ما زلتُ أذكرُ ذلك اليوم جيّدًا، عندما ذهبتُ للمشاركة في ورشة تدريبيّة عن تعديل السلوك، وكيفيّة التعامل مع الأطفال. كنتُ من أوّل الواصلين إلى الورشة، فحصلتُ على امتياز اختيار مقعدي من بين المقاعد في الصفّ الأماميّ، وجلستُ منتظرًا حتّى دخل المدرّب، فألقى علينا التحيّة، ووضّح المحاور التي سيتحدثُ عنها، ولكن اعتذر منّا على التأخّر قليلًا عن بدء الورشة، ريثما يحضر بعض الضيوف المشاركين معنا. وبعد مرور وقت قصير، وصل إلى القاعة امرأة ورجل يصطحبان معهما طفلًا. ولم أتوقّع حينها أنّ الطفلَ الذي يرافقهما، سيكون بطل ذلك اليوم.
أعلن المدرّب عن بدء الورشة التدريبيّة، وصار يتحدّث عن مفهوم تعديل السلوك، والبدايات التاريخيّة والطبيّة التي تطرّقت إليه في الدراسات والأبحاث. فانتقل إلى توضيح نماذج من حالات خاصّة لبعض الأطفال، وهنا أشار إلى البطل الجالس بجانب والديه، كان صامتًا وينظرُ في الفراغ؛ كأنّه مشغولٌ بشيءٍ ما، أو يفكّر بفكرة معيّنة، وكانت المرّة الأولى التي ألتقي فيها طفلًا مصابًا بالتوحّد.
طلب المُدرّب من الطفل الاقتراب منه، ثمّ وضّح لنا بأنّه المشرف المباشر على متابعة حالته، وتوجّه إليه ببعض الكلمات التحفيزيّة والتشجيعيّة. وأخبرنا بأنّ طفل التوحّد لديه الكثير من المهارات التي تدلّ على أنّه غير مختلف عن أيّ طفلٍ عاديّ. وقد يتميّزُ بمهارة معينة، ويتفوّق فيها عن غيره من الأطفال، كالرسم والحساب السريع وسرعة الحفظ والتذكّر، وغيرها من المهارات التي تجعله طفلًا مميّزًا، وقادرًا على الإبداع والإنجاز، والتفاعل مع محيطه، ولكن بطريقته الخاصّة.
كيف تعرّفت إلى التوحّد؟
قبل الورشة التدريبيّة، لم أعرف الكثير عن التوحّد، إلّا ما قرأته واطّلعت عليه في الكُتب والإنترنت من باب القراءة وزيادة المعرفة والفضول أحيانًا. ولم أتوقع أنّي سأتعرّف إلى هذه الحالة الخاصّة عن قُرب، من خلال طفلٍ يعيشها بكلّ تفاصيلها. ومع أنّ الوقت الممتدّ بين كتابتي لهذه المقالة ومشاركتي في الورشة التدريبيّة طويلٌ نسبيًّا، لكنّ تأثيرها ظلّ يلوح في ذهني، كلّما تذكرتُ الطفل البطل الذي وقف أمامنا وأظهر إبداعه في العدّ السريع للأرقام، وتركيب المكعّبات وإنشاء أشكال متنوّعة منها. في حينها تبادرت لي بعض الأسئلة حول أطفال التوحّد، ودمجهم مع الأطفال العاديّين، سواء في الروضات أو المدارس، ومدى إمكانيّة نجاح ذلك، وكيفيّة مساعدتهم على تقبّل البيئة المدرسيّة، وأفضل الطرق لتهيئتهم للتعامل مع التجارب والظروف المحيطة بهم، وغيرها من الأسئلة التي بدأت بالبحث عن إجاباتها في مختلف المراجع والمصادر الورقيّة والإلكترونيّة.
هل طفل التوحّد مختلف عن الأطفال الآخرين؟
بعد مشاركتي في الورشة التدريبيّة، واطّلاعي على بعض المؤلّفات حول التوحّد، توصّلتُ إلى أنّ اختلاف طفل التوحّد عن غيره يكون في التفاعل الاجتماعيّ والتواصل الشخصيّ، مع إدراك أنّ أطفال التوحّد لا يتشابهون في طبيعة الشخصيّة والتصرّفات والانفعالات، بل تظهر لديهم صعوبات عامّة، من أبرزها صعوبة التواصل اللفظيّ أو غير اللفظيّ؛ فلا ينظر مباشرة إلى الآخرين عندما يكلّمونه، ويحتاجُ إلى مزيدٍ من الوقت لفهم معاني الكلمات وتحليلها. وقد يصعب عليه التعبير عن نفسه وأفكاره ومشاعره، ما يعيق فهم حاجاته ورغباته. كما يميل إلى الوحدة غالبًا والانشغال بشيءٍ ما، فلا يبدي رغبة في تشكيل صداقات؛ بسبب غياب الكثير من المهارات الاجتماعيّة لديه، واقتصارها على بعض التعبيرات الصوتيّة أو الحركيّة؛ للتعبير عمّا يريد أن يقوله أو يفعله.
وأرى أنّ اختلاف طفل التوحّد عن الأطفال الآخرين، يعطيه ميزةً حقيقيّة لا بدّ من استثمارها بأفضل الطرق. حتّى يتمكّن من إبراز مواهبه، والتي قد لا يلتفت إليها الوالدين في المراحل العمريّة الصغيرة، ويتركانها من دون اهتمام، بسبب انشغالهما بمعالجة التصرّفات الصادرة عنه؛ فيغفلان الجوانب الإيجابيّة في شخصيّته، وللأسف قد لا يدركان مدى إمكانيّة تحسّن طفلهما من جميع النواحي الاجتماعيّة والسلوكيّة واللغويّة، ويهملان متابعته، ما يؤدّي إلى تفاقم المشكلات التي قد يواجهها، والتي يترتّب عليها نتائج غير محمودة على المدى الطويل، وفي مراحل عمريّة متقدّمة.
هل يمكن دمج طفل التوحّد في المدرسة؟
برأيي، من الممكن دمج طفل التوحّد في المدرسة، بالاعتماد على التعليم الدامج، والاستعانة بمعلّم غرفة المصادر المتخصّص بالتربية الخاصّة. فوجود طفل التوحّد في بيئة مدرسيّة طبيعيّة يساعدُ على تطوير مهاراته الاجتماعيّة، ويُحسّن من أدائه الأكاديميّ؛ لذلك اهتمّت سياسات التربية والتعليم ومعاييرهما بضرورة وجود غرف المصادر الداعمة لفكرة التعليم الدامج في المدارس المؤهّلة لذلك. مع الاهتمام باستحداث هذه الغرف في جميع المدارس على المدى البعيد. الأمر الذي يدعمُ دمج طفل التوحّد في بيئة التعلّم.
يبدأ دمج طفل التوحّد في بيئة التعلّم من الأسرة؛ بتهيئته للخروج من محيط المنزل إلى مكان آخر، وتعويده تدريجيًّا على التفاعل مع أشخاص جدد غير الذين اعتاد عليهم في عائلته. ثمّ يأتي دور المدرسة، فعندما تحتوي على المرافق والأدوات والوسائل الداعمة لتعلّم طفل التوحّد، مع وجود معلّمين مؤهّلين ومدرّبين على التعامل معه، سيتحقّق الدمج بالصورة المطلوبة.
ولكن قد لا يتحقّق الدمج بشكل كامل، بسبب صعوبة بعض الحالات التي تظهر عليها أعراض شديدة، ولا تستطيع التأقلم مع أيّ متغيّرات جديدة قد تحصل معها. أضف إلى ذلك أنّ أغلب المدارس لا تتوفّر فيها غرف مصادر تحتوي على الأدوات اللازمة للتعامل مع الحاجات الخاصّة. الأمر الذي يحدُّ من قدرتها على تمكين الطفل من بيئة التعلّم، بل قد تجعله يكره هذه التجربة ويرفضها. كما إنّ قلّة الوعي لدى بعض العائلات والمعلّمين حول أساليب التعامل مع حالات التوحّد، يجعل من الصعب تحقيق الدمج بالشكل الصحيح، وقد يقلّل من فرص تهيئة الطفل للتعلّم والتطوّر.
تهيئة طفل التوحّد للتعامل مع البيئة المدرسيّة
من واقع عمليّ معلّمًا، أرى أنّ تحقيق الدمج الصحيح لطفل التوحّد في المدرسة، يعتمد على إعداده للتعامل مع البيئة المدرسيّة والتكيّف معها، والذي يساعد على تقليل قلقه وتوتّره، ويزيد من ثقته بنفسه، ويُحسّن تكيّفه مع التغيّرات التي ستطرأ لديه.
إنّ تهيئة طفل التوحّد تحتاج إلى خطوات، تبدأ بزيارة المدرسة قبل تسجيله فيها، والتأكد من أنّها تتوافق مع حالته الخاصّة، وإحاطة الإدارة بجميع المعلومات المتعلّقة به. ثمّ التعرّف إلى معلّميه وتوضيح حالته لهم، حتّى يدركوا كيفيّة التعامل معه، ومحاولة تدارك أيّ تصرّفات أو أفعال قد تصدر عنه بغير قصد.
بعدها تأتي الخطوة التالية التي لا تقلّ أهمّيّة عن السابقة، بحوار الوالدين مع الطفل؛ ليدرك ضرورة الذهاب إلى المدرسة، وأنّه قادر على التعلّم والتفاعل مع الطلّاب، والمشاركة في الصفّ مثل أيّ طالب آخر. ومن الضروريّ أيضًا أن يتيح الوالدين له شراء حاجاته ومستلزماته المدرسيّة، مع مراعاة أن يختار كلّ شيء مثلما يرغب ويحبّ، الأمر الذي سيزيد من ثقته بنفسه. وأخيرًا، يجب أن يزورَ المدرسة للتعرّف إليها، واللقاء مع معلّميه وزملائه، من أجل تشجيعه على تقبّلهم والتفاعل معهم.
الأثر الذي تركه الطفل الذي عرفته في الورشة التدريبيّة، وما تبعه من بحثي في موضوع التوحّد وحالاته، جعلني أُدركُ تمامًا أنّ طفل التوحّد لا يحتاجُ إلّا إلى تفهّمٍ ودعمٍ مستمرّين من أسرته والناس المحيطين به. والتفاهم والتعاطف معه قد يُحدثان فارقًا كبيرًا في حياته، ويُطوّران من إمكاناته ومهاراته، ويجعلانه أكثر وعيًا بقدراته الذاتيّة، ومتمكّنًا من مواجهة التحدّيات وتحويلها إلى إنجازات. كما إنّ الدور الذي تمثّله المدارس في دمج طفل التوحّد وتعزيزه، لا يمكن نسيانه أو تجاهله؛ فهو من العناصر الأساسيّة في بناء شخصيّته، ومساعدته على التأقلم مع محيطه؛ ما يجعله قادرًا على العطاء والنجاح في جميع المجالات.