أساسيّات الرياضيّات مفتاح لتجاوز التحدّيات
أساسيّات الرياضيّات مفتاح لتجاوز التحدّيات
نورة بنت المر بن محمد الغابشية | اختصاصيّة تقويم مناهج الرياضيّات

الرياضيّات ليست مجرّد مادّة دراسيّة تُدرّس في المدارس والجامعات، بل أكثر من ذلك بكثير؛ فهي ملكة العلوم، ولها دور كبير في تقدّم الحياة على جميع الأصعدة العلميّة والتكنولوجيّة والاقتصاديّة. وهي ليست حديثة العهد، بل نشأت منذ القِدَم، استجابة لحاجة المجتمعات إلى تنظيم شؤونها وتسهيل سبل حياتها ومعاملاتها. ومع تطوّر الحياة المعاصرة، يزداد دورها أهمّيّة عمّا كان عليه في السابق. 

كيف تمكن برمجة العقل بقوّة الخيال لتعزيز وعي الطلبة بأهمّيّة الأساسيّات لتعلّم الرياضيّات؟ 

بما أنّ الرياضيّات مادّة تراكميّة، يعتمد حاضرها ومستقبلها على ماضيها، فمن الممكن تشبيهها بالبناء الذي لا بدّ أن يتّصف بقوّة الأساس ومتانته، حتّى لا يتعرّض إلى التصدّع أو الانهيار مع تغيّر الأجواء والمناخ بمرور الأيّام. 

وتُعدّ أساسيّات الرياضيّات بمثابة حجر الأساس لفهم المستويات الأعلى من الرياضيّات الأكثر تعقيدًا في ما بعد، وهذا يعني أنّ الإلمام بالأساسيّات ابتداءً من المراحل الأولى، وتدريجيًّا نحو الوصول إلى المراحل العليا، يُعدّ مطلبًا وحاجة ملحّةً لكلّ متعلّم طموح. 

وأشار (المشهداني، 2011) إلى أنّ عمليّة تكوين المفاهيم والمهارات الرياضيّة واستبقائها، ومن ثمّ تطويرها لدى الطلبة، تستدعي استعمال أساليب تدريسيّة ملائمة. إذ للمفاهيم الرياضيّة أهمّيّة بالغة عند تعليم الرياضيّات وتعلّمه، فهي تعتمد على بناء تدريجيّ للمفاهيم، تُكتسب عبر المراحل التعليميّة المختلفة. 

فعلى سبيل المثال، عندما يدرس الطالب مفهوم الدائرة، يعتمد تعلّم هذا المفهوم اعتمادًا كلّيًّا على مفاهيم أساسيّة سبق أن تعلّمها، مثل النقطة والمنحنى. أمّا مهارة رسم الدائرة بصورة احترافيّة، فتتطلّب بدورها مهارات سابقة، مثل استخدام الفرجار والمسطرة بطريقة صحيحة. 

وقد أكّد (السليماني، 2011) أنّ أيّ شيء يتمّ تخيّله باستمرار يتحوّل إلى سلوك، وأنّ لقوّة التخيّل فوائد عدّة للأفراد، من أهمّها زيادة الدافعيّة إلى تحقيق الأهداف، وتنشيط القوى الإبداعيّة. 

سأشارككم تجربتي في استخدام تلك الطريقة مع طالباتي، والسيناريو الذي اتّبعته لتحقيق أقصى فائدة. وبالنسبة إليّ، فقد اعتبرتها مبدئيًّا بمثابة طوق النجاة، نعم، هي كذلك! 

 

الأساس من الأساسيّات 

من خبرتي الطويلة في مجال التدريس، وبالأخصّ مع طالبات مرحلة التعليم ما بعد الأساسيّ، ومن الاحتكاك المباشر بهنّ في العمليّة التعليميّة، أثناء المناقشات الصفّيّة، والاطّلاع على إجاباتهنّ في الأسئلة والاختبارات القصيرة والواجبات المنزليّة؛ تأكّد لي، في أغلب الأوقات، أنّ المشكلة الأساسيّة التي لا يختلف عليها اثنان، تكمن في عدم التمكّن من أساسيّات الرياضيّات. وتلك المشكلة لا تزال تُثقل كاهل الهيئة التدريسيّة. كيف لا، وهي تُعدّ مطلبًا أساسيًّا وحاجة ملحّة لكلّ متعلّم؟ 

أمّا عن السيناريو الذي اتّبعته مع طالباتي، فقد تمثّل في الخطوات التالية: 

  • - أغمضن أعينكنّ.  
  • - تخيّلن أنّ كلّ واحدة منكنّ ستبني في المستقبل بيتًا بتصميم إبداعيّ وتكلفة باهظة. وفجأة، يحدث ما لم يكن في الحسبان: ينهار البيت. ما شعور كلّ واحدة منكنّ في تلك اللحظة؟ 
  • - استُدعي المهندس المختصّ لمعرفة السبب، فأكّد أنّ أساس المنزل كان ضعيفًا، ولم يُبنَ بطريقة سليمة. 
  • - تخيّلن الرياضيّات بيتًا، أساسه أساسيّات الرياضيّات، بحيث تمثّل كلّ مهارة أو مفهوم رياضيّ حجرًا في هذا الأساس.  
  • - استدعاء مثال: كيف يمكن فهم عمليّة القسمة إذا لم تكن الطالبة قد أتقنت عمليّتي الضرب والطرح سابقًا؟ 
  • - افتحن أعينكنّ.  
  • - استدعاء أمثلة أخرى في ضوء العبارة: "كيف أتمكّن من تعلّم الجديد وأستمتع به، إن لم أتمكّن من السابق؟" 

كانت هذه الطريقة بمثابة بوصلة لخارطة طريق مليئة بالتحدّيات، وقد تعزّز وعي الطالبات بأهمّيّة الأساسيّات الرياضيّة، واعتبارها المفتاح الأساس لتعلّم الرياضيّات بفاعليّة أكبر. 

ولا يقتصر الأثر الإيجابيّ لإلمام الطالبات بالأساسيّات على منهج الرياضيّات فحسب، بل يمتدّ إلى سائر العلوم التي تقوم على أساس رياضيّ متين، إذ إنّ معاناة معلّمي الفيزياء والكيمياء لا تقلّ حدّة عن معاناة معلّمي الرياضيّات. 

 

ممّ تتكوّن بنية الرياضيّات؟ 

الرياضيّات علم له بنيته الخاصّة، تبدأ بالمفاهيم وتنتهي بالمسائل والمشكلات، كما هو موضح في الشكل الآتي (خشّان وراشد، 2008): 

الرياضيّات

ولكون الرياضيّات مادّة تراكميّة، فإنّ بنيتها تتدرّج على النحو الآتي: 

  • - المفاهيم: تنقسم إلى قسمين، هما: 

  • - المسمّيات غير المعرّفة: مسمّيات لا يمكن تعريفها، مثل النقطة والخطّ المستقيم. 

  • - المسمّيات المعرّفة: التي تُعرّف باستخدام المفاهيم غير المعرّفة، مثل العدد الزوجي والقطعة المستقيمة. 

  • - التعميمات: تشتمل على: 

  • - المسلّمات: تعميمات يُسلّم بصحّتها من دون الحاجة إلى إثبات. 

مثال على المسلّمات: يمكن رسم خطّ مستقيم واحد فقط يمرّ بنقطتين. 

  • - النظريّات: حقائق رياضيّة تُبرهَن بواسطة المسلّمات والمفاهيم السابقة. مثال على النظريّات: نظريّة فيثاغورث. 

  • - القوانين: نظريّات تستخدم في الرياضيّات والعلوم الأخرى. أمثلة على القوانين: قانون مساحة المربّع، وقانون حجم المكعّب. 

  • - الخوارزميّات والمهارات: 

الخوارزميّة طريقة لها خطوات محدّدة، تؤدّي إلى نتيجة رياضيّة معيّنة. مثال على الخوارزميّات: خوارزميّات الجمع والطرح. 

أمّا المهارة فأداء عمل معيّن بسرعة ودقّة وإتقان. أمثلة على المهارة: حلّ مسألة رياضيّة، أو قياس زاوية باستخدام منقلة، أو أداء خوارزميّة الجمع.   

  • - المسائل والمشكلات: 

          المسألة أو المشكلة موقف جديد يحتاج إلى حلّ. مثال على مسألة رياضيّة: إيجاد معادلة خطّ مستقيم بمعلوميّة نقطتين. 

 

لماذا يجد أغلب الطلبة صعوبة في فهم الرياضيّات؟ 

توجد عدّة عوامل تجعل من مادّة الرياضيّات مصدرًا للقلق لدى الطلبة، ولعلّ أبرزها ضعف الأساسيّات. فإذا كان الطالب لا يُتقن هذه الأساسيّات، كيف ستكون رحلته في تعلّم الرياضيّات؟ بالتأكيد ستكون مليئة بالتحدّيات الكبيرة، ويخالطها شعور بالتوتّر وعدم الارتياح أثناء الحصص الدراسيّة وخارجها، وكأنّ شبح الأساسيّات يلاحقه في مسيرته التعليميّة. 

إتقان الطالب لتلك الأساسيّات لا يتحقّق بين ليلة وضحاها، بل هو رحلة تتشكّل عبر مراحل متتابعة، تمهّد كلّ مرحلة منها لما يليها. فالمرحلة الأولى تتمثّل في تعرّف الطالب المفاهيمَ الأساسيّة الأوّليّة، مثل الأرقام والأعداد والعمليّات الحسابيّة مثل الجمع والطرح والضرب والقسمة، إضافة إلى المهارات الأساسيّة، مثل قراءة الأعداد وكتابتها وتحديد القيمة المكانيّة للرقم في عدد معيّن. 

أمّا المرحلة الثانية فتتمثّل في الممارسة، إذ يبدأ الطالب في استخدام العمليّات الحسابيّة الأربع في حلّ المسائل، مع التركيز على فهم العلاقات بين الأعداد، مثل الأنماط العدديّة. 

بينما المرحلة الثالثة تتمثّل في التفكير الرياضيّ، إذ يتعرّض الطلبة إلى مسائل تعزّز التفكير النقديّ، وتحفّزهم على حلّ المشكلات الرياضيّة بطرق متنوّعة، وفهم العلاقات بين المفاهيم المختلفة، وعدم التعامل معها باعتبارها أجزاء منفصلة، مثل الربط بين العمليّات الحسابيّة والجبر. فعلى سبيل المثال، عندما يُتقن الطالب العمليّات الحسابيّة الأربع، يمكنه بسهولة معرفة كيفيّة توظيف تلك العمليّات لإيجاد حلّ معادلة جبريّة. 

أمّا المرحلة الرابعة فمرحلة التطبيق المتقدّم، إذ يتعامل الطلبة مع مسائل أكثر تعقيدًا ممّا سبق، مثل حساب التفاضل والتكامل، ومجموعة الأعداد المركّبة وإجراء العمليّات عليها. 

وتتمثّل العوامل الأخرى في أساليب التدريس التقليديّة التي يمارسها المعلّم في البيئة الصفّيّة، والمعتمدة على الحفظ والتلقين، بالإضافة إلى أنّ كثيرًا من الطلبة يرون أنّ مادّة الرياضيّات لا تلبّي احتياجاتهم وميولهم، فتقلّ دافعيّتهم، ويدور في أذهانهم سؤال: لماذا ندرس الرياضيّات؟ فنحن لا نطبّقها في حياتنا الواقعيّة.  

وقد تبادر إلى ذهني الآن آية طالما كنت أكرّرها مع طالباتي في الحصص الدراسيّة، تؤكّد أنّ من يريد النجاح عليه أن يسعى ويعمل بجدّ ويتدرّب؛ ليتمكّن ويشعر في نهاية الطريق بلذّة الوصول، لأنّنا باختصار مسؤولون عن السعي، لا عن النتيجة، مصداقًا لقوله تعالى: "وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى* وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى* ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى".  

 

المفتاح السحريّ لتجاوز التحدّيات في أساسيّات الرياضيّات 

لكلّ منّا أبواب مغلقة، نجاهد لفتحها في أوقات كثيرة، ومع مرور الوقت قد يتسرّب إلينا شعور بفقدان الأمل والشغف، غير أنّ الإصرار والسعي والعمل الدؤوب، يقودنا في النهاية إلى المفتاح السحريّ الذي يفتح تلك الأبواب وكأنّها لم تُغلق يومًا؛ لذلك، علينا أن نواصل جهادنا في هذه الحياة، فاللّه لا يكلّف نفسًا إلا ما آتاها. 

وهذا يشبه حال كثير من الطلبة عند دراسة الرياضيّات، إذ يرون أنّ معظم المواضيع، إن لم يكن جميعها، تستند إلى أساس رياضيّ كان من المفترض أن يكونوا قد أتقنوه سابقًا، فتبدو لهم تلك الأساسيّات أبوابًا مغلقة، تعيق تقدّمهم في مسيرة تعلّم الرياضيّات. 

ورغم الجهود المبذولة من وزارة التربية والتعليم في سلطنة عُمان لتطوير المناهج، والاستفادة من الخبرات العالميّة بتطبيق سلاسل كامبريدج العالميّة في العلوم والرياضيّات، وهي مناهج حلزونيّة تُقدَّم فيها المفاهيم بشكل تدريجيّ ومتكرّر عبر مستويات عدّة، بحيث يُعاد طرح الموضوع نفسه للطالب أكثر من مرّة، مع التوسّع في كلّ مرّة، فإنّ مشكلة ضعف إلمام الطلبة بالأساسيّات ما زالت قائمة، وهي جُلّ ما يعانيه معلّمو الرياضيّات والعلوم. 

ومن خبرتي في التدريس، واطّلاعي على الكتب التربويّة وكتب التطوير وتنمية مهارات التفكير، توصّلت إلى ما أراه مفتاحًا سحريًّا من واقع تجربتي وما يطرحه عدد من المؤلّفين، ويمكن تقديمه على شكل بوصلة مزدوجة، تكون الأولى منها أساسًا حيويًّا للثانية، تبدأ بالفهم الأساسيّ وتنتهي بالتطبيق المتقدّم. 

 

البوصلة الأولى: بناء قاعدة أساسيّة صلبة 

ما سأطرحه الآن يتعلّق بالسنوات التعليميّة الأولى، المرحلة الحاسمة في بناء الأساسيّات الرياضيّة. وهنا ينبغي التركيز على ترسيخ الفهم العميق وتعزيز المهارات الأساسيّة بأسلوب ممتع وتفاعليّ، مثل التعلّم القائم على اللعب والتجربة، والتعلّم عبر استكشاف الطبيعة، واصطحاب الأطفال في رحلات ترفيهيّة تعليميّة إلى الطبيعة لقياس أطوال الأشجار، وحساب عدد الأوراق، وتصنيفها، وفق الأشكال والأحجام. بالإضافة إلى توفير أدوات رقميّة مثل الفيديوهات والرسوم المتحرّكة، والتعلّم بواسطة القصص بأسلوب مشوّق، وسردها مع ربطها بالمفاهيم الرياضيّة. 

ويا حبّذا لو دُرّب طلبة الحلقة الأولى على استخدام المعداد الصينيّ، واعتماده طريقة رسميّة في المناهج الدراسيّة؛ لما له من فوائد جمّة في تحسين الذاكرة والتركيز، وتطوير مهارات الحساب الذهنيّ، بما يهيّئهم في المراحل المتقدّمة للاعتماد على أنفسهم في الحساب، من دون الحاجة إلى استخدام الآلات الحاسبة. 

البوصلة الثانية: التفكير الرياضيّ المتقدّم 

هنا سننتقل إلى مرحلة متقدّمة، بحيث يطبّق الطالب ما تعلّمه من مفاهيم ومهارات أساسيّة سابقة في الجبر والهندسة والإحصاء، ويمكن تحقيق ذلك من خلال النقاط الآتية: 

  • - تدريب الطلبة على مهارات التفكير، فهي أدوات يستطيع بواسطتها التعامل مع المعطيات التي يتلقّاها في رحلته الدراسيّة. وهناك خياران؛ إمّا أن تكون ضمن منهج مستقلّ، أو ضمن استراتيجيّات تدريس ينفّذها المعلّم في الصفّ. 

  • - تشجيع الطلبة على التأمّل والتقويم الذاتيّ؛ للتمكّن من تحليل نقاط القوّة والضعف لديهم. 

  • - اتّباع نهج التعلّم من أجل الإتقان، لا من أجل الاختبار، بحيث لا تتوقّف إنجازات الطلبة عند ذلك الحدّ. 

  • - تعزيز التعلّم الذاتيّ للطلبة، لمراجعة الأساسيّات بانتظام، باستخدام كتيّب إثرائيّ يشتمل على تدريبات منتظمة. 

  • - إنشاء مختبر الرياضيّات؛ لتعزيز فهم الطلبة للمفاهيم الرياضيّة بطريقة عمليّة. 

  • - تدريب الطلبة على استخدام تقنيّات التنفّس العميق؛ لتقليل التوتّر وتحسين التركيز. 

  • - تصميم تطبيق إلكترونيّ لتعلّم أساسيّات الرياضيّات، مدعّم بالذكاء الاصطناعيّ. 

*** 

وفي الختام، يبقى التفكير مفتوحًا أمام التربويّين في مجال الرياضيّات: كيف نساعد الطالب في بناء أساس قويّ؟ وكيف نكشف عن طاقاته الكامنة؟ وهل توجد مفاتيح سحريّة أخرى؟ لأنّ الموضوع يستحقّ الاهتمام.  

 

المراجع: 

- راشد، محمّد إبراهيم، وخشّان، خالد حلمي. (2008). مناهج الرياضيّات وأساليب تدريسها للصفوف الأساسيّة. دار الجنادريّة. 

- السليمانيّ، إبراهيم. (2011). 50 طريقة لتبرمج عقلك. دار المنارة. 

- المشهدانيّ، عبّاس ناجي. (2011). تعليم المفاهيم والمهارات في الرياضيّات. دار اليازوريّ.