التعليم عن بعد في المدرسة المغربيّة.. قراءة في تجربة تطبيقيّة
التعليم عن بعد في المدرسة المغربيّة.. قراءة في تجربة تطبيقيّة
حسن الطويل | أستاذ - المغرب

مقدّمة

انخرط النظام التعليميّ المغربيّ في تجربة التعليم عن بعد مضطرًّا، فخلال فترة الإقفال الكلّيّ الذي فرضه انتشار جائحة كورونا أواسط شهر آذار/مارس 2020، وجدت الوزارة نفسها مطالبة بضمان استمرار التعلّمات بما لا يدع المجال لانكماشها، فكان الحلّ هو اللّجوء إلى خيار التعليم عن بعد، غير أنّ هذا الحلّ لم يخلُ من مظاهر الارتجال والفوضى الناشئة عن غياب التخطيط، وعن حداثة مدرستنا المغربيّة في هذا النمط من التعليم.

ولعلّ أوّل ما ينبّهنا إليه فراغُ التخطيط في هذا الباب، هو أنّ المدرسة المغربيّة لم تهتمّ عبر تاريخها الطويل إلّا بالتعليم الحضوريّ، وذلك ما يؤكّده الاعتماد الكلّيّ على الموارد التربويّة الورقيّة (الكتب المدرسيّة، والدفاتر، وأوراق تحرير الامتحانات.. إلخ)، وعلى النمط الحضوريّ للاجتماع التربويّ بأصنافه كلّها.

يهدف هذا المقال إلى الحديث عن تجربتي الشخصيّة في ممارسة التعليم عن بعد، توصيفًا ونقدًا، مستعرضًا العقبات التي اعترضتني، وواجهها مدرّسون آخرون كما أظنّ، والغاية من كلّ هذا تنشيط "النقد التربويّ" وتوظيفه في ما يفيد منظومتنا التعليميّة.

 

معطيات التجربة وسياقاتها

اشتغلت في هذه التجربة، ولكوني أستاذًا لمادّة اللّغة العربيّة في السلك الثانويّ التأهيليّ، مع ثلاث شعب، شعبة الجذع المشترك للآداب والعلوم الإنسانيّة (قسمان)، وشعبة الأولى بكالوريا للآداب والعلوم الإنسانيّة (قسم واحد)، وشعبة الأولى علوم تجريبيّة (قسمان)، وفي إطار التعاون داخل المؤسّسة، التمس منّي السيّد المدير إجراء الدعم التربويّ لفائدة عدد من التلاميذ في مستويات الثانية بكالوريا، شعبة الآداب والعلوم الإنسانيّة، لمساعدتهم في التحضير الجيّد للامتحانات الإشهاديّة.

وفي ما خصّ الشُعب الثلاث الأولى، فقد اشتغلت معهم في المرحلة الأولى عبر وسيط "فيسبوك"، إذ أنشأتُ مجموعات تواصليّة داخل هذا الفضاء، واجتهدت للحصول على المعطيات التواصليّة للتلاميذ، من أجل دعوتهم للانخراط في التجربة. والحقّ أن هذه العمليّة أضاعت منّا زمنًا محترمًا، كان من المفروض استغلاله في إرساء التعلّمات، وممارسة الأنشطة المدرسيّة. وبحسب ما يسعفني به أرشيف هذه التجربة، فإنّ زمنًا قدره أسبوع، أنفقته في البحث عن معلومات التلاميذ، وانتظار التحاقهم، وفي النهاية التحق ما يقدّر بنحو 35% من التلاميذ، مع تسجيل تفاوت واضح في النسب بين الأقسام. وقد كان أساس التواصل في هذه المجموعات كتابيًّا.

وفي المرحلة الثانية، انتقلنا إلى العمل في تطبيق Teams، لكنّ الانتقال لم يمكن سليمًا، وعجز أكثر التلاميذ عن التعامل مع هذا التطبيق، ما دفعنا، في آخر المطاف، إلى العودة إلى "فيسبوك" من أجل إتمام ما كنّا بدأناه.

أمّا تلاميذ الثانية بكالوريا للآداب والعلوم الإنسانيّة، فقد عملتُ معهم في مجموعة تواصليّة داخل وسيط "واتساب"، وكان العمل معهم (عبر وسيلتي "الكتابة" وتقنيّة التسجيل الصوتيّ)، منصبًّا على مراجعة الدروس المنجَزة حضوريًّا، وتثبيت التعلّمات والكفايات التي تساعدهم في التعامل مع الامتحان الإشهاديّ بصورة جيّدة.

 

إشكاليّات بناء الدروس

لم يسمح التواصل الكتابيّ بالبناء السليم لعدد من الدروس التي تحتاج إلى التفاعل المباشر للمتعلّمين مع المدرِّس، وذلك ما أكّدته الإشارات التي تلقّيتها في مرحلة التقويم التكوينيّ من جهة، ومرحلة التقويم الختاميّ للدرس من جهة ثانية. ومن أمثلة هذه الدروس، النصّ الأول في مجزوءة "شعر التفعيلة" مع شعبة الجذع المشترك للآداب والعلوم الإنسانيّة. ففي هذا الدرس يتعرّف المتعلّم، وللمرّة الأولى، إلى خصائص نمط شعريّ جديد، يرتكز على خصائص إيقاعيّة وبلاغيّة غير مألوفة، وهذا ما يوجب بطبيعة الحال التفاعل مع أسئلته وانتظاراته وتعاطيه مع التعلّمات، للأخذ بيده بسلاسة نحو فضاء شعريّ غير مألوف.

وقد تمثّلت الوسيلة التي أدَّيتُ بها هذا الدرس، وبخاصّة مرحلة التمهيد منه، في برنامج PowerPoint، إذ أنجزت عرضًا تفاعليًّا يحتوي على صور ومعطيات تحليليّة، ثم شاركتها في المجموعة التواصليّة مع المتعلّمين، غير أنّ ردود الأفعال التعلّميّة التي وردتني كتابيًّا (عبر آليّة "التعليق")، لم تظهر النجاح المتوقّع للدرس، وعجز غالبيّة التلاميذ عن استيعاب التعلّمات المطلوبة، الأمر الذي دفعني إلى تسجيل شريط فيديو يشرح هذه التعلّمات ويوضحها، ومع ذلك لم يُحرز الدرس تقدُّمًا كبيرًا.

والحقّ أنّ هذه النتيجة التي آل إليها الدرس، أكّدت لي أنّ الوسيلة المثلى لإنجازه عن بعد تتمثّل في تقنيّة "الفيديو المباشر"، غير أنّ هذا الخيار لم يكن متاحًا، نظرًا إلى غياب الشروط الموضوعيّة الضامنة لمبدأ تكافؤ الفرص، وعلى رأسها كُلفة تشغيل الفيديو بالنسبة إلى التلاميذ، وانتفاء جودة الإنترنت الذي يسمح بذلك في بعض المناطق النائية التابعة للمجال الجغرافيّ المُستهدَف من المؤسسة التربويّة. ولعلّ هذه النتيجة المستخلَصة من هذه التجربة العمليّة، تؤكّد أنّ التعليم عن بعد ليس قرارًا فارغ التكلفة، فقبل أن تتبنّى المؤسّسة التربويّة (بدعم من الإدارة الرسميّة) مثل هذا القرار، وتعمل به بصورة كلّيّة أو جزئيّة، عليها أن تُعدَّ له الأرضيّة المناسبة، وتوفِّر الإمكانات الماديّة المطلوبة (مثل تقوية الإنترنت في المناطق الحضريّة والقرويّة كلّها)، وتعمل على ضمان مجانيّته، وعلى توفير الأجهزة الإلكترونيّة المطلوبة بالتساوي حتّى لا يُمسّ مبدأ تكافؤ الفرص، لأنّ أهمّ نقاش أُثير حول تجربة التعليم عن بعد، هي صدقيّة هذا المبدأ المقدّس في ظلّ تفاوت إمكانات التلاميذ الماديّة.

وما أكّد لي هذه الخلاصة بوضوح أكبر، الجهود التي بذلتها، من خلال التواصل الكتابيّ، من أجل بناء الدروس المتعلّقة بعلم العروض مع تلاميذ الجذع المشترك للآداب والعلوم الإنسانيّة. ولأنّ هذه الدروس لها أهمّيّة كبيرة في مسار المتعلّم الأدبي، سعيتُ إلى وضع خطّة خاصّة لبناء المهارات التالية:

  • - القدرة على التمييز بين أجزاء البيت الشعريّ بناء على معايير موسيقيّة: الصدر، والعجز، والحشو، والعروض، والضَّرب.
  • - التمكّن من آليّات التقطيع الرمزيّ للبيت الشعريّ باستثمار قواعد "الكتابة الصوتيّة".
  • - التعرّف إلى أجزاء التفعيلة: السبب الخفيف، والسبب الثقيل، والوتد المجموع، والوتد المفروق، والفاصلة الصغرى، والفاصلة الكبرى.
  • - القدرة على تحديد تفاعيل البيت الشعريّ وتمييز البحر الشعريّ الذي تمثِّله.

في واقع الأمر، كان التخطيط شاقًا لتدريس هذه الكفايات المهمّة بوسائل محدودة جدًّا، تتمثّل في تواصل كتابيّ لا يسمح بتفاعل آنيّ بيني وبين المتعلّمين، وفي تعليقات بعديّة مكتوبة، لا أرى فيها تعبيرات الوجه وعلامات التواصل العيانيّ المفيدة. وعلى الرغم من الجهود كلّها التي بذلتُها في تمرير الكفايات المذكورة، ظلّ الإنجاز ناقصًا، ولم أحسّ بأنّ التلاميذ قد خرجوا ومعهم المظنون من المهارات، لأنّ الخُطّة المعتمدة في التدريس، كانت تصطدم دائمًا في حاجة المتعلّم إلى المرافقة الآنيّة أثناء إنجاز الأنشطة المدرسيّة، وهذا ما لا يسمح به إلّا التواصل بتقنيّة الصوت والصورة كما أسلفت.

 

ضرورة التدخُّل الضبطيّ للإدارة التربويّة

انطلاقًا من تجربتي مع قسم الأولى بكالوريا للآداب والعلوم الإنسانيّة، تبيَّن لي أنّ دور الإدارة التربويّة الضبطيّ يجب أن يمتدّ بالضرورة إلى الفضاء التربويّ الشبكيّ، إذ إنّ عددًا من التلاميذ يعلمون أنّ إغفال حضور دروس التعلُّم عن بعد لا يستلزم قرارًا إداريًّا، لذا، فإنّهم لا يكترثون بها، ولا يكلّفون أنفسهم عناء التفاعل معها (على فرض أن التلاميذ كافّة يملكون الإمكانات الماديّة والتقنيّة المطلوبة). وبما أنّ التلميذ يشتغل بإشراف الأطر التربويّة، فإنّ واجب المدرسة هو تحصين فرص التعلّم لديه، عبر مراقبة الحضور، وترتيب الإجراءات التربويّة الصارمة في هذا الشأن.

وتعزّزت هذه الخلاصة لديّ، بعدما سجّل الفصل الدراسيّ المذكور غيابًا ملحوظًا عن متابعة الأنشطة المدرسيّة القائمة في الفضاء الشبكيّ بخلاف جميع الفصول الأخرى. والواقع أنّ هذا الدور الضبطيّ للإدارة التربويّة، يجب أن يمتدّ إلى مراقبة السلوك الأخلاقيّ للتلاميذ، حتى نحمي الفعل التربويّ ممّا قد يشوّشه، ونعطي للتعليم عن بعد صورته الرسميّة المساعدة في فرض الجدّيّة.

 

إشكاليّة الإعداد القبليّ

مع انتشار ثقافة الإنترنت، أضحت الموارد المعرفيّة متاحة بكثرة، ولم يعد إجراء بحث معرفيّ ما أمرًا متعبًا، على نحو ما كان عليه الحال من قبل، إذ كان جمع المادّة المعرفيّة في موضوع ما أمرًا شاقًّا ومرهقًا، ومكلفًا للجهد والوقت معًا.

غير أنّ هذه الطفرة المعرفيّة في الفضاء الشبكيّ، ورغم ميزاتها الكثيرة، لم تسلم من العيوب، ولا من المخاطر المهدّدة لسلامة المعرفة، ومن مظاهر ذلك، انتشارُ موادّ معرفيّة غير موثّقة، أو غير دقيقة، أو منتحَلة.

وقد انعكست هذه الصورة السلبيّة للمعرفة المقدَّمة في الإنترنت على الأنشطة المدرسيّة، وبخاصّة الأنشطة التي تدخل في نطاق "الإعداد القبليّ". وعلى الرغم من أنّ هذا الموضوع ليس مرتبطًا بتجربة التعليم/التعلُّم عن بعد، لكنّه برز أثناءه بصورة أكثر وضوحًا، فاستثمرت فئة واسعة من التلاميذ وجودها المكثّف في الفضاء الشبكيّ في فترة الحجر الصحيّ، من أجل القيام بأنشطة "الإعداد القبليّ"، وذلك ما كان له، في كثير من الأحيان، أثر سلبيّ على جودة الأنشطة التعلُّميّة، بفضل الاستثمار غير المعقلن لموارد الفضاء المذكور وإمكاناته الهائلة.

ومن صور الاستثمار السلبيّ هذا، نسجّل هنا الأمثلة التالية:

  • - استقدام معرفة غير دقيقة (في الأنشطة ذات الطبيعة المعرفيّة النظريّة، مثل نشاط التمهيد في مكوّن النصوص).
  • - يعمد عدد لا بأس به من التلاميذ إلى نسخ (نظرًا إلى سهولة العمليّة في شبكة الإنترنت) إنجاز زملائهم الآخرين، ولا يضيفون إليه شيئًا، وهذا ما يضرّ بفرصهم في التعلُّم.
  • - يلجأ بعض التلاميذ إلى مجموعات في "فيسبوك" (وفي غيره من الوسائط) لوضع أسئلة الأنشطة المدرسيّة المطلوبة، في انتظار تدخّل أحد المتطوّعين من أجل وضع المطلوب. ولا يخفى ما لهذا الإجراء من ضرر على لياقة التلميذ في التفكير، والتمرّن، والتعامل مع الوضعيّات الاختباريّة البانية للمهارات المدرسيّة.

ولمّا كانت وضعيّة "الإعداد القبليّ" في الفضاء الشبكيّ بهذه الصورة المقلقة، يجب، في رأيي الخاصّ، التدخّل لحلّ المشكلات المذكورة، عبر توفير منصّات إلكترونيّة مدرسيّة تساعد المتعلّمين في إنجاز الأنشطة المدرسيّة المنزليّة بطرق صحّيّة، تضمن فرصة التلميذ في التعلم الذاتيّ المشفوع بالإرشاد والتوجيه.

 

تشجيع الأنشطة الإبداعيّة وتهيئة أرضيّتها الشبكيّة المناسبة

عملتُ خلال تجربة التعليم عن بعد على الفصل بين الدروس المقرَّرة في البرنامج الدراسيّ بأنشطة إبداعيّة ذات طبيعة أدبيّة، من قبيل اقتراح بعض القصص القصيرة على التلاميذ، مع مناقشتها معهم بأسلوب حرّ، غير عابئ بتقنيّات التحليل المدرسيّ المعتادة، وذلك ما أثمر نتائج تفاعليّة ممتازة، وأخرج التلاميذ من رتابة الدروس، وأمدّهم بشحنة مشاعر إيجابيّة.

وشجّعنا هذا الميل إلى الإبداع على الانخراط في تجارب أدبيّة أخرى، تمثّلت في المشاركة في بعض المسابقات الأدبيّة التي أعلنتها جهات رسميّة، وذلك ما حفّز التلاميذ على الإبداع في مختلف المجالات (القصّة القصيرة، والشعر، والتشكيل.. إلخ)، وخلق أجواء إيجابيّة في مجموعات التواصل المدرسيّ، وأتاح للمبدعين فرصًا للتعبير عن مواهبهم.

ما أريد لفت النظر إليه من إثارة هذا الموضوع، أنّ الانفتاح على الفضاء الشبكيّ الذي بدأته المدرسة المغربيّة أخيرًا، يجب أّلّا يغفل العناية بمجالات الإبداع، لا سيّما أنّ نصوص الأدب الرقميّ بدأت تتكاثر، وتفرض قيمتها الجماليّة يومًا بعد يوم، وتلفت إليها انتباه النقّاد والمهتمين، فلماذا لا تتدخّل المدرسة لتأسيس منصّات تُعنى بالإبداع الرقميّ، وتشجّع على تلقّيه وتحليله وإنتاجه في صفوف المتعلّمين أيضًا؟

والواقع أن الشكوى التي يعبّر عنها المدرّسون والآباء من إفراط الأطفال والشباب في استعمال الأجهزة الإلكترونية، لا ينبغي أن تجرّنا إلى التفكير في الحلول القادرة على قطع هذا الاستعمال السلبيّ قسرًا، فبدل ذلك، يمكن أن نفكّر في ترشيد استعمال الإنترنت عبر إغنائه بموادّ إبداعيّة ممتعة، لها القدرة على جلب أنظار ناشئتنا وإغرائهم بالتفاعل معها، وذلك ما يمكن أن يتحقّق باستثمار إمكانات التقدّم التكنولوجيّ على نحو إبداعيّ.

 

خلاصة

لا يخفى على أحد أنّ تجربة التعليم عن بعد المُنجزة أثناء الحجر الصحّيّ في المغرب، قد عرفت بعض النجاح، واستطاعت أن تقاوم انقطاع التلاميذ عن الدروس الحضوريّة، بما تيسَّر من أدوات وإجراءات، غير أنّ هذا النجاح الجزئيّ، يجب ألّا يحجب عنّا إخفاقاتها المبيَّنة أعلاه، لأنّ العلم بالإخفاقات، وإدخالها إلى دائرة السؤال النقديّ، هما المدخلان الوحيدان نحو تحسين صور الانفتاح الذي بدأته المدرسة المغربيّة في فضاءات التواصل التكنولوجيّ الكفيلة بتحديث أنشطتها التربويّة.