محاورة مع وسيم الكردي
محاورة مع وسيم الكردي

 

  • - شاعرٌ، كاتب، باحث في منهجيّات التعليم، متخصّص في توظيف الدراما والفنون في التربية.
  • - حاصل على درجة الماجستير في المجال الأخير من جامعة مدينة بيرمينغهام، والبكالوريوس في اللغة العربيّة وآدابها من جامعة الخليل.
  • - عَمِلَ مُعلّمًا للغة العربيّة والكتابة الإبداعيّة مدارس الفرندز- رام الله/ فلسطين، ومديرًا لمركز البحث والتطوير التربويّ- مؤسّسة عبد المُحسن القطّان. أسّس الكردي المدرسة الصيفيّة "الدراما في سياق تعلميّ"، ودرّس فيها.
  • - بادر إلى إطلاق مجلّة "رؤى تربويّة" وعمل مُديرًا ورئيسًا لتحريرها.
  • - يشارك حاليًّا ضمن فريق عالميّ كمحرّر لإنتاج كتابين في مجال الفنون والتحوّلات الاجتماعيّة على المستوى العالميّ، سيصدران خلال هذا العام عن (Routledge).
  • - شارك في تأسيس مركز الفنّ الشعبي وفرقة الفنون الشعبيّة الفلسطينيّة، وكتب آخر أعمالها "أشيرة".
  • - يركز حاليًّا على ثلاثة محاور في مجال التعلّم والتعليم في سياقيه المدرسيّ والمجتمعيّ: 1. الدراما كسياق للتعلّم. 2. الفنون البصريّة كملهم للتعبير. 3. أرشيفات العائلة كمصدر للحوار الاجتماعيّ. 4. التعلّم الاستقصائيّ القائم على المشروعات، مع المعلّمين والأطفال واليافعين والفنّانين والباحثين.
  • - له العديد من المنشورات الأدبيّة والتربويّة.

 

- بين التعليم مدّة 13 سنة، وإدارة برنامج التعليم في مؤسّسة عبد المحسن القطّان، ما ميزات الموقعَين بالنسبة إليك؟ وفي أيّ موقع كنت تشعر أنّك في مكانك؟

أبدأ من تجربتي في التعليم؛ وهي تجربة امتدّت ثلاث عشرة سنة، منها عشر سنوات في مدارس "الفرندز" في رام الله. أعتقد، من دون مبالغة، أنّ تجربة "الفرندز" هي التجربة التي تعلّمتُ منها أكثر من غيرها، ولأسباب مختلفة، منها رغبتي في أن أكون معلّمًا، وقناعتي بأنّ لديّ ما يمكن أن أقدّمه إلى الطلّاب، ولا سيّما في مجال الأدب المعاصر، وغير ذلك من أسباب. إلّا أنّ أهمّ هذه الأسباب التي سمحت لي بالتعلّم، تمثّلت في وجود مدير مدرسة مختلف، الأستاذ خليل محشي. فتح لي الأستاذ خليل المجال من اليوم الأوّل كي أقوم بكلّ ما أودّ القيام بهِ مع الطلّاب، وتجريب كلّ ما أودُّ تجريبه. هذه المساحة الحرّة أشعرتني بمسؤوليّة عالية، وينبغي لهذه الثقة أن تجد ما يقابلها كذلك. أمّا السبب الثاني الذي ميّز هذه التجربة، ومنحني فرصة التعلّم بعلاقتي الوطيدة والمتنوّعة مع المعلّمات والمعلّمين في فلسطين، فمردّه إلى عملي في "مشروع الإعلام والتنسيق التربويّ". هو مؤسّسة تربويّة عملتْ قانونيًّا في إطار مدارس "الفرندز"، كان المشروع يعمل على موضوع "الوعي النقابي للمعلّمين"، وتتبّع انتهاكات الاحتلال التعليم، ونشر ذلك في نشرة دوريّة باللغة الإنجليزيّة "Educational Network"، فضلًا عن تنظيم ورش عمل في موضوعات مختلفة، وعلى إنتاج موادّ تعليميّة وإثرائيّة ومساندة. شكّلت هذه التجربة مع تجربة التعليم مجال عمل متكامل، يغذّي بعضه بعضًا. من القضايا التي تركت أثرًا كبيرًا لديّ فكرة أنّ مدرسة عريقة كهذه كانت منشغلة بالتعليم في فلسطين، وبمعلّماتها ومعلّميها، وتؤمن بما عليها من مسؤوليّة اجتماعيّة تجاه التعليم. لذلك، وفي إطار الفلسفة ذاتها كانت مرجعيّة المشروع، بمعظمها، مكوَّنة من معلّمين ومعلّمات من خارج المدرسة.

في هذا السياق المهنيّ المشترَك، كنتُ أعلِّم اللغة العربيّة، وفق الطريقة التي كان يعلّمني بها أساتذتي حينما كنت طالبًا. الفارق الوحيد أنّ لديّ خلفيّة في الأدب العربيّ والفلسطينيّ المعاصر، وهو ما أخذتُ أدمجه تدريجيًّا في المنهاج الذي أعلِّمه. في تلك الفترة، بدأتُ أدمج بين تعليمي الكلاسيكيّ للغة العربيّة وتعليم الكتابة الإبداعيّة، حيث عرضتُ الفكرة على مدير المدرسة فرحّب بها. أقول الكتابة الإبداعيّة، وليس "الإنشاء"، لأنّي كنت أعمل في وظيفتين في الوقت نفسه، التعليم بنصاب 12 حصّة أسبوعيًّا، ووظيفة جزئيّة في المشروع. أتاح لي ذلك مساحة التحرُّك والتركيز على أمور متعدّدة، إذ لم أكن تحت ضغط عدد كبير من الحصص اليوميّة، فكنت أجد الوقت لتصميم برامج المعلّمين ومواد إثرائيّة أستطيع تجريبها مع طلّابي.

 

أستطيع، مرّة أخرى، الإجابة عن سؤالك، بأنّ معظم حصيلتي التربويّة، معلّمًا وعاملًا مع المعلّمين ومنتجًا موادّ تعليميّة، جاءت إمّا من تجربتي في التعليم المباشِر مع الطلّاب في هذه المدرسة، أو بتفاعلي مع المعلّمين. سأضرب لك مثلًا، أتاحت لي تجربة التعليم في المدرسة أن أتخصّص في مجال "الدراما في التعليم"، الحقل الذي عملت على تطويره لاحقًا وبمستويات مختلفة. أتاحت المدرسة حينها لي الوقت للدراسة، ومنحتني الثقة للتجريب. شكّل مشروع الإعلام والتنسيق التربويّ أرضيّة العمل التربويّ في التدريب والنشر وتصميم المواد التعليميّة، وفي تكوين فهم شامل لما يحدث في التعليم. أدّى ذلك إلى مشاركتي في أوّل مركز مناهج في فلسطين، والإسهام في إنتاج الخطّة الشاملة للارتقاء بالتعليم في بلادنا.

نعم، صحيح، بدأت تجربتي في الانتقال بطريقة التعليم ومصادر التعليم، عندما كنتُ في "الفرندز"، وكان ذلك قبل انتقالي إلى العمل في مؤسّسة القطّان. نشأ أوّل تحوّل جوهريّ مع خبيرة أمريكيّة قدّمت ورشة في المدرسة لمعلّمي اللغة الإنكليزيّة، وحشرتُ نفسي بينهم، معلمَ لغة عربيّة، فجرّبتُ ما تعلّمته مع الطلّاب، وكان ذلك حول "الكتابة كعمليّة" وشعرت بتغيّر ما. أنتجتُ لاحقًا كتاب "اندفاع الكلمات" مع مؤسّسة تامر، بناءً على الورشة والتجريب. ومع ذلك، كنتُ أشعر وقتها بأنّ كلّ هذا العمل، رغم أهمّيّته، لم يشف غليلي، حيث شكّل طريقة أو إجراءات ميكانيكيّة في تعليم التعبير، ولا سيّما الكتابة. بعد ذلك، وبالمصادفة، تعرّفتُ إلى مفهوم الدراما في التعليم، حيث كانت سمر دودين هي الفاتحة في هذا الموضوع، وذكرتْ لي اسم ديفيد ديفيس الذي أصبح المشرف على دراستي في "بيرمينغهام"، والذي أصبح المدير الأكاديميّ الأوّل لمدرسة الدراما في التعليم، حينما أسّستُ برنامج "الدراما في سياق تعلّميّ" في مؤسّسة القطّان. كانت تجربة الدراسة محفّزًا لتجريب نهج جديد مختلف جذريًّا عمّا ألفته وعهدته؛ تدمج الإنسانيّ بالإجرائيّ بالفنيّ بالعلميّ. كانت تجربة في الاستقصاء والتعبير، وكانت المدرسة هي الفضاء الأوّل والأساسيّ لتطبيق النظريّات والمنهجيّات والطرائق التي تعلّمتها في الجامعة تطبيقًا عمليًّا.

 

في مؤسّسة القطّان، كانت لديّ تجربة متعدّدة الأوجه، ولا سيّما التعليم المدرسيّ. أنا الآن في سياق مؤسّسيّ يعمل على التعليم ويركِّز على العمل مع المعلّمين، وأنا معلّم. لذلك، وضعتُ تلك الخبرة في هذا السياق الجديد الذي هيّأ ظروفًا مادّيّة وإجرائيّة وعمليّة، من أجل الشروع في تطوير الأفكار وتحويلها إلى مشروعات حقيقيّة وواقعيّة. مثّلت تجربتي مع المعلّمين تحدّيًّا في تقديم أفضل ما يمكن تقديمه، كما وضعتني مشاركة أساتذتي في برامج المؤسّسة، كبرنامج الدراما، أمام تحدّيات حقيقيّة، حيث ينبغي أن أركِّز على نوعيّة ما أقدّمه للمعلّمين ومستواه.

هناك سياقات تمنحك التجربة، وهناك سياقات تمنحها أنت التجربة، وفي الحالتين يوجد تكامل ضروريّ من أجل الإنتاج، بغية تحقيق عمل جدّيّ وإنتاج له معنى. أعتقد أنّه لا زال هناك الكثير لتأمّله، ولتكامل عمليّتي النسل والنسج في سياقات جديدة ومتجدِّدة.

 

- لنفرض أنّ هناك حالة تفترض عكس تجربتك، مدرسة غير مُشجِّعة ولا تتجاوب مع معلّميها بطريقةٍ إيجابيّة. برأيك، كيف يكون وضع المعلّم وعلاقته مع الإدارة؟ وماذا عن الاصطدام بالزملاء؟

أنا مقتنع، طوال الوقت، بأنّ وجود إدارة متفهِّمة ومنفتحة ومساندة يمكن أن يساعد المعلّم على إطلاق قدراته وطاقاته. إنّه شرط أوّليّ لعمل تعليميّ وإبداعيّ في مناخ صحّيّ. لذلك، من المهمّ، بالنسبة إليّ، أثناء عملي مع المعلّمين أن أشرك مديري المدارس بصورة أو بأخرى، كي يؤمنوا بالفكرة، ويقتنعوا بأنّ ما نقوم به من عمل مع المعلّمين له معزى ومعنى، من أجل أن يشجّعوا المعلّمين الذي يعملون في مدارسهم. نجحت تجارب كثيرة بسبب دعم المديرين، وفشلت أخرى ليس لعدم توفّر هذا الدعم فحسب، بل لصدّ أيّة محاولات تجريب تتجاوز تقاليد التعليم المعتادة. يمكنني القول هنا إنّ هذا الدعم مهمّ وفارق ومحوريّ، إذ يوفِّر طاقة المعلّم للتعليم المنتِج والتصميم الإبداعيّ، بدل استنزافها في مجابهات عقيمة، أو في أمور جانبيّة، إجرائيّة أو لوجستيّة، أو في جدالات غير مثمرة.

بالنسبة إلى جزئيّة الاصطدام بالزملاء، عليّ أن أوضّح أنّ التجربة في مدرسة "الفرندز" كانت مميَّزة ومُلهِمة. يعود ذلك إلى روح المدير ومنظوره التربويّ والطلّاب وطاقتهم في الفعل، حينما تتاح لهم الفرصة. كان السياق الإداريّ في المدرسة يُتيح المساحة للإبداع والتفكير بأمور وأساليب جديدة لمن يرغب، بل كان يشجِّع على ذلك. كان يخفِّف ذلك من المعارضات، أو نشوء أجواء غير منتِجة لوجود بعض "المعلّمين السلبيّين". في الوقت نفسه، كانت هناك مبادرات لعمل مشترك بين مجموعة من المعلّمين، ممّا يخلق جوًّا إيجابيًّا ومثمِرًا، حيث ينتج المعلّمون، وحيث يمكن تطوير العمل المشترك بين المعلّمين أنفسهم. وعليه، أثّر التعاون الذي نشأ بين مجموعة من المعلّمين في إنتاج كتاب "هيّا نجرِّب"، وهو كتاب في التجارب العلميّة. فتح السياق المدرسيّ المجال أمام الجميع، وكان من الصعب لبعض الجوانب السلبيّة أن تتعمَّم، أو تتحوَّل إلى حالة صدّ أو ممانعة.

 

تكمن الفكرة هنا في أنّ التعليم في المدرسة لا ينبغي أن يكون عملًا فرديًّا (كلّ معلّم وصفُّه وطلّابه!)، بل ينبغي أن يُبنَى على ما هو مشترك. يجعل ذلك التجربة أغنى، ويمنح جميع المعلّمين مساحةً، ويوكِل إليهم مسؤوليّة التطوير. وبالتالي، لن يكون هناك مساحة إلّا للتفكير الإيجابيّ والتطوير والعمل المنتِج، إذا نظر الجميع إلى المدرسة كوحدة تطوير للجميع. ولا يجب أن أنسى أنّ هذه التجربة الملهِمة تأسّست على تجربتين أخريين: التعليم في مدرسة حكوميّة فُصِلتُ منها بكتاب من ضابط التربية (ضابط عسكريّ/الاحتلال) بعد 54 يومًا، وتعليم الصفوف كافّة (1-10) في مدرسة في الطيّبة، قضاء مدينة رام الله.

 

- جرت العادة أن يستلم المعلّم الجيّد مهمّات تنسيقيّة، ويصبح مدرّب معلّمين لاحقًا. برأيك، هل كلّ معلّم جيّد يجب أن يترك صفّه ويتحوّل إلى مدرِّب؟ وهل كلّ معلّم جيّد مدرِّب جيّد؟

من الناحية النظريّة، كلّ معلّم يمكن أن يكون مدرِّبًا جيّدًا، وكلّ تجربة إنسانيّة هي تجربة ثريّة. لكن، كي نؤطِّرها ونخلق سياقات محاورتها، نقول إنّ الطلّاب أيضًا معلّمون جيّدون. في سياق المدرسة، كوحدة تعلّم متكاملة، يدرِّب المعلّمون بعضهم بعضًا، ويعلّمون بعضهم بعضًا. وبالتالي، يتجسّد فهم لدينا في أنّنا نتعلّم من بعضنا، وينبغي أن نجسِّد هذا الفهم في عملنا مع الطلّاب، فهُم يتعلّمون من بعضهم، ضمن سياقات تعلّم تشاركيّة وداعمة ومُنتِجة.

من تجربتي، يكمن الحلّ الأمثل لهذا السياق في محاولة المعلّم أن يُمازِج بين دوره التعليميّ ودوره التدريبيّ. قد يكون ذلك صعبًا في بعض الحالات، ولكن علينا أن نجرِّب دومًا. أفهم أنّنا قد نخسر معلّمًا جيّدًا في حجرة الصفّ، ولكن يمكننا أن نكسب، بالمقابل، معلّمًا يشارك تجربته مع مجموعات من المعلّمين، فنكسب صفوفًا كثيرة. في نهاية الأمر، لن يتحوّل جميع المعلّمين إلى مدرّبين، لكن حين أنظر إلى تجربتي، ولعلّك كنت تقصدني معلّمًا في هذه المسألة، أستطيع القول إنّي حاولت أن أستمرّ في تعليم الأطفال، بين وقت وآخر، بالإضافة إلى عملي في التدريب. ولكن، مع أوّل وزارة تربية وتعليم فلسطينيّة، وجدت نفسي جزءًا من مركز المناهج. ألقى عليّ ذلك مسؤوليّة إضافيّة لا تنحصر في الصفّ، وحينما أنظر إلى التجربة اللاحقة، أعتقد أنّي وزميلات وزملاء كثيرون اجتهدنا في أن يكون لدينا مدرسة صيفيّة في مجال الدراما في التعليم، لثلاث عشرة سنة، وأكثر من أربعين كتابًا مؤلَّفًا ومترجَمًا، ومجلة بستين عددًا، واستوديو علوم، ومركز معلّمين، وتبادل خبرات عالميّة، ومؤتمرات ومنتديات معلّمين... كانت تجربة، في اعتقادي غنيّة، وكانت تستحقّ هذا الانتقال، رغم أنّي لا زلت أحنّ إلى التعليم، فهناك حصيلة لا أودّ لها أن تتبدّد، ويقع عليّ مسؤوليّة في إبقاء جذوتها متّقدة.

 

- كيف أدرت التوازن بين منهاج تقليديّ، ومقارباتك التجديديّة؟ والآن، ما الأشياء التي كنت تتمنّى لو قمت بها في حينه؟

كنت أفرّق بين المنهاج والكتاب المدرسيّ. أعني أنّ المنهاج هو كلّ المعارف والمهارات والقيم والعلاقات والبنية المدرسيّة معًا، والكتاب المدرسيّ هو أحد تجلّيّات هذا المنهاج. كانت مسؤوليّتي الرئيسة، معلّمَ لغة عربيّة، أن يُحسِن طلّابي التعبير، وأن يقرؤوا ويكتبوا ويتحادثوا وينصتوا بشكل أفضل. في هذا الإطار، نحن أمام مكوّنات ثلاثة: لغة، من نحو وصرف وبلاغة، ومنتَج لغويّ (النصوص والصور)، وكلام (صوت). ينبغي أن تتوازن المكوّنات، ولكنّي وصلت إلى قناعة مفادها أنّ أهمّ شيء في تعليم اللغة الكلام، والتعبير وبناء الفكرة والتخيّل والصياغة أبسط وأسهل. يمكن بالتكلّم أن نحقِّق العلاقة المترابطة مع المصادر، وأن نصوغ، في الوقت نفسه، ضمن إطار اللغة وقواعدها. أمّا الانشغال في قواعدها، فيمكِّننا من إجادة المعرفة عن اللغة، لا ممارستها.

استبدلتُ المقرّر المدرسيّ، وجمعتُ قصصًا من التراث الإنسانيّ في كتاب، ووزّعته على الطلّاب. علّمت الطلبة به التعبير والقواعد والمهارات التي يتطلّبها المنهاج، من دون الاستناد إلى الكتاب المدرسيّ وحده. أعتقد أنّ المشكلة في تعليم اللغات تكمن في أنّ الطلبة يتعلّمون عن اللغة، بدل أن يتعلّموها، ولهذا تأثير كبير في شخصيّتهم، إذ يجعلهم يُعيدون إنتاج كلام الكبار، ويكرّرونه، من دون أن يظهروا صوتهم الخاصّ وأسلوبهم الشخصيّ.

 

لديّ مثال شخصيّ، أشرت إليه سريعًا قبل قليل. كيف كانت تُبنى الأشياء مع الطلبة من أجل إظهار صوتهم الخاصّ؛ كنتُ أناقش مع طلبة الصفّ الثامن رواية "شرق المتوسّط" لعبد الرحمن منيف، حين وصلنا إلى رحلة "رجب"، وهو الشخصيّة الأساسيّة في الرواية، من السجن إلى فرنسا، راكبًا سفينة يونانيّة اسمها "أشيلوس". يوظِّف منيف حوارات داخليّة، مونولوغ، بين رجب والسفينة "أشيلوس"، وهو على متنها، فيتحدّث معها وكأنّها شخص آخر، ويعبِّر لها عن آماله وطموحاته ومشاعره وآلامه والمحطّات القاسية التي عبرها في حياته. كنت أناقش مع الطلبة فكرة استحضار الروائيّ السفينة، من أجل بناء حوار داخليّ أشبه بمناجاتها. أوقفتني طالبة قائلةً: "كلّ إنسان منّا لديه أشيلوس"، وفي ضوء ذلك استندنا إلى فكرتها، وبنينا معًا. سيكون لكلّ منا "أشيلوس" الخاصّة به، والتي يبوح لها بأفكاره ومشاعره، ويتحاور معها. استلهمنا أسلوب منيف الروائيّ في إنتاج الحوار الداخليّ في الدراما، ومن هذا البُعد الذي وظّفنا فيه الدراما في التعليم، انتقلنا إلى كتابة النصوص. ظهر سؤال حينها: ماذا سنفعل بهذه الكتابات؟ قرّرنا إصدار مجلّة بعنوان "كلمات"، نحن محرّروها، وجمعنا مبلغًا من المال لإنتاج المجلّة وطباعتها وتوزيعها في المدينة.

أما في ما يتّصل بتعزيز شخصيّة الطلبة، فأجروا مقابلات بحثيّة مع مؤسّسات مختلفة. ننسّق لهم مع هذه المؤسّسات، وهم يحضّرون أسئلتهم وموادّهم وكاميراتهم، ويجرون مقابلات معمّقة مع مديرين وموظّفين ومنسّقين وعاملين في هذه المؤسّسات، وينتجون تقريرًا صحفيًّا مكتوبًّا ومصوّرًا. إنّها رحلة تعلّم متعدّدة الأبعاد والممكنات. ما أريد الإشارة إليه هو أنّ الكتاب المدرسيّ ضمن هذه السياقات، يغدو متواضعًا، ويتعلّم الطلبة معارف ومهارات وقيم أكثر اتّساعًا وعمقًا ممّا يقترحهُ أيُّ منهاج في صورته الضيّقة. التعليم في جوهرهِ تعليم تكامليّ، وعلينا النظر إلى البشر والمرافق والمواد والأدوات والمعارف والمشاعر بعلائقيّتها مع المجتمع والتقاليد والتاريخ والقيم.

 

- ما المقاربات الأنجح في تعليم الشعر؟

أحدّثكم عن نموذج مشروع بنيته حول إمكانيّة تعليم الأطفال كتابة القصيدة، مع التنبيه إلى أنّ المقاربات الشعريّة متعدّدة، ولا تنحصر، في أنموذج واحد. الأنموذج مشروع منشور بعنوان "أنا أؤلِّفُ قصيدة". بنيتُ المشروع وفق محطّات متعاقبة. بدأته، في المحطّة الأولى بالقراءة، بالحديث عن زيارة لي متحف الفنّ الحديث في الكويت، وفي الفسحة الخارجيّة للمتحف كان هناك عمل فنّيّ مكوَّن من مجموعة مجسَّمات برونزيّة على هيئة مكعّبات، وفي كلّ واحد منها جزء من جسد يندفع إلى الخارج، وكأنّ هناك رجلًا يحاول الخروج. اسم العمل "محاولة خروج"، للفنّان الكويتي سامي محمّد.

في المحطّة الثانية، وضعتُ صورتين للعمل الفنّيّ للمشاهدة، وطلبتُ إلى طلّابي كتابة أيّ شيء يخطر في بالهم في مساحة بيضاء، عند رؤية هاتين الصورتين، نسختي العمل المختلفتين. أفرزت المحطّة التالية لكيفيّة تكوّن اللحظة الأولى للقصيدة: ممَّ يبدأ شاعر قصيدته؟ أمن شعور أم حالة أم موقف أم غرض أم فكرة أم صورة أم قطعة موسيقيّة...؟ أقدِّم هنا مثالًا؛ قصيدة محمود درويش "رجل وخشف في الحديقة"، وهي عن خشف (غزال صغير) عاشَ مع صديقه، ومات ودفنه في فسحة في حديقة البيت. بنى درويش قصيدته على ذاكرته للخشف والصديق والمكان. يمكن قراءة القصيدة هنا، ويمكن الاستماع إليها، من خلال ترميز يقرأه الهاتف النقّال.

تتحدّث المحطة الرابعة عن الخيال، مُركَّبًا أساسيًّا في الكتابة، وأثبتُ لهم قصّة بعنوان "النحّات والأطفال" حول كيفيّة تخيّل الفنّان حصانًا في قطعة "غرانيت". وفي مرحلة تالية، أتحدّث عن تجربة شخصيّة تقوم على محاضرة ألقيتها على طلبة الصفّ السادس، حين استضافتني المعلّمة لأعرض تجربتي في كتابة الشعر، وحملتُ معي إلى الطلّاب حجرًا نحتّهُ في السجن. مرّرتُ الحجر إلى الطلبة، وسمعتُ طالبًا يهمس: "حجرٌ تاه في الطريق". في نهاية الحصّة، استأذنتُ الطالب في أن أكتب الجملة على السبّورة، فوافقَ، وأنهيت الحصّة قائلًا: يمكن لهذه العبارة أن تكون أساس قصيدة. وتفاجأت في الأسبوع التالي برزمة أوراق تعطيني إيّاها المعلّمة، وإذ بها قصائد بُنيَت على تلك العبارة.

في المحطّة قبل الأخيرة، وضعتُ الصور الثمانية للعمل الفنّيّ بمجسّماته الثمانية، وطلبتُ إلى الطلّاب أن يكتبوا ما يخطر في بالهم. بدأنا بكتابة انطباعات في محطّة البدء قبل أيّة خلفيّات محدّدة، وانتهينا إلى الكتابة في ضوء المحطّات التي عبرناها والخبرة التي أنشأناها. أمّا المحطّة الأخيرة فكانت لمراجعة النصّ الشعريّ لغويًّا، وتحويله إلى تعبير بوسيط رقميّ (صورة وصوت وكتابة)، ثمّ نشره، ثمّ عقد حوار حوله.

 

- ما أهمّيّة المقاربة الدراميّة في التعليم عامّةً، وفي تعليم العربيّة خاصّةً؟

انطلاقًا ممّا درسته عن الدراما في التعليم، أذكر أربعة مناهج:

  • - الدراما التكوّنيّة: هي استكشاف قضايا البشر؛ من مشاريع، وأحلام، وصراعات، ومشاعر، في سياقات تكامليّة. من هنا، وبغضّ النظر عن المساق، نضع الفكرة في سياق زمنيّ- مكانيّ، ومن ثمّ نذهب بالفكرة إلى مرحلة الاستقصاء أو البحث، لنصل إلى مرحلة التأمُّل التي توصلنا بدورها إلى مرحلة التعبير بأشكاله المختلفة.
  • - دراما عباءة الخبير: هي منهج تعليم تكامليّ، وكلّ مجال معرفيّ يمكن أن يَصلُح لهذا المنهج، لأنّه يقوم على فكرة أن يكون الأطفال خبراء في موقعهم، بغضّ النظر عن المساق والتخصّص. هذا نهج تعليميّ يتقاطع مع المنهاج المدرسيّ، ويدفعنا إلى اختيار مشروع يتقاطع مع أهداف المنهاج.
  • - تعليم مبنيّ على تداول المنتجات: كيف يمكننا مشاركة نتاجات الطلبة في صفّ ما، أو في مدرسة ما، أو في بلد ما، مع آخرين من مناطق أخرى؟ ضمن مشروع أو مشروعات تغذّي بعضها بعضًا.
  • - التعليم المبنيّ على المشروع: ما تقوله أستاذتي دوروثي هيثكوت هنا مهمّ ومثير، وهي رائدة التعليم في الدراما: "أحسن نوع تعليم تحلم به هو التعلّم عبر المشروع الواقعيّ والحقيقيّ الأصيل"، والذي يتأسّس على المناهج الثلاثة التي أشرتُ إليها للتوّ.

 

- ما إجابتك عن سؤال الطلبة: لماذا نتعلّم اللغة العربيّة في هذا العصر؟

بالنسبة إليّ، على الأطفال، أوّلًا، إدراك أنّ اللغة تعبير. نحن نعبِّر عن مشاعرنا وأفكارنا وقيمنا، وهذه مسؤوليّتنا. نحتاج، ثانيًا، إلى هذا التعبير كي نخلق صلة وتواصلًا مع الآخرين، فجوهر الحياة التواصل مع الآخرين. ثالثًا، حينما يقوم الطلبة بتعلّم مبنيّ على مشاريع ذات معنى ومرتبطة بالمادّة، مشاريع حقيقيّة وواقعيّة وأصليّة، يعني ذلك تواصلهم مع مجتمعهم الذي يتكلّم لغتهم. نمنح بذلك اللغة معنى، ويشعر الطالب بأنّ ما يقوم به ذو معنى. ومهما كانت لغتنا الثانية مُتقَنة، فنحن نفكِّر بلغتنا الأمّ، ونستطيع بها تطوير المعرفة. اللغة مرتبطة بالمعرفة وبالسياق الثقافيّ الذي نعيشه.

من المفيد الإشارة هنا إلى أنّ التعلّم الحقيقيّ ينبغي أن يقوم على اللغة الأمّ، وإن تجاورت معها لغات أخرى. أدعو إلى التفكير في ذلك، كيف نعبِّر بلغة أمّ ولغات تجاورها. أضف إلى ذلك، طبعًا، كلّ ما يتعلّق بالهويّة والتاريخ والموروث، حيث لا يمكن لنا أن نضع رؤية المستقبل من دون أن نتأمّل في الماضي وتكوّننا. وأخيرًا، اللغة أساس في تكوّن أيّ أمّة.

 

- هل بإمكانك تقديم أنموذج عربيّ حول التعلّم بالمشروع؟ ما المرحلة التي يمكننا العمل بها مع الطلبة؟ وما خطوات تطبيق ذلك؟

استنادًا إلى أنواع الدراما في التعليم، أفصّل نوعين من التعلّم بالمشروع:

  • - التعلّم بالمشروع الافتراضيّ: مثال ذلك، طلبة روضة يعملون على مشروع يرتكز على إصابة قطّة، ويريد المعلّم أن يمرّ مع الطلبة بمهمّة علاج القطّة. لدينا هنا مشروع افتراضيّ، بتوظيف استراتيجيّات متعدّدة، منها نهج عباءة الخبير. ينبني المشروع هنا على هيئة مهمّات يؤدّيها الأطفال، كخبراء في علاج الحيوانات (كأن يكونوا أطباء بيطريين)، بمهمّات متسلسلة ومترابطة، لتحقيق المرجوّ من المشروع، وهو علاج القطّة. نتعلّم، في هذه الرحلة، عن الكائنات والأمراض والإصابات والطبيعة والعلاقات والطب والتاريخ والعناية... نبحث في ذلك ونتأمّل ونجرِّب ونستقصي ونستنتج ونعبِّر... يمكن لهذا المشروع أن يكون لأعمار مختلفة وفي مجالات تعلّم متعدّدة، أبرزها مجال التعليم التكامليّ. تتحدّد المهمّات ومستواها في ضوء ما تتطلّبه مجالات التعلّم في المنهاج ومستوى الطلّاب وأعمارهم وخلفيّاتهم. كلّ مشروع في الحياة يمكن أن يكون مشروعًا افتراضيًّا متقاطعًا مع غايات المنهاج؛ ويمكن للمشروع أن يكون ترميم مخطوط أثريّ، أو بناء جسر، أو ملصق مسرحيّة، أو قصّة أطفال، أو برنامج إذاعيّ، أو معرض فنّيّ، أو زيّ لمناسبة معيّنة... والقائمة لا تنتهي. تلاحظون أنّ كلّ المشاريع فيها ما هو مشترك وما هو خاصّ، وهذا ما ينبغي أن يلتفت إليه المعلّم، حين يقرّر المشروع الملائم غاياته التعليميّة.
  • - التعلّم بالمشروع الواقعيّ: ينتج الطلبة مشروعًا حقيقيًّا. تنتج مجموعة من الطلبة، مثلًا، مسرحيّةً حقيقيّة تُعرَض أمام جمهور. تعمل مجموعة أخرى على إنتاج مُلصق فنّيّ دعائيّ للمسرحيّة. طلّاب مدرسة مع معلّميهم يعملون على إنشاء حديقة نباتات برّيّة في بلدتهم، أو إنشاء حديقة ألعاب، أو جداريّة في مدخل مشفى للأطفال، أو أغنية... هذه فرصة لرؤية الحياة وعلاقاتها، واحتياجات المجتمع ومتطلّباته، وهنا نعبُر في عمليّة متكاملة وتفصيليّة مهمّة، لربط المعرفة بالواقع والتطبيق. نلاحظ أنّ المشروع لا يحقِّق غايات المنهاج فحسب، بل يضيف إليه من الحياة الواقعيّة. وفي سياق مدارس تعلّم المساقات باللغة الإنكليزيّة، على التعلّم بالمشروع أن يدمج اللغتين. على سبيل المثال، كنتُ أعمل على تجربة بناء حديقة نباتات، والمشروع كان يتمثّل في تصميم لافتات تتضمّن إرشادات وتعليمات وأوصاف ومعلومات عن النباتات للزوّار. وبطبيعة الحال، كان زوّار الحديقة مختلفي الثقافات والمجتمعات، وينبغي أن تتضمّن اللافتات أكثر من لغة، مثل العربيّة والإنكليزيّة والصينيّة... أودّ هنا أن أؤكّد على أنّ نوع المشروع وفق عباءة الخبير قد يشكِّل أساسًا لمشروع واقعيّ وأصيل.

 

- حول تعليم الفنون عامّةً، برأيك، هل يجب أن يكون تعليم الفنون مجالًا بذاته وبحدّ ذاته؟ أم يجب أن يكون متداخلًا؟

في البداية، الفنون هي أوّل شكل من أشكال التعبير التي أنتجها الإنسان، وقد اندمجت في الحياة وتجليّاتها. وبالتالي، لا أستطيع الفصل بين الفنّ والتاريخ والعلم والدين والتكنولوجيا. لذلك، فالعلائقيّة بين الأشياء مركَّب أساس لقراءتها.

من هنا، يوجد أنواع ثلاثة لمقاربة الفنّ وفق السياق المدرسيّ، وجميعها، باعتقادي، تخلق خبرة تعلّم نوعيّة وغنيّة:

  1. - الفنّ موضوعًا بحدّ ذاته: تعلّم الموسيقى، أو الرسم، أو المسرح، أو السينما، أو الرواية، أو القصّة، أو القصيدة، أو النحت، أو التمثيل...
  2. - الفنون مُعزِّزًا لموضوع نُعلّمه: مثال ذلك، نُعلّم في مادّة الجغرافيا عن الزلازل، فنشاهد فيلمًا، أو نقوم بعمل مجسَّم  توضيحيّ عن الصفائح، أو نقرأ قصيدة عن زلزال. هذه أعمال فنّيّة تعزِّز فهمنا موضوع الزلازل، كمصادر إثرائيّة ومسانِدة.
  3. - الفنون سياقًا مدمَجًا مع العلم والتكنولوجيا والمعارف: لديّ مثال شخصيّ، ورغم أنّه قديم، فقد يعكس الفكرة: كان ذلك ضمن مشروع مع منتدى العلماء الصغار في رام الله. كان الأطفال في هذا المنتدى يمرّون بتجارب تعلّميّة مختلفة، وكنت أعمل معهم على الكتابة الإبداعيّة من خلال الدراما. كان الأطفال يعبِّرون في مجالات متعدّدة، فنّيّة وعلميّة وتقنيّة. ضمن إحدى الفعّاليّات، زار الأطفال بلدة عمواس المُهجّرة (قضاء القدس)، رافقهم عدد من عائلات البلدة، كبارًا وصغارًا، رجالًا ونساءً، فتيةً وفتياتٍ... وهناك، شاهدوا ما بقي من البلدة واستمعوا إلى كبار عن قصص التهجير والتقطوا بعض الصور. عاد الأطفال بمخزون قصصيّ كبير. عملنا على مشاهد بُنيَت على القصص، ثمّ ركّزنا على أغراض وردت في القصص، وألّفنا قصصًا مرويّة على لسان الأغراض، بتجسيدها شخصيّات رئيسة في القصّة، ثمّ كتبنا القصص وطبعناها، واستعنّا بفنّان ليعلّمنا كيف ننتج رسومات مرافقة النصوص. أنتجنا قصصًا معاصرة ومستوحاة من تلك الزيارة.  هناك يمكن أن نلاحظ التكامل في الفنّ والعلم والتقنيّة، بأبسط صورها، ولكن بعلائقيّتها.

 

إذا انتبهنا اليوم، إنّنا نقوم بهذه المقاربات الثلاثة بدرجات متفاوتة، وفي عصر من التحوّلات التقنيّة المتسارعة. أصبح بإمكان أيّ منّا أن يكون باحثًا، ومؤلِّفًا، ومؤدّيًا، وناشرًا، ومحاوِرًا... وأصبح بإمكان كلّ منّا أن يعبِّر بجسده الماديّ، أو ببصره، أو بذهنه اللغويّ، وأن ينتج المعاني بالحركة والصورة والصوت. نحن أمام تحوّل جوهريّ في الأدوار والمهمّات، وهذا ما يتطلّب توجّهًا استقصائيًّا ونقديًّا، يرينا الحياة من منظورات متعدّدة لا تثبت على حال.