق معهم لتحديد مواعيد دوريّة وتراكميّة لزيارات الطالبات، مثل التنسيق مع إدارة الأوقاف الأردنيّة، أو التنسيق مع الشيخ والمطران.

 

خاتمة

كان للممارسات التفاعليّة في بيئة الجوار، بعد تلقّي الإرشادات والتطوير المهنيّ، دور رئيس في تحوّل مفهوم المعلّم من سلطويّ منحصر في المناهج ومهتمّ بإنهاء محتوى المنهاج، إلى باحث ومستكشف ووسيط وموجّه لطلّابه، في سبيل استقصاء المعلومات ومعالجتها من أجل الوصول إلى المخرجات المرجوّة. كما كان لهذه الممارسات دور في تحوّل آليّات العمل؛ إذ لوحِظ التماسك في عمل المعلّمين والمعلّمات. فأثّرت جلسات التخطيط تأثيرًا إيجابيًّا في ممارسات المعلّمين المهنيّة وتفاعلاتهم مع بعضهم بعضًا، وأثّر ذلك بدوره في المناخ التربويّ العام للمدرسة.

أمّا بالنسبة إلى الطالبات، فقد أسهم خروجهن إلى الجوار للتعلّم في إعادة إنتاج المعارف واكتساب مهارات حسّيّة واجتماعيّة، وذلك بتفاعلهنّ مع بيئتهنّ المحيطة التي تحاكي احتياجاتهنّ كطالبات مقدسيّات. عرضت الطالبات مخرجات التعلّم في الجوار ضمن محطّات مدرسيّة في يوم مفتوح، دُعِي إليه جميع الشركاء المجاورين، وأصحاب المهن والشيخ والمطران والأهل.

 

المراجع

- Bamberger, Y. M., & Tal, T. (2007). Learning in a personal context: Levels of choice in a free choice learning environment in science and natural history museums. Science Education. 91(1). 75–95. 

- Dyment, J. E. (2005). Green school grounds as sites for outdoor learning: Barriers and opportunities. International Research in Geographical & Environmental Education. 14 (1). .54–82.