الأطفال والنزاعات المسلّحة عبر العالم
الأطفال والنزاعات المسلّحة عبر العالم
2025/04/27
أجدور عبد اللطيف | كاتب صحفيّ وباحث تربويّ- المغرب

اعتقدنا لفترة محدودة، خصوصًا في مستهلّ الألفيّة الجديدة، أنّ الأطفال لا يحتاجون بالضرورة إلى مصاحبة نفسيّة معيّنة تحميهم من تبعات النزاعات المسلّحة التي تمزّق الأرض. فمنذ نهاية الحروب الأهليّة المتفرّقة التي نشبت عن الحرب الباردة هنا وهناك، وباستثناء تدخّل الولايات المتّحدة في أفغانستان والعراق عسكريًّا، شهد العالم هدوءًا نسبيًّا سمح للأطفال بالنموّ في جوّ تحوطه بعض الاعتياديّة والألفة. لكنّ الغرابة أفسحت لنفسها حيّزًا مع بداية العشريّة الثانية من الألفيّة، بعد اندلاع ما يسمّى بثورات الربيع العربيّ، وما صاحبها في بعض البلاد من مواجهات عسكريّة دامية تحولت إلى مجازر حقيقيّة، ما زال بعضها جاريًا حتّى اليوم، انتهاءً بالعدوان الصهيونيّ الوحشيّ الذي يستعصي على الوصف والمنطق على فلسطين.

لا تكاد تخلو نشرة أخبار أو موجز أو برنامج حواريّ، على شاشة التلفاز، من أخبار الحروب الطاحنة الدائرة رحاها في فلسطين وسوريا وليبيا والسودان واليمن وأوكرانيا وأفغانستان، وبعض دول أفريقيا جنوب الصحراء... بل لا يمكن أن تتصفّح محتوى مواقع التواصل الاجتماعيّ من دون الوقوف على محتوى يغطي هذه الحروب. ومن هنا، كلّ طفل معرّض يوميًّا لمشاهد الدمار والقتل والدخان والدماء والحرائق، في سنّ ليس من المفروض بتاتًا أن يطلع عليها. ومن الوارد جدًّا أن تصيبه هذه المشاهد المتكرّرة بنوبات ذعر، حتّى لو كانت غير مصحوبة بأعراض خارجيّة، ما يؤثّر سلبًا في حياته النفسيّة، في المدى المتوسّط والبعيد.

يمكن أن تتسبّب مشاهد العنف المتكرّرة بإدخال الطفل في أزمة نفسيّة، في ما يخصّ علاقته الوجوديّة بالجماعة، سواء الصغيرة أو الكبيرة؛ فالنوع البشريّ، والذي أدرك منبع الأمان منذ علاقته بأمّه يوم كان رضيعًا، وبأبيه وإخوته وهو يخطو خطواته الأولى، هو نفسه من يتفنّن في إبادة بني نوعه، باختراع القنابل العنقوديّة، والأسلحة الكيميائيّة، والطائرات المسيّرة، والقنابل الكهرومغناطيسيّة الأسرع من الصوت، فضلًا عن البنادق والرشّاشات والدبّابات والقنابل اليدويّة والبراميل المتفجّرة، والتي تختار أهدافها بعناية: بين مستشفى ومدرسة ودور عبادة ومخيّمات لجوء وبيوت صحفيّين... إنْ علم الطفل أنّ كلّ هذه البشاعة الصادرة عن الإنسان بإتقان، والموجّهة كذلك للإنسان، هي بالفعل أحداث حقيقيّة واقعيّة، لا مجرّد مشاهد سينمائيّة متقنة كما تردّد أمّه على مسامعه كلّما جزع لمشهد عنف في التلفاز، فإنّ ذلك يفتحُ جرحًا عميقًا في هويّته ووجوده إنسانًا. ويسبّب اكتئابًا عويصًا باكتشافه أنّ العالم شرير جدًّا، عكس ما أقنعته به قصص الأطفال دومًا. كما أنّ الجهل بأسباب كلّ هذه الهمجيّة، أو العجز عن استيعابها أقلّه، مع أنّ الكبار نادرًا ما يحاولون احتواء هذه الأسئلة الحارقة، يفاقم الوضع، ويدخل الطفل في دوّامة شكّ تجاه ذاته أوّلًا، ثمّ تجاه محيطه الصغير والكبير بعدها.

 

هنا، تصير الحاجة ماسّة إلى فتح قنوات تواصل سلسة مع أبنائنا، للسماح لهم بالتعبير عن احتجاجهم المكبوت، وتذمّرهم الخافت. ومن ثمّة محاولة ترتيب الأشياء في رؤوسهم، بحيث يتقبّلون الشرّ الأخلاقيّ الموجود في العالم، كونه كما يعلمنا التاريخ الذي لا نتعلّم منه بالمناسبة، وللأسف، جزءًا لا يتجزّأ من وجود بني البشر، وسنّة دأب الإنسان الحريص على مواصلتها بالأجيال.

يستطيع الأهل الاستعانة ببعض كتب الأطفال التي تحاول في قوالب سرديّة قصصيّة، التعاطي مع مسألة العنف المتمثّلة في الحروب، وتفسيرها في مستواها الطفوليّ، ثمّ تقرير عواقب الشرّ المدمّرة في أذهانهم. وترسيخ تفكير سليم لدى الصغار يجنح إلى الحوار واللين بدل كلّ شيء آخر. لا سيّما بالنسبة إلى الأطفال الذين يسترسلون في التساؤل، وذلك لكون المحاولة أفضل من ألّا نحاول أبدًا، وأفضل طبعًا من التجاهل والإقصاء، فعلى أيّة حال لا يمكن لشيء، ولا أحد، أن يبرّر الحرب وفظاعاتها.

ترى إحدى المختصّات النفسيّات عبر منشورات اليونيسيف، أنّ عليك ألّا تقلّل من شأن مخاوف أطفالك أو تتغافل عنها. وإذا طرحوا عليك سؤالًا شديد الوقع بالنسبة إليكَ، مثل "هل سنموت جميعًا؟" فطمئنهم بأنّ ذلك لن يحدث، ولكن حاول أيضًا معرفة تفاصيل ما سمعوه، ولماذا أقلقهم. إذا تمكّنت من فهم مصدر قلقهم، فغالب الظنّ أنّك ستكون قادرًا على طمأنتهم.

أكّد لهم أنّك تتفهّم مشاعرهم، وطمئنهم أنّ كل ما يشعرون به طبيعيّ. بيّن لهم أنّك تنصت إليهم بكلّيّتك من خلال منحهم كامل اهتمامك، وذكّرهم بأنّك ترحّب بحديثهم إليك - وقتما يشاؤون- أو إلى أيّ شخص بالغ آخر موضع ثقة.

 

ختامًا، لا بدّ أن نحاول ما استطعنا، عزل أبنائنا عن الاحتكاك بكلّ مظاهر العنف، سواء على التلفاز أو الإنترنت، خصوصًا مشاهد الحروب المؤسفة التي تتزايد باطّراد. ويجب ألّا نسمح لفضولنا في الاطّلاع على آخر أخبار النزاعات المسلّحة عبر العالم، بأن تفسد السلام النفسيّ للصغار، في تصوّراتهم الصحيحة لذواتهم ولمحيطهم وللعالم. ويسري الأمر حتّى على الأفلام السينمائيّة والمسلسلات، ويصبح جللًا كلّما كان الطفل صغيرًا. أمّا عندما يصير يافعًا محتاجًا إلى تواصل واضح تجاه هذه العناصر، فحينها يمكننا أن نحدّثه بحقيقة الحرب الجارحة جدًّا؛ لكن بتبيان أنّ الواقعيّة التي تفرض علينا نفسها بها، وأنّ المعرفة والقبول بهذه الحقيقة، لا يعني التطبيع والموافقة عليها، بل كما يقول القائل: "عرفت الشرّ لا للشرّ بل لتوقّيه".