واقعُ العمليّة التعليميّة في سوريا
واقعُ العمليّة التعليميّة في سوريا
2022/01/02
مُلهم كريم حيدر | معلّم فيزياء- سوريا

دخلت المرحلة التعليميّة في سوريا أسوء حالاتها منذ عام 2011، كنتيجة حتميّة للحرب التي دمّرت البنى الاقتصاديّة والتحتيّة مُمزّقةً النسيج الاجتماعيّ والعائليّ برمّته، لنشهَدَ أخطر وأقسى الحروب التاريخيّة التي عرفتها هذه البلاد في تاريخها الحديث.

سأتحدّث، في هذه التدوينة، عن واقع التعليم في سوريا مرحلة ما بعد عام 2011، رغبةً مني برصد وإيصال حقيقة هذا الواقع، وأنا خير شاهد عليه، كوني عشت المرحلة كطالبٍ أنهى مرحلة امتحانات التعليم الثانويّ عام 2014، مُتابعًا الدراسة والتدريس في نفس الوقت وحاصلًا على ليسانس في الفيزياء، وما زلتُ متابعًا عملي كمدرّس فيزياء شاب حتى عامَ 2021، وأنا أعيش مرحلة الحرب ومفرزاتها الأليمة.

 

مُنطلق

لم تكن العملية التربويّة والتعليميّة في سوريا ما قبل عام 2011 تشبه ما بعد هذا التاريخ، ولم تكن سوريا من الدول الرائدة في تطوير التعليم، ولم تكن من المتقدّمات، أيضًا، في مجال دمج التكنولوجيا بالتعليم، واستخدام التقنيّات التعليميّة الحديثة وإنجاز دورات ذات جودة عالية للقطاع التربويّ والتعليميّ، لكنّها، مع ذلك، كادت أن تصل إلى نسبة وصلت إلى 80% من محو أُمّيّة التعليم. 

وفي آخر تقرير صادر عن منظّمة اليونيسف، الشّريكة في العمل مع وزارة التربية السوريّة، جاءت الإحصائيّات على الشكل التالي:

1. يوجد في سوريا أكثر من 2.4 مليون طفل غير الملتحقين بالمدرسة، منهم 40% تقريبًا من الفتيات. المصدر هُنا.
2. تعرّض حوالي 40% من البنية التحتيّة للمدارس في سوريا للضّرر أو للدّمار أثناء الحرب، إذ لم تعد واحدة من كلّ ثلاث مدارس داخل سوريا صالحة للاستخدام، لأنّها تعرضت للدّمار أو للضّرر أو استُخدمت في أغراضٍ عسكريّة.

 

صعوبات العمليّة التعليميّة في سوريا

1. عدم توفّر الأمن والأمان في بعض المناطق

توجد بعض المدارس السوريّة في مناطق تشهد نزاعات مسلّحة أو انعدام لظروف الأمن والأمان، ما شكَّلَ تهديدًا وخطرًا كبيرًا للعائلات ودفعهم لإرسال أطفالهم إلى المدارس، فيما تقع البنى التحتيّة للمدارس في دائرة الخطر، لوجود العديد من المدارس غير الجاهزة عمرانيًّا لاستقبال الأطفال حيث تُمارس جميع الأنشطة الحركيّة واللّعب في غالب المدارس في باحةٍ واحدةٍ وبصورةٍ جماعيّة.

 

2. الوضع المعيشيّ والاقتصاديّ السيّئ الذي تشهده العائلات السوريّة

عندما تكون نسبة 90% من عدد سكّان سوريا يعيشون تحت خطّ الفقر، سيكون، كنتيجةٍ، الهاجس الأوّل لدى أيَّة عائلة سوريّة هو تأمين قوت يومها وزوادة أطفالها؛ سيكون هذا المطلب السبب الأساسيّ في خروج عدد كبير من الطلاب وابتعادهم عن المدارس لحاجتهم إلى العمل.

ومع وجود القوانين المشرّعة التي تنصّ على منع استغلال الأطفال في الأعمال العاديّة أو الأعمال العسكريّة، لكنّنا نُشاهد عددًا كبيرًا من الأطفال السوريّين وقد مارسوا جميع أنواع العمل، وصولًا لإدخالهم في النزاعات المسلّحة. هذه المشكلة تُعدُّ على سُلّم أوائل العقبات التي تعاني منها العمليّة التعليميّة في البلاد، مع العجز عن حلّها بسبب واقع حال العائلات السوريّة، والتي لا يتجاوز دخل الفرد منها، كموظّفٍ حكوميّ 70000 ل.س؛ أي ما يُقارب 20 دولارًا أميركيًّا المصدر هُنا. إضافة إلى ما وصلت إليه البلاد اليوم من انعدام لمقوّمات الحياة اليوميّة، من قطع للكهرباء يستمرّ في 80% من مناطق البلاد إلى 20 ساعة يوميًّا، وضعف شبكة الإنترنت ووسائل التدفئة المعدومة وغيرها الكثير من الظّروف التي تُشكّل مُسبّبات لاعتماد الأُسر السوريّة على إخراج أطفالها من المدارس، لعدم قدرة هذه الأُسر على تأمين أبسط هذه المقوّمات ليتسنّى لأطفالهم الاستمرار في عمليّة التعلّم.

 

3. ارتفاع رسوم المدارس الخاصّة وانعدام وسائل النقل للوصول إليها

لم تسعف المدارس الخاصّة بالواقع التعليميّ للطفل السوريّ بل زادته مرارة، برسومها العالية والخياليّة بالمقارنة مع متوسّط الدخل الحكوميّ، لتصبح حِكرًا على فئة ميسوري الحال عمومًا، وفئات أخرى من المجتمع السوريّ.

كما تعتبرُ مشكلة نقل الطلاب من أماكن سكنهم إلى مدارسهم، من العقبات الكبيرة التي تعاني منها الأسر السوريّة، كتكلفةِ نقل لطالب من مركز العاصمة إلى مدارس في ريف دمشق، حكوميّة كانت أم خاصّة، ضمن وسائل نقل خاصّة بالطلاب، ما تعادل هذه التكلفة، تقريبًا، راتب موظّف حكوميّ لمدّة سنتين.

وعند الحديث عن واقع النقل العامّ فلا يعدُّ حلًّا للطلاب، لصعوبة الحصول يوميًّا على مقعد في وسيلة نقل عام، بسبب توقّفها عن العمل نتيجةً لعدم حصولها على الوقود، وارتفاع تكاليف الصيانة وغيرها الكثير، وهذه المشكلة أفضت للعديد من حالات التسرّب بسبب ارتفاع تكاليفها وصعوبتها، ما أجبر بعض العائلات على الامتناع عن إرسال أطفالهم إلى المدارس وحرمانهم من حقّ التعلّم.

 

4. قلّة الكوادر التعليميّة وضعف الإمكانيّات اللوجستيّة والمادّيّة

لم يستطعِ القدَرُ أن ينأى بالمعلّمين عن المشكلات التي تعاني منها البلاد، فتعرّضت طواقم المعلّمين لأقسى الظروف، من الموت إلى التهجير والانتقال من محافظة إلى أخرى لأربع أو خمس مرّات في السنة الواحدة، إضافةً لهجرة عدد كبير من المعلّمين إلى دول الجوار أو غيرها، فمنهم من غادر هربًا من آلة الحرب أو للبحث عن مستقبل أفضل.

إنّ الأسباب السابقة وتدهور الواقع الاقتصاديّ وضعف الأجور أدّى إلى تدنّي عدد الطواقم التدريسيّة في المدارس، فأصبح معلّم المادّة الاختصاصيّة مسؤولًا عن شُعب كاملة بكافّة موادها، كما تراجَع المستوى العلميّ والتقنيّ لدى الكثير من المدرّسين، بسبب المهام الإضافيّة الموكلة إليهم، وتعاملهم في الصفّ الواحد مع أعداد لطلاب وصلت 60 طالب في الصف الواحد.

إن المشاكل اللوجستيّة، التي يعاني منها المدرّسون، سبب أساسيّ لضعف التعليم ومخرجاته في سوريا، وأغلب المدارس الحكوميّة عاجزة عن دعم طلابها وإفادتهم: "مخابر علميّة نوعيّة، وسائل إيضاح حديثة، مخابر للتجارِب الافتراضيّة، إتاحة شبكة إنترنت للطلاب في البحث والوصول للمعلومة، وصولًا لانعدام مقومات التدفئة والإضاءة في المدارس".

لم تكن مدارس القطاع الخاصّ عونًا لواقع التعليم الحكوميّ، ولم تنجح في تحسين أو حلِّ البعض من مُعضِلات تطوير التعليم في سوريا لأسبابٍ كثيرة، منها عدم خروجها من واقع التعليم التقليديّ، والاعتماد على فكرة أن المعلّم هو محور العمليّة التعليميّة فقط، وهو ما يتنافى مع قواعد التعلّم الحديث، مع الإشارة إلى عدم اعتمادها على دعم كوادرها بدورات التعلّم الحديث، وأجورها المتدنيّة مقارنة برسومها المرتفعة، مع عدم وجود مراسيم واضحة تفرض، على هذه المدارس، الحقوق الماليّة المنصفة لطواقمها التعليميّة.

لم تقدّم وزارة التربية حلولًا جوهريّة ملموسة لمساعدة المعلّم ومساندته على تطوير أدواته؛ كتقديم الساعات التدريبيّة والدورات النفسيّة اللّازمة لمواجهة هذه الظروف، فاقتصر التطوّر، ضمن الكوادر، على الرغبة الفرديّة والاجتهاد الشخصيّ من بعض المعلّمين، وإحساسهم بالمسؤولية العالية الواجب على المُعلّم أن يحملها.

 

5. الواقع الصحّيّ والأمراض وانعكاسها على التعليم

مع بدء جائحة كورونا "كوفيد-19"، وانتشار العديد من الأمراض، منها نقص المناعة لدى الأطفال بسبب انعدام الأمن الغذائيّ في مناطق عدّة، وإصابات الحرب، ازداد واقع التعليم سوءًا وضعفًا، لنصل إلى إغلاق عام 2020  لأربعة أشهر، الأمر الذي أودى لازدياد ظاهرة  التسرّب لدى الطلاب، لابتعادهم لفترة طويلة ومتقطّعة عن التعليم، وفاقم عمليّة التعلّم صعوبةً، لضعف قدرات التلاميذ باختلاف مراحلهم الدراسيّة بسبب سياسة النجاح التلقائيّ والتي اعتمدتها الوزارة، لتظهر المشاكل الحقيقيّة في عامنا الحاليّ، والمتمثّلة بضعف الأطفال الصغار، من طلاب المراحل الابتدائيّة في القراءة والكتابة والعمليّات الحسابيّة، وصولًا إلى الاعتماد في امتحانيّ الشهادتين الإعداديّة والثانويّة على حذف أبحاث هامّة في الصفوف الأعلى، بالنسبة للتعليم الإعداديّ وفي المراحل الجامعيّة بالنسبة للتعليم الثانويّ.

كما كانت جائحة كورونا "كوفيد-19" بمثابة الشعرة التي قسمت ظهر البعير، وأضفت على سبّورة المعلّم التقليديّ وخطط الوزارة والمناهج القديمة، عجزَها عن مواكبة قطار التعلّم النشط والتفاعليّ والانتقال لعمليّة التعلّم عن بُعد، حتى أصبحت بمثابة حلِّ أحجية لبعض المدرّسين وللإدارات ضمن المدارس العامّة والخاصّة.

 

عن الأمل؛ عن أُفقهِ الرَّحِبْ

من وحي الحروب والأزمات تولد المعجزات، فقد تفوّقَ عدد لا يحصى ممّن تذوّقوا الحرب، بشتّى ألوانها، في شتّى المجالات الأدبيّة والطبّيّة داخل وخارج سوريا، وفي قِطاع التعليم، أيضًا، نشأ جيلٌ من المدرّسين الشباب، الطامحين، بشكل يوميٍّ، للتطوّر وتطوير واقع التعليم في البلاد، على الرغم من كمِّ المصاعب التي تقف بطريقهم، فلو تصفّحتم مواقع التواصل الاجتماعيّ وكتبتم في حقل البحث: مدرّس فيزياء أو رياضيّات في سوريا، لخرجتم بنتائج حول مئات الدروس المُعَدّة باحترافيّة واجتهاد لا نظير له، لمدرّسين سوريّين تحدّوا الواقع وصعابه ليكونوا خير عون للطلّاب.

وعن تجرِبتي كمدرّسٍ لمادّة الفيزياء، فإنّني أتعمّد الربطَ ما بين حياتنا اليوميّة والأفكارِ العلميّة، مُعتمدًا على الاستفادة من أبسط الأشياء وتدوير أيَّةِ قطعة معدنيّة أو كهربائيّة قديمة، للاستفادة منها في شرح فكرة أو حلِّ مسألة ما، سائرًا على عقيدة أنّ المدرّس الناجح، عقيدتُهُ الأساس هي أن يضعَ نفسَهُ دائمًا مكان المتعلّم في كافّة النواحي التعليميّة أو السلوكيّة، حتى يكون حكيمًا في اختيار الأسلوب الملائم لنجاح هذه العمليّة التفاعليّة.

وعن دور المجتمع المحلّيّ والمنظّمات الدَولية في دعم التعليم، لا بدّ من الإضاءة على  تجارِب أحدثت فروقًا كبيرة في مناطقَ سوريّة عانت من الحرب والموت الكثير، إذ كان لتدخّل المجتمعات الأهليّة والمحلّيّة أثرًا كبيرًا في إحداث هذه الفروق من فرقٍ تطوعيّةٍ ومشاريعَ تعليميّة، وضعت كلَّ طاقاتِها الشّابّة والعلميّة، بدعم من منظّمات دوليّة، لتعويض الفجوة العلميّة لدى الطلّاب، ومتابعة الحالات النفسيّة لمن يعانون من مشاكل أو أزمات نفسيّة تعرّضوا لها نتيجة الحرب باختلاف حالاتها، فهذه المراكز والمشاريع أصبحت بمثابة الرديف والداعم لطلّاب المدارس، وعلى الأخصّ في أرياف المدن قليلة الخدمات، إضافةً لدورات محو الأمّيّة والدورات المهنيّة المقدّمة لعددٍ كبيرٍ من المستفيدين.

 

في الخِتام

لقد أسعدتني مشاركتكم تجربتي الشخصيّة بحكم عملي كمدرّسٍ ضمن قِطاع العمل الإنسانيّ والمدارس العامّة والخاصّة، وقد تحدّثت عن واقع مُرٍّ يعيشه القطاع التربويّ والتعليميّ، ويحتاج لوضع خطّة واستراتيجيّة مستقبليّة، ذلك للعمل على تطوير الكوادر التعليميّة وتحسين حالتها المعيشيّة والتقنيّة وتأهيل للبنى التحتيّة، ودمج التكنولوجيا في التعليم بشكلٍ فعّالٍ، ومنهجيّات فاعلة وفعّالة.

ومن قلب الألم تولد المعجزات، ويبقى أملنا بمستقبلٍ أفضل حافزنا الأكبر للوصول إلى مرحلة نُنقذ فيها العملية التربويّة في بلدنا، ونكون من الروّاد في هذه العمليّة التي لا تُبنى المجتمعات دونها.