محاورة مع ريما كرامي عكّاري
محاورة مع ريما كرامي عكّاري
ريما كرامي | استاذة مشاركة في الجامعة الأميركيّة ومديرة مشروع تمام- لبنان
  • - أستاذة مشاركة في الإدارة التربويّة والسياسات والقيادة في قسم التربية في الجامعة الأميركيّة في بيروت.
  • -  بكالوريوس في العلوم ودبلوم لتدريس العلوم للمراحل الثانويّة.
  • - ماجستير الآداب في تعليم العلوم من الجامعة الأميركيّة في بيروت.
  • - دكتوراه في التربية من جامعة بورتلاند في ولاية أوريغون، مع تخصّص في الإدارة والإشراف التربويّ للمراحل K-12، ومع التركيز التخصصيّ في إدارة المدرسة، والتغيير التنظيميّ، والسياسة التعليميّة.
  • - رئيسة دائرة التربية في الجامعة الأميركيّة في بيروت.
  • - رئيسة اللجنة التنفيذيّة لشمعة (شبكة المعلومات التربويّة العربيّة).
  • - عضو في الهيئة اللبنانيّة للعلوم التربويّة.
  • - مستشارة سابقة لمشروع دراستي ومشروع الإدارة التربويّة في وزارة التربية اللبنانيّة.
  • - مديرة ومحقّق رئيس في مشروع تمام، وهو مشروع بحثيّ تطويريّ مشترك أُطلق من خلال مذكّرة تفاهم بين مؤسّسة الفكر العربيّ والجامعة الأميركيّة في بيروت، للبدء بالإصلاح المدرسيّ والبحث عن كيفيّة بناء القدرات القياديّة من أجل التحسين المستدام في المدرسة.
  • - قامت بتصميم وتنفيذ العديد من أنشطة التطوير المهنيّ لمديري المدارس والمشرفين، سواء بشكل مستقل أو كجزء من مبادرات الإصلاح واسعة النطاق.

 

  • - ما أبرز الإشكاليّات، برأيك، التي تواجه التعليم في العالم العربيّ؟

بدايةً أعتبر نفسي محظوظة لتقاطع مهنتي بشغفي ورسالتي، ما يجعلني أتفاعل مع القضايا انطلاقًا من الهموم التي عاينتها من خلال تجربتي، والقراءة والأبحاث، وكذلك ما عايشته من خلال مشروع "تمام". من هُنا، أرى أنّ التعليم يعاني، أساسًا، مشكلةً بنيويّة. والإشكاليّة، ضمن هذا السياق، أنّ هذه المُشكلة غير ظاهرة؛ بمعنى عندما لا يحقّق المعلّم أهدافه في الغرفة الصفّيّة، نعتبر أنّ المشكلة من المعلّم، بينما في الحقيقة يجسّد هذا المثال مُشكلة بُنية علينا إظهارها حتّى نتمكّن من تفكيكها، والتحاور لحلّ جزئيّاتها المُختلفة.

في هذا الصّدد، أعتبر أنّ أبرز الإشكاليّات التي تواجه التعليم في العالم العربيّ وأكثرها صعوبة، غيابُ الحوكمة المناسبة للمعلّم ولمهنة التعليم. نحنُ نفتقد حوكمة تتطابق وأهداف المعلّمين ورسالتهم، ما يقود إلى ممارسات بيروقراطيّة هشّة تعيق تحقيق هذه الرسالة كون هذه الممارسات غير مؤسَّسة على حوكمة ملائمة. وهناك إشكاليّة أُخرى من وجهة نظري، هي غياب مفهوم التشاركيّة؛ فنرى أنّ الفكر التشاركيّ المهنيّ غائب من المدرسة إلى الجامعة إلى المؤسّسة التعليميّة الرسميّة، ما يجعل عناصر العمليّة التعليميّة ومن يعملون على تطويرها، ينشطون بشكلٍ فرديّ معزول من دون تنسيق وتناغم مع باقي العناصر. كما أعتبر أنّ موضوع غياب الاهتمام بالإشراف التربويّ وغموض مفهومه هو إشكاليّة حقيقيّة تواجه التعليم في العالم العربيّ. فالإشراف التربوي مفقود بمفهومه الحديث الذي يركّز على تنمية مهنيّة المعلّم وقيادة العمليّة التعليميّة نحو التجدّد الدائم، وموجود في ممارسات أقرب إلى رقابة بوليسيّة عفا الزمن عنها، لا تضمّن إطارًا تربويًّا مهنيًّا واضحًا. أمّا الإشكاليّة الأخيرة فهي هُزال الهويّة المهنيّة للمعلّم؛ بمعنى أنّ النظرة إلى المعلّمين ما زالت باعتبارهم منفّذين وعاملين وموظّفين لا مهنيّين، بما يشمل هذا المصطلح من النظرة إلى إعدادهم، إلى شروط عملهم، وإلى تشجيعهم التعامل معهم كشركاء حقيقيّين في العمليّة التعليميّة.

كلّ هذه الإشكاليّات (غياب الأدوات والحوكمة والتعامل القويم مع المعلّم كمهنيّ) قادت إلى تضييق أهداف العمليّة التربويّة، بحيث باتت عمليّة ميكانيكيّة معزولة عن رسالتها الأساسيّة وعن التنمية المجتمعيّة، وأصبح التربويّون عاجزون عن المساهمة في بناء نظام تربوي فعّال وخلّاق.

 

  • - كيف يُمكننا تقريب التصوّر النقديّ للباحثين في مجال التعليم إلى أرض الواقع؟

علينا، أوّلًا، أن نأخذ بعين الاعتبار أنّ النظام التعليميّ الذي نعمل ضمنه يدفع البحّاثة التربويّين إلى أن يكونوا فرديّين، أكثر من دفعهم إلى الانخراط والمُشاركة، وحتّى قيادة التغيير ضمن العمليّة التعليميّة. هذه الفرديّة، الموجودة ضمن السياقات المُختلفة، خصوصًا الجامعات، تحملُ أثرًا سلبيًّا كونها لا تنعكس بأفعال وممارسات على أرض الواقع. وهُنا، أودّ الإشارة إلى كون الجامعات مساحة لا تختلف كثيرًا، من منحى الحوكمة والتطوير، عن المدارس، إلّا بقرار وأشخاص محدّدين ونماذج محصورة، على غرار نموذج الجامعة الأمريكيّة في بيروت.

قناعتي أنّ المجتمع العلميّ التربويّ يجب أن يقتنع بأهمّيّة توظيف قدراته البحثيّة لإيجاد حلول عمليّة، أو ما يسمى نظريات تطبيقيّة (theory of practice) للمشكلات التي يواجهها الممارِسون على المستويات كافّة في القطاع التربويّ. وهذا يستدعي جمع عمليتَي البحث والتطوير، وتبنّي مقاربة تشاركيّة تنهي فوقيّة "الباحث" على "الممارِس"، وتثمّن الأفكار التي يولّدها الأخير وتُترجَم الى ممارسات مبنيّة على الخبرة النابعة من السياق. هذه المقاربة تُترجم بفتح مساحة أوسع لدور الباحث التربويّ، يتخطّى اعتباره باحثًا من أجل البحث فقط، ليصير باحثًا إجرائيًّا، يقرّب أغراض البحث من ممارسات المعلّم لتحقيق تشاركيّة عمليّة بينهما، من خلال تماسّ مُباشر وحوار دائم ليحدّدا معًا الأولويّات الاستراتيجيّة للتطوير والبحث. هُنا يصبح إنتاج المعرفة مرتبطًا بمشكلات واقعيّة تواجه المُمارس، ومرتبطة بأولويّاته، للبحث عن إجابات مُختلفة. وقد أدرك التربويّون حول العالم أهمّيّة هذا الأمر، وبدؤوا بترجمته في مبادراتهم للإصلاح التربويّ. أعتقد أنّه، وفي سياق البلدان العربيّة، نحن في أمسّ الحاجة إلى اعتماد هذه المقاربة، لأنّها تمنحنا الفرصة لنساهم في إنتاج معرفة فعّالة ومتجذّرة في إرثنا الثقافيّ.

 

  • - ما دور المدرسة في تحقيق التنمية المستدامة في المُجتمع؟

للمدرسة دور مهمّ ومفصليّ في المساهمة في التنمية، يتمثّل ببناء الشراكات وعقدها مع محيطها. ربّما أوّل هذه الشراكات يكون مع العائلات التي فوّضت المدرسة تعليمَ أبنائها، كونِ هذه الشراكة أساسيّة وسهلة العقد، وهي تتطلب التوافق على رؤية مشتركة تضع المدرسة في دور مركزيّ لقيادة عمليّة التنمية، وإرساء التناغم والتكامل مع كلّ المعنيين برعاية الطفل ليتحوّل إلى مواطن مسؤول ومنسجم مع محيطه وبيئته.

ومن الملاحظ أنّ هُناك تحوّلًا جذريًّا في هذا المجال في العالم، إذ باتت الشراكة بين المدرسة ومحيطها فكرة شائعةً اليوم، وهناك نماذج ودروس وتجارب تمكن الاستفادة منها. من هُنا، على المدرسة بكلّ أنواعها، حكوميّة أو خاصّة أو غيرها، السعي لعقد الشراكات مع محيطها لتكون مجتمعيّة، أي مهتمّة بالحفاظ على الحقّ الإنساني في التعلّم، وغير محصورة بقضاياها اللوجستيّة مثل الاعتماد الرسميّ، ودخلها الاقتصاديّ وغير ذلك. وبالطبع لا ننسى التأكيد على دور الحكومات في دعم المدارس ضمن هذه السياقات.

 

  • - كيف يُمكننا تطوير المعلّم انطلاقًا من الاهتمام بشؤونهُ وتطويره المهنيّ وأمانه الوظيفيّ؟

أودّ التفريق، مستهلًّا، بين تطوير المعلّم مهنيًّا وإعداده تقنيًّا. ما نحنُ بحاجة إليه في العالم العربيّ هو التطوير المهنيّ للمعلّم؛ تطويره مهنيًّا بالارتكاز إلى هويّة مهنيّة مُختلفة. وبالتالي، إذا لم يتمّ الاهتمام بشؤون المعلّم وأمانه الوظيفيّ وغير ذلك من الأمور، لن يحصل التغيير، بل من الممكن أن تنعكس محاولات التغيير إلى محاولات يائسة. لذا، يجدر بالتطوير أن يتمّ ضمن منظور شموليّ، يأخذ بعين الأهمّيّة ظروف المعلّم وأوساطه المُختلفة.

وإن أردنا النظر إلى الحالة الفنلنديّة أنموذجًا، نرى أنّ المؤسّسة التعليميّة هُناك سعت، على مدار 25 سنة، لتطوير المعلّم أساسًا لتطوير العمليّة التعليميّة؛ فبات المعلّم ممكّنًا اقتصاديًّا، وآمنًا وظيفيًّا، ولديه مكانة بصفته خبيرًا تربويًّا. وبات الدخول إلى مهنة التعليم أمرًا يحتاج إلى جهد ليسَ بسيطًا، ما استدعى تغييرات مُختلفة على مستويات عديدة، أدّت في المحصّلة إلى تغيير جذريّ حقيقيّ في النظام التربويّ وحوكمته وسياساته.

وقد يكون من الصعب تحقيق مثل ذلك في سياقات عربيّة، لكون المؤسّسة تطلب من المعلّم ساعات طويلة لعمله الأساسيّ، فكيف عليه أن يسعى إلى التغيير في خضمّ الضغط الذي يعانيه؟ لذا، من واجب المؤسّسات التربويّة أن تتّخذ القرار في دعم عمليّة التطوير، وأن تؤمّن ظروف انخراط المعلّم فيها، خصوصًا أنّ هناك نماذج مُختلفة فعّالة لتمكين المعلّم وتطويره مهنيًّا وفتح المساحة أمامه للتعلّم المستمر. ولتحقيق ذلك، ربّما يجب الاعتماد بدايةً، في ظلّ السياقات الصّعبة للمعلّمين في منطقتنا العربيّة، على البحث عن قصص النجاح ونمذجتها وتعميمها؛ فرغم الظروف الصعبة للمعلّمين والمديرين على السّواء، إلّا أنّ هُناك قصص نجاح علينا الإضاءة عليها، واعتمادها نماذج تمكينيّة للمعلّمين.

 

  • - ما دور المعلّم في عمليّة التغيير؟

مع الفهم العميق لسياقات المعلّمين الصعبة، إلّا أنّ التجربة برهنت أنّ تبنّي المعلّم نظرة أوسع لدوره التربويّ، وبناء قدراته لقيادة التطوير المستند الى المدرسة يمكّنه من أن يستكشف المساحات الرماديّة التي يستطيع أن يتحرّك ضمنها، تمهيدًا لدور أبعد يمتدّ حتّى تغيير السياسات، وبناء نقابات تسعى لرسم حدود المهنة، وتذهب إلى مطالبات مُختلفة نحو تطوير شروطها، ضمن نظرة نقديّة ومسؤوليّة يجب العمل عليها باستمرار، وكذلك النضال والتضحية لتحقيق التغيير المأمول.

وفي هذا السياق، شكّلت جائحة كورونا مثالًا على أدوار المعلّمين المُختلفة المتحدّية للواقع؛ فمعظم المدارس في الكثير من البلدان العربية كلبنان وفلسطين والسودان، لم تمتلك منصّات للدراسة عن بُعد، ناهيك عن افتقار الطلبة إلى الأجهزة الإلكترونيّة. إلّا أنّ معلّمات ومعلّمين كثيرين أخذوا زمام المبادرة وحقّقوا أهدافًا عديدة. هُناك مجموعة معيّنة ابتكرت بروتوكولًا صحّيًّا كمبادرة للوصول بأمان إلى الطلبة والمُضيّ بعمليّة التعليم. ومجموعة أُخرى وضعت منهاج جانبيّ، وقرّرت تعليمه بما يتقاطع مع الواقع والحياة العمليّة. ومجموعة أُخرى عزّزت عمليّة التعليم من خلال قنوات التواصل مع الأهل لتحقيق الأثر وتقليص الفاقد التعليميّ.

 

  • - ما رأيك بوكالة/ فاعليّة المتعلّم، وهو موضوع ملفّ العدد من منهجيّات؟ وضمن أيّ مجالات يمكن أن يكون صوت المتعلّم ضرورة للتطوير المدرسيّ؟

بالنسبة إلى عمليّة التعلّم، بات من المسلّمات أن يكون المتعلّم فاعلًا في تعلّمه، وليس مجرّد طالب يتلقّى التعليم أو وعاء له. والجانب الآخر للسؤال، واستقاءً من فلسفة جون ديوي المتمثّلة بإعداد المتعلّم ليكون مواطنًا، تظهر أهمّيّة المجتمع المدرسيّ في النظر إلى الطالب كمواطن لا كمتعلّم وحسب، بما يمثّل هذا الأمر؛ أي التعامل مع الطالب كمواطن، من مساحة للانطلاق وإعطاء الصوت للطلبة.

ولديّ مثال على ذلك: مدرسة طلبتها يعيشون ظروفًا اجتماعيّة اقتصاديّة صعبة، ودور المعلّمين في ظلّ هذا السياق الصعب كان قمعيًّا. في هذه المدرسة، كان من الصعب التأسيس لإعطاء الطلبة صوتًا في صفوفهم المُختلفة، فاستخدمنا نشاطات ضمن استراتيجيّة تعليم تمتدّ إلى خارج الغرفة الصفّيّة، في محاولة لجعل الطلبة شركاء في تطوير تعليمهم ومدرستهم. واكتشفنا أنّ أهمّ نقطة هي تعزيز مهارات الطلبة في التواصل بين عناصر المجتمع المدرسيّ مع خصوصيّات كلّ نوع من أنواع التواصل كالتواصل بين الطلبة، وبين الطلبة والمعلّمين، وبين الطلبة والإدارة. وتجدر الإشارة إلى ضرورة تعزيز فكرة لجان الطلبة التي تضمن وجود فئة ممثّلة عن الطلّاب تساهم في الحوار مع الإدارة والمعلّمين، وتوسّع قنوات التواصل بينهم، وتعطي الطلبة مساحة للعمل والفعل وتطوير شروطهم وبيئتهم للتعلّم، وصولًا إلى تعزيز دورهم كشركاء فاعلين في عمليّة تعلّمهم.

 

  • - ما العوائق الأساسيّة التي تواجه فكرة إعطاء المتعلّمين صوتًا؟ وكيف يُمكن تخطّيها؟

برأيي العائق الأساسيّ هو إقناع الطالب نفسه بأنّ هُناك قواعد في البيئة المدرسيّة ليست بالضرورة متماثلة مع ما يحيط بها. ففي البلدان العربيّة التي تعاني الأزمات، يصبح من الصعوبة بمكان أن تستقي العمليّة التعليميّة أمثلة من الواقع المعاش، نظرًا إلى تفكّك البيئة الاجتماعية. لذلك تصبح المدرسة نموذجًا عن المجتمع المرتجى؛ فتصمّم القواعد لتعطي الطلّاب المساحة ليمارسوا فيها وكالتهم بتناغم مع متطلّبات مجتمعهم المدرسي. ضمن هذه المقاربة، يجب فتح قنوات التواصل مع الأهل، حتّى يتمّ تحقيق التناغم بين صوت المعلّم وصوت الأهل، فلا يضيع الطالب بين الصوتين، خصوصًا أنّ لكلّ مساحة قوانينها: للبيت قوانينه وللمدرسة كذلك.

من الآليّات التي يمكننا الاعتماد عليها لتخطّي العوائق: أوّلًا، مُشاركة الطلبة في وضع قواعد وقوانين للمساحة المشتركة؛ وثانيًا، العمل على التواصل مع الطلبة، والتركيز على لغة الطلبة وكيف يعبّرون عن أنفسهم، وكيف يتعاملون ويتفاعلون مع السلطة ضمن السياق المدرسيّ؛ وثالثًا، التعامل معهم كشركاء فاعلين. كما يجب التعامل مع قضيّتين أساسيّتين: الأولى هي فكرة الانضباط، وهذه فكرة علينا أن نتخلّى عنها بالمُطلق، كونها خارجة من فكر قديم تقليديّ. والثانية هي إعداد الطلبة للتعامل مع الانتماء إلى الجماعة، وهذا مهمّ للحفاظ على التوازن. وبالتالي يُحافظ على مساحة من الحرّيّة الفرديّة إلى جانب هذا الانتماء إلى الجماعة، للحفاظ على هويّة الطالب وتنمية شخصيّته.

من الضروريّ أن يكون صوت الطالب واضحًا في تعلّمه، مع الأخذ بعين الاعتبار مراحل نموّه، وقدرته على اتّخاذ القرارات، وعلى الموازنة بين الأمور العاطفيّة والعقلانيّة. وبعد دراسة جهوزيّته على المعطيات السابقة، نبدأ تدريجيًّا بإعطاء الطالب صوتًا ومساحةً لتطبيق كلّ المهارات التي نحاول تمرينه عليها، مثل أخذ القرارات. وبالطبع علينا ألّا نهمل منحه مجالًا ليقوم بعمليّة البحث، ويختبر أنّ البحث عمليّة تعلّميّة مستمرّة يعيشها الجميع، بما فيهم الزميل والمعلّم، خصوصًا ضمن السياق الذي يفرضه المجال الرقميّ من انخراط المعلّم نفسه كمتعلّم لتصميم تجارب تعلّميّة؛ فتتّسع مساحة الاكتشاف ويتساوى المتعلّم والمعلّم في عمليّة التعلّم وصيرورتها، ما يعيد لها مصداقيّتها، وقدرتها على أن تمنح الطالب صوتًا حقيقيًّا قائمًا على المحبّة والصدق.

 

  • - أين كان مشروع "تمام" وأين صار اليوم؟ وإلى أين تريدون أن يسير؟

حين انطلق مشروع "تمام" كان هدفه الأساس إعدادَ المعلّم ليصبح باحثًا إجرائيًّا. والغاية من وراء ذلك استكشاف حلول منهجيّة قابلة للتطبيق، لا أبحاث نظريّة فقط. لاحقًا، أخذ المشروع منحًى إضافيًّا استجابةً للعوائق، يتمثّل بالتركيز على توظيف مهارات البحث الإجرائيّ ضمن اتّجاهين: تغيير الممارسات، وتطوير المدرسة. وهُنا كان دوري يتجلّى بشكلٍ رئيس ضمن إثارة قضايا القيادة التربويّة والهويّة المهنيّة والمهارات الجماعيّة للممارسين التربويين ومعالجتها. يؤدّي مشروع "تمام" هذا الدور التوسيعيّ لدور المعلّم، لإكسابه مهارات البحث الإجرائيّ، لئلّا يبتلع النظام التقليديّ المعلّم، ويقيّده أكثر، ذهابًا إلى عدم حصر العمل ضمن منطق التمكين على البحث، إنّما امتداده إلى بناء المهارات المُختلفة لترفد قدرة المعلّم على قيادة مشروع التطوير المستند إلى المدرسة.  

وانطلقنا في تجربتنا من مدارس تجريبيّة خاصّة في ثلاث دول، إلى مدارس حكوميّة، لتنويع السياقات والتجارب، ولتثبيت أرضيّة صلبة نقف عليها. ومن الجميل في مسيرة المشروع أنّه لم يطرح فكرته المسبقة للإصلاح التربويّ ودعا إلى تطبيقها، إنّما طرحها على الممارسين التربويين ودعاهم كشركاء الى تطبيق الفكرة عبر تجريبها وفحصها في سياقات مُختلفة. وخلال هذه التجارب واجهنا صعوبات وتوقّفنا للتأمّل والتفكير والبحث لحلّها، وقمنا ببناء برامج استجابة لهذه الصعوبات، على غرار برنامج الشراكة مع الأهل الذي خرج من صعوبة واجهتنا في المدارس الحكوميّة في لبنان. كلّ ذلك مع الفهم المسبق أنّنا لا نسعى فقط لإنجاح التجربة بعينها ضمن جدول زمنيّ معيّن، إنّما لتحقيق أثرٍ مستدامٍ في المدرسة.

 

ومنذ عامين، انتبهنا إلى التطوّر الذي لحق بالمشروع، ضمن مركّباته المُختلفة، استجابةً إلى متطلّبات المدارس وحاجاتها. وأشير هُنا إلى أنّ هذا التطوّر وتحقيق الأهداف جاءا كذلك نتيجةً لفهم مانحي المشروع طبيعة العمليّة التربويّة، ودخول المانح مع القائم على المشروع في نقاش وحوار مستمرّين لأقلمة خطّة المشروع، بما يتطلّب من حاجات تخرج من أرض الواقع. واليوم، ومن تجاربنا المُختلفة، بات لدينا خزين معرفيّ بما يَلزم المدرسة من خبرات ومهارات لتصبح مدرسة متجدّدة ذاتيًّا. أومن بأنّ اعتماد الكثير من المؤسّسات التربويّة على نموذج الاعتماد الأجنبيّ، خطوةٌ جيّدة في الوقت الحالي. ولكني أحلمُ بأن تكون هُناك نماذج من المدارس العربيّة تتخطّى تركيزها على لوجستيّات الاعتماد وغيرها، إلى قيامها بذاتها بوضع معايير للمدرسة، وتراجعها وتقيّمها كلّ فترة. وأتمنّى بأن تتبنّى المؤسّسة الرسميّة/ الحكومات نموذج المدرسة المجتمعيّة المتجدّدة ذاتيًّا، وتفتح المساحة والمجال لبناء قدرات المدرسة المؤسّساتية لقيادة عمليّة التطوير، لقناعتي بأنّ هذا أمرٌ داعم سيؤدي الى وضع برامج اعتماد توازي البرامج العالميّة، وتتفوّق عليها بتناغمها مع السياق العربيّ ومتطلّباته وأولويّاته.

أنا فخورة بأنّ مشروع "تمام" قد أصبح اليوم بمثابة مختبر حيّ، وهو ما أعتبره أمرًا نادرًا، كون أحد أهمّ العوائق في مجال البحث التربويّ هو توفّر مساحة تجريبيّة تطبيقيّة لهذه البحوث. وقد حقّق المشروع هذا الأمر بشكلٍ واقعيّ من خلال تجربته مع المدارس، فبات المجال أوسع أمام الأسئلة البحثيّة الجديدة، أو أيّ محاولات بحثيّة من شأنها تسريع تراكم المعرفة، وهذا بالطبع بفضل الشراكة والثقة مع المدارس.

لقد بات لدى المشروع اليوم إجابات مُختلفة مُعمّمة للاستفادة، يُمكن الاعتماد عليها كنقطة للانطلاق نحو الرؤية التجدّديّة، على غرار برنامج قيادة التطوير المستند إلى المدرسة الذي يسعى، من ضمن أهدافه المختلفة، إلى تحويل المعلّم باحثًا إجرائيًّا ومخطِّطًا لمشاريع تطويريّة وقادرًا على تقييمها. هذه المعرفة المستقاة من التجربة البحثيّة - التشاركية تُمثّل مدخلًا للقائمين على المشروع في حوارهم مع صانعي السياسات؛ إذ باتت مقاربة المشروع المُجرّبة والمطبّقة، مساحة للحوار حول الإصلاح التربويّ وأساسًا لمبادرة أكبر تقدم نموذجًا للإصلاح التربويّ تأخذ بعين الاعتبار دروس التجربة، ونجاحاتها، ومقاربتها المُختلفة.

 

  • - هُناك حضور نسائيّ كبير واضح في الحقل التربويّ، هل يتوازى هذا الحضور الكمّيّ مع حضور نوعيّ على مستوى صناعة القرارات مثلًا؟

أوّلًا، أحبّ الاحتفاء دائمًا بهذا الحضور النسائيّ الكبير في الحقل، بالانطلاق من قناعة أنّ للنساء قدرة أعلى على التحقيق والإنجاز في مجال التطوير التربويّ لعدة أسباب، أهمّها: أنّ النساء لا يستعجلن النواتج والظهور، ومعتادات على التعامل مع التعقيدات المُختلفة التي غالبًا ما تفرض عليهنّ بسبب غيابهنّ التاريخيّ عن مراكز أخذ القرارات، ما يجعلهنّ أكثر وعيًا لطبيعة تهميش المعلم، وبالتالي مستعدّات لقيادة عمليّة التغيير. ومن ناحية ثانية، يرتبط هذا الاستعداد بحجم التواجد النسائيّ بين المعلّمين، وبالتالي يصبح هذا التفوق العدديّ جاهزًا لرفع الصوت للتأثير في القرارات المُختلفة كخطوة أولى، تمهيدًا للوصول والتأثير في مركز أخذ القرار. من هُنا، أعتبر رسالة تمكين المعلّم في المنطقة العربيّة فرصةً ذهبيّة للمعلّمات المستعدّات لفاعليّة التغيير في عمليّة التعليم، وأيضًا لحمل مسؤوليّات قياديّة أكبر والمُضيّ قدمًا بها.

أمّا من الناحية العمليّة، لا أعتقد أنّ هذا الحضور الكبير منعكس على مستوى صناعة القرار؛ إذ ما زالت المرأة تناضل في المجالات المُختلفة ضمن القطاع التربويّ للحصول على مساحتها الطبيعيّة، ما يؤثّر في استعداديّة النساء. وبديهي أنّه من المنهك النضالُ ضمن المساحة الأساسيّة، ومن ثمّ النضال من أجل دفع المدرسة، ضمن المستويات المُختلفة، إلى التطوير والتقدّم.

وتجدر الإشارة في هذا السياق، إلى مؤشّرات إيجابيّة من خلال وجود المرأة العربيّة اليوم في مناصب عليا، على غرار وزيرات التربية في سلطنة عُمان وقطر وغيرهما. وكذلك الدور الإبداعيّ اللافت للنساء في الإدارة الوسطى، كمديرات المدارس، حيثُ يتجاور أداء دورهنّ مع التميُّز في توظيف كلّ المساحات من أجل التغيير والتطوير. ولا شكّ في أنّ هُناك تقدّمَا ملحوظًا في هذا التواجد، ولكنّه لم يصل إلى مرحلة التوازن بعد.

 

  • - بوضعٍ مثاليّ، كامتلاك السلطة والقدرات، ما سيكون مشروعك لتطوير التربية في العالم العربيّ؟

أنا مقتنعة بأهمّيّة عقد الشراكات والعمل المنهجيّ المُخطّط جيّدًا، وكذلك، بالاهتمام بآليّات التأسيس لعمليّة إصلاح تربويّ شامل؛ بمعنى تغيير في المنحى الفكريّ لاستراتيجيّات  الإصلاح، ومن ثمّ الاستثمار الأكبر بقدرات المعلّمين وتمكينهم وإعطائهم أمانًا وظيفيًّا، والعمل في سبيل اللامركزيّة باتّجاه بناء نظام حوكمة للمؤسّسة التربويّة كمنظّمة مهنيّة، وإعطاء صلاحيّة القرار للتربويّين، تأسيسًا لنسيج تربويّ قويّ ومتين، يهتمّ بالخصوصيّات الثقافيّة والاجتماعيّة، ويعطي المجال للسياقات المتنوّعة لتعكس شخصيّتها ومركّباتها.

وفي هذا، لا مناص من إعادة الثقة واحترام المكانة المهنيّة للتربويّين في كلّ مجالاتهم، ولا سيّما الخبراء والباحثين، كون إحدى إشكاليّات التعليم في العالم العربيّ تتمثّل بعدم الثقة بالخبرات العربيّة، والاعتماد فقط على التجارب الغربيّة. من هُنا، علينا الاحتفاء بخبرات البحّاثة والأكاديميّين العرب، وكذلك المعلّمات والمعلّمين العرب، وبناء الثقة والاستثمار بهذه الخبرات والتجارب.  أنا واثقة أنّه بالإمكان تحويل هذا التصور المثاليّ واقعًا بالصبر والمثابرة والعمل التشاركيّ.

 

  • - بصفتك تربويّة وأكاديميّة وعضو هيئة استشاريّة لمنهجيّات، كيف ترين تجربة منهجيّات كمجلّة تربويّة عربيّة قائمة على مُشاركة التجارب وإتاحة منصّة للتفاعل بين المعلّمين وجميع أطراف العمليّة التربويّة؟

رائعة. هذا هو اختصاري للتجربة، رائعة وضروريّة وأساسيّة. وأعتقد أنّها تمثّل حاليًّا أهمّ أداة للمُمارس التربويّ. نقاط قوّة منهجيّات محوريّة، منها أنّها من المعلّم للمعلّم، واحترامها للخبرة وللمعرفة، وحرصها على توفير موارد مُختلفة، وتشجيع المعلّمين والباحثين على كتابة موادّ موجّهة للمُمارس، ما يمثّل استراتيجيّة أساسيّة لبناء جسور بين عناصر العمليّة التعليميّة.

وما أفتخر به هو تراكم أرشيف منهجيّات المعرفيّ التربويّ الغنيّ، كمُنتج معرفيّ للمُمارس وبين يديه، ما ساهم بخلق الثقة بين المُجتمع التربويّ المهنيّ العربيّ ومنهجيّات. وأنوّه بنقطة أُخرى، هي حوار منهجيّات المُستمرّ مع مجتمع المعلّمين والتربويّين من خلال ندواتها، ومخاطبتهم ومجاورتهم وتدريبهم وعقد نقاشات معهم.

وما أعرفه وأقدّره عن منهجيّات، أنّها تسعى دائمًا لتقييم أثرها لدفع عجلة التحسين والتطوير لأدائها، بشكلٍ مبنيّ على البيانات والآراء المهنيّة، وحوارات حقيقيّة صادقة، وهذا بحدّ ذاته مؤشّر على نجاحها وتميّزها.