أهمّيّة التكوين الذاتيّ في تنمية مهارات المعلّمين
أهمّيّة التكوين الذاتيّ في تنمية مهارات المعلّمين
حرز الله محمّد لخضر | أستاذ وباحث أكاديمي متخصص في إدارة الموارد البشرية -الجزائر

يعدّ أسلوب التكوين الذاتيّ (Self-Training) من أهمّ مداخل تحسين أداء الهيئة التعليميّة، إذ يتيح للمؤسّسة التعليميّة تطوير خبرات المعلّمين والإفادة من نتائج تعلّمهم، والارتقاء بمعايير جودة التعليم. كما أنّه سبيل فعّال لاحتواء التطوّرات والتحديثات المتجدّدة في عالم التكنولوجيا والعلوم المختلفة.

يسلّط هذا المقال الضوء على أهمّيّة التكوين الذاتيّ للمعلّم في عصرنا الحاليّ، من أجل مواكبة التطوّر التقنيّ والمهارات التعليميّة الحديثة وتفعيلها في المؤسّسات التربويّة.

 

مفهوم التكوين الذاتيّ

يُعرَّف التكوين الذاتيّ بأنّه "مجهود فرديّ دائم يعتمد على قدرات الفرد الذهنيّة لتحديث معلوماته بالاعتماد على نفسه، ومحاربة الروتين الذي يتخبّط به، من أجل تحسين مستواه باستمرار". ويعرِّفه Dumazedier بأنّه:" التطوير الذاتيّ للمعارف والقدرات، بمساعدة المصادر التعليميّة، للوصول إلى نتيجة جيّدة في جميع الجوانب التعليميّة." (لعمروس، 2019، ص 217). كما يعرَّف بأنّه "النشاط التكوينيّ الذي يقوم به الفرد مدفوعًا برغبته الذاتيّة، بهدف تنمية استعداداته وقدراته وإمكاناته، مستجيبًا لميوله واهتماماته بما يحقّق تنمية شخصيّته وتكاملها. فضلًا عن التفاعل الناجح مع مجتمعه، بالاعتماد على نفسه والثقة بقدراته في عمليّة التكوين." (شعيب وآخرون، 2019، ص 97).

 

من هنا، يعدّ التكوين الذاتيّ مقاربة إداريّة تقوم على دعم الأفراد وتحفيزهم على تنمية مهاراتهم وإشباع رغباتهم وتوجّهاتهم العلميّة والمهنيّة. تهدف هذه المقاربة إلى إكساب كفاءات جديدة وتغذية مهارات المعلّمين تغذية تسهِم في إغناء بيئة العمل وتطوير أساليب الأداء والتكيّف مع التغيّرات المتسارعة. فالتكوين الذاتيّ من أهمّ عوامل إنعاش الوسط الوظيفيّ والتقليل من مظاهر الرتابة والروتين وانكماش الكفاءات المهنيّة؛ حيث المعارف والكفاءات والمهارات التي يكتسبها أيّ موظف في مسيرته العلميّة أو العمليّة، تتعرّض للانكماش إذا لم يُغذِّها باستمرار، وذلك بالتدريب الوظيفيّ المتنوِّع الذي يسهم إسهامًا رئيسًا في إرساء قيم ومهارات جديدة، وتعزيز القيم والمهارات السابقة وتنميتها. بالإضافة إلى إسهام التكوين الذاتيّ في تحقيق ما يسمّى بالتمكين الوظيفيّ، أي تعزيز موقع الموظّف المهنيّ بتطوير مهاراته، ومساعدته على الترقية واكتساب معارف وكفايات جديدة. 

 

أهمّيّة التكوين الذاتيّ في التكيّف مع التحوّلات التكنولوجيّة

نظرًا لتسارع وتيرة التطوّر الرقميّ والتكنولوجيّ، وعدم قدرة المنظّمات الحديثة على مواكبة التحدّيات المحيطة بها واستيعابها بوسائلها وجهودها الذاتيّة، يعدّ التحفيز على التكوين الذاتيّ وتحسين الكفاءات المستمرّ، وامتلاك المهارات الحديثة والمعرفة المتطوّرة في العمل، أنسب المداخل إلى تنمية أداء الموارد البشرية، والإفادة من حجم التدفّقات المعرفيّة وكمّيّة المعلومات والتحديثات الطارئة على مستوى النسق العالميّ بوتيرة متسارعة ومكثفة.

 

تتّجه العديد من الوظائف اليوم إلى استقطاب عاملين يمتلكون مهارات تتجاوز بيئتهم الموضوعيّة، ليكونوا قادرين على استكشاف التغيّرات السريعة في المعلومات والتقنيّة. ومن خلال الوعي المعلوماتيّ (InformationLiteracy)، يستطيع الأفراد اكتساب مهارات التفكير الناقد والمهارات التقنيّة. كما يروّج الوعي المعلوماتيّ للتعلّم مدى الحياة، ويجعل الفرد قادرًا على التعلّم بنفسه مباشرةً، سواء في المدرسة أم في مجالات الحياة كافّة (نوفل وأبو عوّاد، 2010).

 

في هذا السياق، لا يمكن للمؤسّسات التعليميّة أن تستوعب قوّة التدفّقات المعرفيّة الناجمة عن حركة التثاقف، وإفرازات العولمة المعرفيّة، وتفاعل الفكر الإنسانيّ، إذا اقتصرت على برامج التكوين الرسميّ وحدها. هذه البرامج المخصّصة لتحديث مهارات المعلّمين، بالإضافة إلى تكلفتها الكبيرة، لا تسهم إلّا بالنَّزْرِ اليسير ممّا يَلْزَمُ المعلّم تَعَلُّمَهُ وإتقانَه من مهارات حديثة، مقارنةً بسرعة التحوّلات. لذلك، يمكن لتحفيز المعلّمين على التعلّم والتكوين الذاتيّ أن يسدّ هذه الفجوة التدريبيّة، ويُكوِّن حلقة وصل تُكمِل الجهود الرسميّة.

 

مقوّمات نجاح أسلوب التكوين الذاتيّ في المؤسّسات التعليميّة

يتطلّب نجاح أسلوب التكوين الذاتيّ في مؤسّساتنا التعليميّة تبلور الوعي الكامل لدى القيادة الإداريّة العليا بجدوى "التكوين" وضرورته، فلسفةً للجودة والتحسين في مراحل المسار المهنيّ للمعلّم كافّة. هذا هو المدخل الرئيس لتحقّق فاعليّة السياسات التدريبيّة المختلفة، بالإضافة إلى التخطيط الجيّد، وإيجاد مصادر تمويليّة كافية، وجودة محتويات برامج التدريب، وتوفّر الوسائل والإمكانات اللازمة.

 ولكي يسهم أسلوب التكوين الذاتيّ في تنمية المهارة التعليميّة لدى المعلّم، وتحقيق جودة الأداء المهنيّ للمؤسّسات التعليميّة، لا بدّ من توافر المقومّات الآتية: 

1. دعم القيادة الإداريّة العليا وتحفيزها.
2. توفّر وعي المعلّم ورغبته الذاتيّة بالتجديد.
3. ربط التكوين الذاتيّ بالترقية المهنيّة في المسار الوظيفيّ.
4. تنمية توجّهات المعلّمين الإيجابيّة وتحفيزهم على روح المبادرة. 
5. تعزيز ثقافة التحسين المستمرّ في الوسط الوظيفيّ. 
6. تبنّي أسلوب إدارة التغيير وإشاعة ثقافة التشاركيّة والعمل الجماعيّ.
7. التحكّم الفعّال في تطبيقات إدارة المعرفة بمداخلها واستراتيجيّاتها التنظيميّة. 
8. تخصيص تحفيزات معتبَرة وفعّالة لكلّ معلّم يواصل تكوينًا ذاتيًّا في أيّ تخصّص علميّ أو مهنيّ.

 

التكوين الذاتيّ للمعلّم من أجل اكتساب المهارات الحديثة

يحتاج المعلّم في العصر التكنولوجيّ إلى مجموعة من المهارات الحديثة، والتي باتت تمثّل مدخلًا أساسيًّا للتكيّف مع طبيعة مجتمعات المعرفة، والتحوّل الرقميّ، وثقافة التعامل الإلكترونيّ. نذكر من جملة المهارات الحديثة الضروريّة للمعلّم، والتي تسهم في تنمية قدراته الفكريّة والتعليميّة والمهنيّة، ما يلي:

 

التكوين في اللغات:

كالتشجيع على تعلّم اللغة الإنكليزيّة أو لغات أخرى مثلًا، لما في ذلك من أثر كبير في توسيع المدارك المعرفيّة والانفتاح على تجارب وثقافات ومفاهيم جديدة، يكون لها أبلغ الأثر في تنمية الأداء التعليميّ والمهنيّ للمعلّم.

التكوين في طرائق التدريس:

يتمّ ذلك بحضور دورات تدريبيّة على أيدي اختصاصيّين في البيداغوجيا وعلوم التربية والمناهج، لتطوير مهارات التعليم لدى المعلّمين. ويمكن تنظيم هذه الدورات باستضافة مختصّين وباحثين، بدفع اشتراك رمزيّ، يحصل المتدرّب مقابل ذلك على شهادة تُثمَّن في خبرة المعلّم المهنيّة. 

مواصلة الدراسة في مجالات جديدة:

يشمل ذلك دراسة تخصّصات علميّة إضافيّة، كعلم النفس التربويّ أو علوم اللغة، ومتابعة الدراسات العليا في التخصّص نفسه.

التكوين في الإعلام الآليّ:

من خلال تعميق مفاهيم الإعلام الآليّ التطبيقيّة للتحكّم بمختلف مهارات التعليم الإلكترونيّ، واستثمار تلك الكفاءات في ترقية الأداء التعليميّ.

التدريب على التحكّم بالبرمجيّات والتطبيقات الإلكترونيّة الجديدة:

مثل التدريب على تطبيقات البرنامج الإحصائيّ SPSS، أو تقنيّات PowerPoint، أو البرامج الإلكترونيّة المتخصّصة في صناعة المحتويات التعليميّة، كالأفلام، والغرافيك...الخ. فهذه البرامج تمثّل لغة العصر الإلكترونيّ، وتسهم في تنمية الذكاء الرقميّ لدى المعلّم، وتفتح أمامه آفاقًا تعليميّة جديدة في العمليّة التعليميّة، كالتعليم عن بعد والتعليم الإلكترونيّ. الأمر الذي يدفعه إلى الإبداع والتجديد وإضفاء الفاعليّة في عمله. 

 

فوائد التكوين الذاتيّ في المؤسّسات التعليميّة

ينبغي على إدارة المؤسّسات التعليميّة أن تتيح للمعلمين فرص الارتقاء علميًّا ومهنيًّا. ويكون ذلك بتكييف أوقات عملهم وتثمين هذه الكفاءات والمهارات في المسار الوظيفيّ، كربطها بالترقية وإعطائهم الأولويّة في الامتيازات المهنيّة، كحافز على التكوين الذاتيّ، باعتباره من أهمّ مداخل تنمية بيئة العمل. كما يوفِّر هذا الأسلوب التدريبيّ على الإدارة نفقات كثيرة، ويُكسِبها فوائد جمّة، أبرزها: 

1. التحفيز على التكوين الذاتيّ في مؤسّساتنا التعليميّة للاستثمار في رأس المال الفكريّ والمعرفيّ، وبناء المهارات، وتحديث المعارف. 
2. التأثير إيجابًا وبصفة مباشرة في جودة التعليم وتحسين مخرجاته. 
3. إنعاش المناخ التنظيميّ وخلق الدافعيّة والفاعليّة لدى هيئة التدريس. 
4. تعزيز الاتّجاهات الإيجابيّة لدى هيئة التدريس، وشحذ هممهم ودافعيّتهم نحو العمل. 
5. شعور الموظّفين بدعم الإدارة لهم، ومساندتها تطلّعاتهم وطموحاتهم في تعزيز مهاراتهم ومركزهم الوظيفيّ، ممّا يولِّد لديهم الرضا والانتماء الوظيفيّ والانضباط التنظيميّ.  
6. تُمَكِّن المؤسّسات التعليميّة من التكيّف مع المتغيّرات السريعة في بيئتها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والتكنولوجيّة، والإفادة من مخرجاتها في ترقية الأداء التعليميّ والمؤسّسيّ. 
7. تعزيز الملمح الابتكاريّ والإبداعيّ لدى المعلّم، وبناء قيم الجودة والتنافس في المؤسّسة التعليميّة.  
8. يمثّل التكوين الذاتيّ أحد أهمّ مقوّمات توطين ثقافة التحسين المستمرّ والتحوّل نحو نموذج "المنظّمة المتعلِّمة". 
9. تقليص نفقات المؤسّسات التعليميّة المخصّصة للتدريب المهنيّ، وإيجاد بدائل وصيغ متنوّعة للتكوين المستمرّ، قد تكون أكثر نجاعة وترشيدًا للنفقات. 
10. التشجيع على التعلّم والتكوين الذاتيّ سبيلٌ للتحوّل نحو مفهوم "العمالة المعرفيّة"، والتي تمثّل الموظّفين الذين يمتلكون مهارات وقدرات ذاتيّة على تحسين طرق العمل، وحلّ المشكلات، والتصرّف السليم في بيئة العمل. 
11. تقليص الفجوة المعرفيّة بين الموظفّين، وبين المؤسّسة التعليميّة ومحيطها الاجتماعيّ والاقتصاديّ. 

 

* * *

يعدّ الاهتمام بتكوين الموارد البشريّة وتطوير مهاراتهم وكفاءاتهم عاملًا حاسمًا في نجاح المنظّمات المعاصرة. أصبح التكوين يمثّل أحد أهمّ الاحتياجات العصريّة التي فرضها مجتمع المعلومات الرقميّ، لاستمرار فاعليّة المؤسّسات وقدرتها على الانسجام مع تحدّيات التطوير والتجديد المستمرّ. 

بناءً على ذلك، تظلّ مؤسّساتنا التعليميّة بحاجة ماسّة إلى توجيه بوصلة الاهتمام نحو تنمية كفاءات المعلّمين، وصقل معارفهم وقدراتهم التعليميّة والمهنيّة صقلًا دائمًا، لأنّ الاستثمار الناجح في التعليم ينطلق من الاستثمار في عقول المعلّمين وأدائهم، وجعلهم في حالة نموّ مستدام وحركة وظيفيّة فعّالة. لا مناص من تحقيق ذلك إلّا بتشجيعهم على التكوين الذاتيّ، بالإضافة إلى البرامج التكوينيّة التي تنظّمها الإدارة وفق سياساتها العامّة لتنمية الموارد البشريّة. 

 

المراجع

- شعيب، حاج وآخرون. (2019). التكوين الذاتيّ لأخصّائيّي المعلومات في ظلّ البيئة الرقميّة في المكتبات العامّة: مكتبات تلمسان نموذجًا. مجلّة التدوين. 6(2).

- لعمروس، آمال. (2019). واقع التكوين الذاتيّ والمستمر لأخصّائيّي المعلومات بالمكتبة المركزيّة لجامعة الجزائر. مجلّة دراسات في العلوم الإنسانية والاجتماعية. 33(1).

- نوفل، محمد بكر، أبو عواد، فريال محمد. (2010). التفكير والبحث العلمي. دار المسيرة.