ملفّ عدد منهجيّات الأخير في غاية الأهمّيّة، ويستحقّ التأمّل فيه بدرجة أكثر عمقًا من السائد في المجتمعات العربيّة. ولا أريد أن أُفهَمَ هنا أنّي أميل إلى طرف على حساب طرف، بل أكتب محاولًا تحديد الأدوار والمسؤوليّات، ولفتًا للانتباه إلى أنّ الجهود التي تُبذل لتعليم الأبناء والبنات قد لا تُحقّق أهدافها نتيجة التداخل في الأدوار والمسؤوليّات.
ما رواه لي معلّم لغة عربيّة يُلهمني إلى اليوم، ولا يغيب عن بالي:
دخل غرفته الصفّ السابع، فوجد فيها 7 من أصل 52 طالبًا متعثرون بدرجة عالية في القراءة. قرّر إصلاح الخلل وعدم هدر الوقت بالتفكير بأسبابه، ووضع خطّة امتدّت على فصل دراسيّ كامل؛ فمشكلة التعثّر بالتأكيد لا تُحلّ بسرعة، أو في مدّة زمنيّة قصيرة. في رحلته لحلّ المشكلة، تعرّض إلى التهجّم والاتّهام من بعض أولياء الأمور. تخيّلوا أنّ من يريد مساندتهم هو مَن هاجموه.
هنا، الإلهام هو الذي جذبني للتعلّم من تجربة هذا المعلّم:
ما فعله ببساطة أنّه لم يسمح للاتّهام والتشكيك بإبعاده عن هدفه، فاستغنى عن دور الأهل ولم يحذفه تمامًا، بل كلّف أحد زملائه المعلّمين بالقيام بالدور المخصّص للأهل في خطّته لعلاج التعثّر عالي المستوى.
تخلّي طرف عن دوره ومسؤوليّته لم يكن مبرّرًا لإيقاف خطّة المعلّم، والتخلّي عن هدفه في جعل الطلبة المتعثّرين يسيرون جنبًا إلى جنب مع بقيّة زملائهم.
تمثّلتُ خطّته مع إحدى الطالبات اللواتي لا يستطعن الكتابة؛ فقد رأيتها في حصّة الكتابة ترسم دوائر متداخلة. وعندما تساءلت أخبرتني الطالبة أنّها لا تعرف الكتابة. سألتها عن أفضل صديقاتها، فقالت: لا أحد، أحبّ الجلوس وحدي. فسألتها عن هواياتها وألعابها المفضّلة، فأعادت الجواب نفسه: أحبّ الجلوس وحدي في غرفتي أو في المدرسة.
مثل هذه الإجابات ترسل رسالة أنّ المعلم بذل جهده، لكنّ الطالب لا يريد التعلّم، وهذا خطأ يقع فيه المعلّمون والمعلمات من دون أن يشعروا؛ فيصبح الطالب قائدًا لتعلّمه، مع أنّ هذا الأمر هو الدور الجوهريّ للمعلّم، وهو المسؤول الأول والأخير عنه.
سألتها: أين كانت آخر رحلة خرجت بها؟ فقالت فورا: أخذنا أبي إلى العقبة.
ما قمتُ به هو أنّني دخلت إلى عقل هذه الطالبة من مدخل خارجيّ؛ لأنّي لو بقيت أسأل عن أمور تخصّها هي، لبقيت الإجابة واحدة: إنّها تحبّ البقاء وحدها. لكنّ المعلم عندما خرج من دائرة الطالب الذاتيّة، وجد إجابة مختلفة، ولم يعد الطالب قادرًا على الهروب من التعلّم. صار المعلم فعلًا، صاحب القرار النهائيّ في التعلّم.
تخيّلوا لو استسلمنا أنا والمعلّم المذكور لما أراده الأهل وأفصحت عنه الطالبة! لن تُحلّ المشكلة، وسترحل إلى العام القادم، ويواجه المعلّم الجديد ما واجهه الذين سبقوه.
سيواجه المعلّمون والمعلّمات مثل هذا التخلّي عن الأدوار لدى الطلبة أو أولياء أمور، لا يرغبون القيام بأدوارهم. وهذا لا يعني أن يتخلّى المعلّم هو الآخر عن دوره، وأن تصبح تلك الفئة التي تهرب من أدوارها قدوة وحجّة للمعلّم، فيتخلّى هو الآخر عن الطالب.
يجب ألّا يضيع الطالب بين تخلّي الأهل وتخلّي المعلمين؛ سيصبح ضحيّة.
هذا الأمر قد يكون أكثر ما يربك الأداء التعليميّ داخل الغرفة الصفّيّة، ولا سيّما إذا كان المعلّم بحاجة إلى دعم حقيقيّ من الأهل بسبب مشكلات سلوكيّة أو قدرات عقليّة يعانيها ابنهم. أنا على ثقة أنّ المعلّم سيبذل جهده، وربّما يصل مرحلة لا ينتظر فيها مساعدة أحد، لكنه سيصل مرحلة لا يستطيع فيها وحده إحداث التغيير؛ لذلك هو بحاجة إلى مساندة ودعم: المطلوب من المعلم إذا واجهته هذه الحالة هو الاستبدال، بمعنى إيجاد مَن يعوّض دور الغائبين.
هذا التحدّي ربّما يكون أكثر في المجتمعات الفقيرة التي يكون فيها العبء الماليّ كبيرًا فوق كاهل الأهل. لذلك، يجب أن تبحث المدرسة عن دعم رسميّ مختلف أو أكثر تركيزًا، ثمّ تحاول التنسيق مع المؤثّرين في المجامع التي توجد فيها. إذًا، لا يعني بأي حال من الأحوال أن يصبح تقصير المجتمع مبرّرًا للمدرسة كي تتخلّى عن أدوارها، بل هذا الأمر يُحمّل المدرسة مسؤوليّة إضافيّة لقيادة التغيير المجتمعيّ، ولإعادة تشكيل فكر الأهل وأولياء الأمور نحو أدوارهم تجاه أبنائهم ومدارسهم.