من قلب الحرب والحصار والدمار نكتب كلمات الأمل والتفاؤل
لا يخفى على أحد ما خلّفته الحرب من ألم. لا يقتصر هذا الألم على فقدان الأحباب أو تدمير البيوت أو نقص الطعام والشراب، بل تعدّاه ليطال فقدان الشعور بالأمن النفسيّ، ذلك الشعور الذي يشكّل جوهر استقرار الإنسان الداخليّ. عندما يُضطرّ الناس إلى مغادرة منازلهم والانزلاق إلى حياة مؤقّتة في خيمة أو مأوى مزدحم، تبدأ رحلة جديدة من المعاناة، رحلة تتجاوز الخوف الجسديّ لتصل إلى أعماق النفس.
تتحوّل المخيّمات ومراكز الإيواء إلى فضاءات مكتظّة، تعجّ قلقًا وتوتّرًا، ويصبح كلّ يوم اختبارًا للصبر والصمود والتحدّي في ظلّ الظروف القاسية؛ من سوء المسكن وقلّة الطعام ورحلة البحث عن الماء، لتجعل هذه المرحلة الحرجة والحسّاسة من أهمّيّة التعامل مع ضغوط الحياة والأزمات، باستخدام تقنيّات الإسعاف النفسيّ الأوّليّ والرعاية الذاتيّة البسيطة، قيمةً لا تقلّ أهمّيّة عن المأوى والطعام والماء، ووسيلةً للنجاة الداخليّة. في مراكز الإيواء يطغى الاكتظاظ على الحياة اليوميّة، فيحدّ من حرّيّة الحركة ويقلّص المساحات الفرديّة، الأمر الذي يفاقم الاحتكاك بين النازحين ويثقل كاهلهم بالضغوط النفسيّة.
الأطفال الذين فقدوا أحلامهم وأمن بيوتهم يعيشون طفولة مضطّربة، مع كوابيس واضطرابات نوم. وتظهر لدى بعضهم سلوكيّات لم تكن موجودة سابقًا، مثل التبوّل اللا إراديّ أو التعلّق المفرط بالوالدين. وكذلك الشباب يشعرون بالغربة داخل وطنهم، ضائعين بين قسوة الواقع وفقدان بصيص الأفق المستقبليّ، بينما كبار السنّ مثقلون بمسؤوليّة حماية أسرهم في ظروف تمنحهم شعورًا بالعجز عن تأدية واجباتهم.
وعلى الرغم من كلّ هذه الضغوط، فإنّ التدخّلات البسيطة قادرة على مواجهتها عندما تُولّد أملًا حقيقيًّا وتعزّز الصمود النفسيّ. ومن خلال ملاحظتي لسلوكيّات النازحين، وجدت أنّ الأطفال يجدون أمانًا مؤقّتًا في زاوية صغيرة للعب في النقاط التعليميّة والأنشطة الترفيهيّة، حتّى لو اقتصرت على أوراق وألوان بسيطة، ليتعدّى اللعب الدور الترفيهيّ إلى وسيلة لتحويل الخوف إلى طاقة قابلة للتفريغ، واستعادة جزء من أحلام الطفولة المفقودة.
إنّ تشجيع الأطفال على التعبير عن مشاعرهم بالكلام أو الرسم، يعزّز قدرتهم على مواجهة القلق، بينما يوفّر وجود الأهل بجانبهم طوقَ أمن نفسيّ للحفاظ على توازنهم.
علينا أن نحتوي أطفالنا ونترك لهم مسافة للتعبير عن مشاعرهم بالطرق المختلفة
الشباب يجدون متنفّسًا في الحوارات الجماعيّة، حيث مشاركة المشاعر مع من يمرّون بتجارب مشابهة تخفّف شعور العزلة، وتخلق روابط من التعاطف والتفاهم. كذلك، فإنّ النشاط البدنيّ الجماعيّ، مهما كان بسيطًا، يسمح بتصريف الطاقة المكبوتة. بينما مشاركتهم في مهام تنظيميّة داخل المخيّم تمنحهم شعورًا بالقدرة على التأثير، ولو بشكل محدود.
كما تؤدّي الندوات وورش العمل التي تعقدها إدارة مركز الإيواء والمؤسّسات الشريكة للنساء والرجال، دورَ توفير مساحة آمنة للتعبير عن المخاوف وتخفيف ضغوط الحياة والتوتّر النفسيّ. فيما تُعزّز الأنشطة المشتركة، كالطبخ أو إشعال النار وتجهيز الطعام، الترابط الاجتماعيّ الأسريّ، وتخلق شعورًا بالإنجاز على الرغم من الظروف القاسية. وكذلك، الحوار العائليّ المفتوح حول المشاعر يمنح الجميع فرصة للتفريغ النفسيّ، ما يُقلّل التوتّر ويعيد التوازن للعلاقات داخل الأسرة.
تمنح الأنشطة الوجدانيّة والروحيّة، مثل قراءة القرآن والدعاء والأذكار إحساسًا بالطمأنينة، وتعيد التركيز على ما هو أكبر من المعاناة الفرديّة. كذلك، يخفّف التعاون والتكافل بين أفراد الأسرة من الشعور بالعجز ويعيد إحساس القوّة الجماعيّة.
في النهاية، يتّضح أنّ الإسعاف الأوّليّ النفسيّ والرعاية الذاتيّة في مخيّمات النزوح لا يحتاجان إلى إمكانيّات ضخمة أو أدوات معقّدة، ولا إلى تمويل كبير، بل يكمن أثرهما الحقيقيّ في التفاصيل الصغيرة: قصّة تُروى لتزرع الأمل، رسمة يخطّها طفل لتفريغ خوفه، جلسة حوار عائليّ تمنحه مساحة للتعبير عن مشاعره، وروح تعاون توحّد الناس.
هذه التفاصيل البسيطة تمنح النازحين القدرة على الصمود والصلابة النفسيّة، وتساعدهم على الحفاظ على إنسانيّتهم في مواجهة الظروف القاسية.
نؤكّد أنّ الإسعاف النفسيّ الأوّليّ والرعاية الذاتيّة ليسا ركيزة ثانويّة، بل جوهرًا أساسيًّا لتحويل الألم إلى صمود وأمل، ولإعادة بناء حياة مجتمعيّة على الرغم من الجراح والخراب والدمار.