التعليم بين القطاعين العامّ والخاصّ: ازدواجيّة تبحث عن تبرير
التعليم بين القطاعين العامّ والخاصّ: ازدواجيّة تبحث عن تبرير
2025/09/28
مروان أحمد حسن | عضو هيّئة التحرير في منهجيّات- مصر

التعليم، هذا الحقّ الإنسانيّ الأساسيّ، يُفترض أن يكون متاحًا للجميع على قدم المساواة، بعيدًا عن الوضع الاقتصاديّ أو الاجتماعيّ. في وطن يتوق أبناؤه لتعليم يحقّق العدالة، أصبح التعليم مرآة عاكسة للتفاوت الطبقيّ بدلًا من أن يكون أداة لتحقيق العدالة الاجتماعيّة. بين التعليم الحكوميّ الذي يعاني الإهمال والتكدّس، والتعليم الخاصّ الذي يُسوّق كمنتج فاخر للأثرياء، يقف الطالب – الذي يرى في التعليم سلّمًا وحيدًا لتحقيق طموحاته – ضحيّة لنظام يكرّس الفجوة بين الفقراء والأغنياء.

لم تعد قضيّة التعليم الخاصّ والحكوميّ مجرّد نقاش أكاديميّ حول جودة المناهج أو كفاءة المعلّمين، بل باتت معضلة أخلاقيّة واجتماعيّة تهدّد مبدأ تكافؤ الفرص. كيف يمكن لمن يدّعي السعي لتحقيق التنمية المستدامة، أن يترك نظامه التعليميّ رهين معادلة المال مقابل الجودة؟ أليس التعليم الحكوميّ الذي يخدم الغالبيّة العظمى مسؤوليّته الأولى والأهمّ؟

إنّ هذه الازدواجيّة التي تتغلغل في كلّ مراحل التعليم، ليست انعكاسًا للأوضاع الاقتصاديّة فحسب؛ بل هي نتيجة لسياسات تعليميّة منفصلة عن الواقع. هنا تبرز الأسئلة الملحّة: هل يمكن اعتبار التعليم الخاصّ ضرورة لتخفيف الضغط على النظام الحكوميّ، أم إنّه مجرّد وسيلة لتمييز الطبقات الاجتماعيّة؟ وما التداعيات بعيدة المدى لاستمرار هذه الفجوة على مستقبل الأجيال القادمة؟ 

الحديث عن التعليم في بلدٍ يعاني فيه التعليم الحكوميّ تحدّيات مزمنة، بينما يزدهر التعليم الخاصّ خيارًا للنخبة، لم يعد يحتمل التجميل أو التسويف. ما نحن أمامه تحدٍّ حقيقيّ يستدعي إعادة النظر في الأولويّات والسياسات، والعمل على تحقيق إصلاح جذريّ يعيد إلى التعليم وظيفته الأساسيّة: أن يكون سلاحًا للعدالة الاجتماعيّة، لا أداة لتعميق الفوارق.

 

التعليم الخاصّ: رفاهية أم تمييز؟

بينما يلهث الآباء وراء المقاعد في المدارس الخاصّة التي تتباهى بشعارات عالميّة ومناهج مستوردة، يبقى التعليم الحكوميّ في حالة يرثى لها، وكأنّه خيار اضطراريّ لمن لا يملكون المال. أليس هذا اعترافًا ضمنيًّا بالتخلّي عن المسؤوليّة في توفير تعليم جيّد للجميع؟ كيف يمكن أن نبرّر وجود نظامين مختلفين في وطنٍ واحد، يخدمان شرائح مختلفة وكأنّنا في عالمين متوازيين؟

من يروّج لفكرة أنّ التعليم الخاصّ ضرورة لتخفيف العبء، ينسى أنّ هذه الضرورة نتيجة فشل في إصلاح التعليم الحكوميّ. التعليم الحكوميّ كان في يوم من الأيام منارة للتفوّق، فلماذا أصبح اليوم رمزًا للتكدّس وضعف الموارد؟ هل حُكم عليه بالإهمال عمدًا ليصبح التعليم الخاصّ الحلّ الوحيد؟

 

التداعيات الاجتماعيّة 

هذه الازدواجيّة لم تُنتج فروقًا تعليميّة فحسب؛ بل غذّت شعورًا بالتمييز الاجتماعيّ. الأطفال الذين يتعلّمون في مدارس خاصّة يجدون أنفسهم منذ الصغر في دائرة نخبويّة، بينما يتربّى أطفال التعليم الحكوميّ على شعور بالحرمان والإقصاء. كيف نطالب بالعدالة الاجتماعيّة، بينما نزرع بذور التمييز منذ المراحل الأولى من التعليم؟

 

الحلّ ليس مستحيلًا 

لا يكمن الحلّ في إلغاء التعليم الخاصّ، بل في رفع مستوى التعليم الحكوميّ ليصبح منافسًا حقيقيًّا. يبدأ الحلّ بإرادة سياسيّة حقيقيّة تعترف بأنّ التعليم الحكوميّ هو العمود الفقريّ لأيّ نهضة مجتمعيّة. يجب أن يتوقف التعامل مع المدارس الحكوميّة كأنّها مشروعات خدميّة هامشيّة، ويبدأ النظر إليها بوصفها محورًا استراتيجيًّا للاستثمار الوطنيّ. فالدول التي نهضت لم تفعل ذلك عبر خصخصة التعليم، بل من خلال تمكين مؤسّساتها العامّة.

أولى الخطوات تحسين البنية التحتيّة للمدارس الحكوميّة؛ لا يمكن لطالب أن يتلقّى تعليمًا فعّالًا في فصول مكتظّة أو مبانٍ متهالكة تفتقر إلى الأساسيّات، مثل: المقاعد المناسبة، والمعامل، والمكتبات. يجب أن يصبح لكلّ مدرسة حدّ أدنى من التجهيزات التي تضمن بيئة تعليميّة صحّيّة وآمنة.

المعلّم حجر الزاوية في العمليّة التعليميّة. لذا، يجب أن يتلقّى المعلّمون الحكوميّون تدريبًا جادًا مستمرًّا في استخدام أحدث الأساليب التعليميّة، لا تدريبًا صوريًّا من أجل الترقّي الوظيفيّ، مع تحسين أوضاعهم الماديّة لخلق دافع حقيقيّ لديهم إلى العطاء. من غير المقبول أن يتحمّل معلّم مسؤوليّة عشرات الطلّاب، وهو يعاني ضغوطًا اقتصاديّة.

المناهج الدراسيّة بحاجة إلى تحديث حقيقيّ شامل لتواكب متطلّبات العصر وسوق العمل. تحديث لا يعني مجرّد إضافة موادّ جديدة، أو تبنّي شعارات مستوردة للحصول على معونات أو دعم خارجيّ؛ بل يتطلّب إعادة صياغة شاملة للمحتوى بما يخدم احتياجات المجتمع المحليّ ويعزّز قدرات الطلّاب في التفكير النقديّ والإبداعيّ. يجب أن تركّز المناهج على التطبيقات العمليّة بدلًا من الحفظ والتلقين، مع ربط التعليم النظريّ بالعمليّ من خلال برامج تدريبيّة ومشروعات تطبيقيّة، تُعِدّ الطلّاب لمواجهة تحدّيات سوق العمل بمهارات حقيقيّة وقابلة للتنفيذ.

ذلك فضلًا عن ضرورة تفعيل نظم الرقابة والمساءلة؛ فلا يمكن لأيّ خطّة تطوير أن تنجح من دون نظام رقابيّ صارم يضمن التنفيذ الفعليّ للسياسات التعليميّة. ويجب أن تخضع المؤسّسات التعليميّة لتقييم دوريّ من جهات مستقلّة، مع وضع آليّات لمحاسبة المقصّرين ومكافأة المتميّزين. كما يجب أن تعود مدارسنا لدورها الأساسيّ مركزًا مجتمعيًّا؛ حيث تكون فضاءً للتعليم والتفاعل الثقافيّ والاجتماعيّ بفتح أبواب المدارس للمجتمع المحليّ بعد ساعات الدراسة، لاستضافة الأنشطة الثقافيّة والرياضيّة، ما يعزّز الانتماء والشعور بالمسؤوليّة المشتركة.

 

في النهاية، ازدواجيّة التعليم فجوة اجتماعيّة تُعمّق التمييز وتكرّس الطبقيّة. إن لم نواجه هذه الحقيقة ونعمل على إصلاح جذريّ، فسنظلّ نعيش في مجتمعات تتحدّد فيه فرص الفرد بناءً على نوع المدرسة التي التحق بها، لا على قدراته وإمكاناته. ما طرحناه هنا لا يستهدف دولة أو نظامًا تعليميًّا بعينه؛ بل هو دعوة مفتوحة إلى كلّ بلد يسعى للنهوض بمستقبل أجياله. تطوير التعليم لا يتحقّق بإصلاحات شكلّيّة أو مبادرات مؤقّتة؛ بل يحتاج إلى رؤية استراتيجيّة شاملة تضع الطالب والمعلّم في قلب العمليّة التعليميّة.