جميعنا نحمل في قلوبنا تلك الأمنية الدافئة: أن نرى أبناءنا يحقّقون ما لم نحقّقه، وأن يكبروا بثقة، ويشقّوا طريقهم نحو النجاح بإرادة صلبة وأحلام كبيرة. نأمل أن نراهم يزهرون، لا في أعين الآخرين وحسب، بل في أعين أنفسهم. لكن كيف يمكننا أن نكون عونًا حقيقيًّا في هذه الرحلة؟ هل يكمن الدعم في دفعهم نحو التفوّق الأكاديميّ بتوقّعات عالية ونتائج ملموسة؟ أم الأفضل أن نمنحهم المساحة الكافية لاكتشاف شغفهم الفريد، حتّى لو خرج هذا الشغف عن إطار النجاح التقليديّ؟
يحتلّ هذا السؤال مركز النقاش في التربية الحديثة، وهو ليس مجرّد مفاضلة بين نهجَين متعارضَين، بل دعوة للبحث عن توازن حكيم. فالتربية الفعّالة لا تتطلّب التضحية بأحد الجانبَين، بل تمزج بين التحفيز نحو الإنجاز، والاحتفاء بما يجعل الطفل متفرّدًا ومندفعًا من الداخل.
في سطور هذا المقال، سنغوص في كلا الاتّجاهَين، ونستكشف كيف يمكن لروح التفوّق وحيويّة الشغف أن يتكاملا لبناء شخصيّة متوازنة ومستقلّة، وقادرة على رسم مسارها الخاصّ نحو النجاح الحقيقيّ.
فوائد تشجيع الطفل على السعي نحو التفوّق
تشجيع الأطفال على السعي نحو التفوّق، سواء في الدراسة أو الرياضة أو الفنون أو أيّ مجال يبرعون فيه، ليس مجرّد دفع نحو النجاح، بل هو غرس لقيم راسخة تُشكّل جوهر شخصيّتهم. فالتفوّق لا يعني الكمال، بقدر ما يعني تعلّم الانضباط والتركيز والعمل الهادف. كثير من المبدعين والقادة ينسبون إنجازاتهم إلى من آمنوا بهم، ووضعوا لهم سقفًا طموحًا، ودفعوهم إلى تجاوز حدودهم المألوفة.
وهذه بعض أهمّ فوائد تشجيع الطفل على السعي نحو التفوّق:
- - بناء أخلاقيّات العمل والمثابرة: حين يُحفَّز الطفل على التميّز، يتعلّم منذ سنّ مبكّرة أنّ الإنجاز لا يأتي صدفة، بل هو ثمرة جهد وصبر. يتدرّب على مواجهة الصعوبات، وتنمو لديه القدرة على تجاوز العقبات بثبات، وهو ما يُكوّن شخصيّة مرنة، قادرة على المضيّ قدمًا على رغم التحدّيات.
- - فتح الأبواب نحو الفرص: التميّز غالبًا ما يخلق مسارات جديدة. فقد يفتح لطفلك أبواب منح دراسيّة، أو فرصًا في مسابقات محلّيّة وعالميّة، أو يمنحه موقعًا قياديًّا في فريق أو نشاط. مثل هذه الفرص لا تكتفي بتكريمه على جهده، بل توسّع آفاقه وتغني تجربته الشخصيّة.
- - تعزيز الثقة بالنفس: لا شيء يُشعل شرارة الثقة داخل الطفل مثل شعوره بأنّه قادر، وبأنّ جهده يُثمر، وأنّه يستطيع تحقيق ما يسعى له. هذا الإحساس بالقدرة يُشكّل درعًا داخليًّا يرافقه مدى الحياة، في وجه الشكوك والتحدّيات.
لكن، وبينما يحمل السعي نحو التفوّق فوائد كبيرة، لا بدّ من التحذير من الوجه الآخر للمبالغة فيه. فعندما يصبح الإنجاز المعيار الوحيد للتقدير والحبّ، قد يبدأ الطفل بربط قيمته الذاتيّة بما يحقّقه، لا بما هو عليه. حينها، قد يخشى الفشل، أو يتردّد في خوض تجارب جديدة خوفًا من ألّا يكون "جيّدًا بما يكفي". بل قد يُصاب بالقلق، أو يفقد الشغف بما كان يحبّه يومًا.
فوائد اتّباع الشغف في حياة الطفل
على الجانب الآخر من معادلة التربية، هناك من يؤمن بأنّ الأطفال يزدهرون حين يُمنحون الحرّيّة لاكتشاف عوالمهم الداخليّة، وأنّ الشغف، لا الضغط، هو ما يُشعل شرارة التعلّم الحقيقيّ. فحين ينبع الدافع من الداخل، يصبح الطفل أكثر حيويّة، وأكثر قدرة على التعلّم والنموّ من دون انتظار مكافأة أو تصفيق خارجيّ.
وهذه بعض أهمّ فوائد غرس الشغف في حياة الطفل:
- - تعزيز الدافعيّة والانخراط الحقيقيّ: عندما يسير الطفل خلف ما يُحبّ، لا يحتاج إلى من يدفعه أو يُذكّره. يصبح شغوفًا بالتعلّم من أجل المعرفة ذاتها، لا من أجل علامة أو جائزة. يطرح الأسئلة، ويغوص في التفاصيل، ويبحث، لا لأنّه مضطرّ، بل لأنّه مستمتع.
- - تشجيع الإبداع والابتكار: يُحرّر الشغف الفكر من القيود، ويفتح أبواب الخيال، ويدفع الطفل إلى التفكير بطرق غير تقليديّة. معه يبتكر الطفل ويجرّب، ويكتشف إمكانات لم يكن ليراها في بيئة قائمة على الأداء وحده.
- - تعزيز الصحّة النفسيّة والهويّة الشخصيّة: حين يجد الطفل ما يُلهب حماسه، يشعر بالانتماء وبوجود الهدف، ويتكوّن لديه تصوّر أعمق عن "من هو". يمنحه الشغف ملاذًا آمنًا يُخفّف عنه التوتّر، ويمنح ليومه معنى.
ومع ذلك، لا يكفي الشغف وحده لبناء مسار متين. فمن دون التوجيه، قد يتنقّل الطفل بين الاهتمامات من دون تركيز أو عمق، ما قد يُفقده فرصة تنمية مهارات أساسيّة تتطلّب التزامًا طويل الأمد، وصبرًا وجهدًا.
تحقيق التوازن بين السعي نحو التفوّق واتّباع الشغف
في الحقيقة، لا ينبغي أن نُجبر أنفسنا على الاختيار بين تشجيع التفوّق أو ترك مساحة للشغف، فالتربية الحكيمة تحتضن كلا الجانبَين. فكم من شخص ناجح وُلد إنجازه من تلاقي شغفه العميق بدعم منضبط من بيئته!
لا يقتصر دور الأهل على التوجيه، بل يتّسع ليشمل الاستماع والملاحظة والدعم، من دون فرض أو إملاء. نحن لا نبني نسخًا منّا، بل نُساعدهم في أن يصبحوا أفضل نسخة من أنفسهم.
كيف نحقّق هذا التوازن؟
- - راقب وأصغِ بعمق: انتبه إلى ما يجذب طفلك من دون توجيه، وإلى ما يكرّس له وقته بشغف، وما يُضيء عينيه. هذا هو خيط الشغف الأوّل، فتمسّك به.
- - صِغ الأهداف معه، لا بالنيابة عنه: إذا أبدى طفلك اهتمامًا بمجال معيّن، ساعده في تحويله إلى خطوات قابلة للتنفيذ. أهداف صغيرة تكبر مع الوقت، لتبني الثقة والمهارة في آنٍ واحد.
- - ركّز على الجهد لا على الكمال: علّمه أنّ القيمة في السعي لا في النتائج، وأنّ الخطأ ليس نهاية، بل خطوة على طريق التعلّم. هذا يُخفّف من الضغط، ويُعزّز لديه حبّ التحدّي.
- - وسّع آفاقه عن طريق تجارب متعدّدة: الطفل لا يدرك شغفه من أوّل لحظة. وفّر له فرصًا لتجربة أنشطة متنوّعة، من الرياضة إلى الفنّ، ومن القراءة إلى الاستكشاف. فالتجربة هي بوّابة الاكتشاف.
- - كُن أنت المثال الحيّ: "التعلّم بالملاحظة" جزء أساسيّ في نموّ الأطفال، خصوصًا في السنوات الأولى من عمره. إذا رؤوك تمارس شغفك، وتسعى وراء أهدافك، وتنهض من فشلك، سيتعلّمون منك أكثر ممّا قد تُعلّمهم بالكلمات.
- - ادعم، لكن لا تفرض: قدّم الموارد، وكُن حاضرًا للتشجيع، لكن من دون أن تتحكّم في اختياراته. أعطه مساحة ليكون مسؤولًا عن اهتماماته، وساعده ليحوّل هذا الحماس إلى طريق منتج.
أمثلة من الحياة الواقعيّة
- - طفل يحبّ الرسم، ويقضي وقته في رسم بعض الخربشات على الدفاتر. في البداية، هو يفعل ذلك فقط لأنّه يستمتع بذلك. لكن مع دعم بسيط وتشجيع من والديه، قد يأخذ دروسًا في الرسم، ويبدأ بتعلّم تقنيّات جديدة. مع مرور الوقت يتحسّن مستواه، ويكوّن مجموعة من أعماله الفنّيّة. هذا التطوّر يمكن أن يفتح أمامه مستقبلًا في التصميم أو الرسوم المتحرّكة.
- - طفل آخر يحبّ ألعاب الفيديو. قد يبدو للبعض أنّه يضيّع وقته، لكنّه مهتمّ فعلًا بتفاصيل الألعاب وطريقة عملها. أحد والديه يلاحظ هذا، ويعرّفه إلى البرمجة وتصميم الألعاب. من هنا يتحوّل حبّه للألعاب إلى مهارة عمليّة، وقد يدخل مستقبلًا في مجال تطوير الألعاب أو التكنولوجيا.
- - ومن زاوية أخرى، قد لا يكون هناك شغف واضح في البداية، بل طفل مثابر، يُنجز فروضه بإتقان، ويحرص على التعلّم، وينجح في بيئة أكاديميّة. دعم هذا النوع من الجهد يفتح له فرصًا كبيرة: منحًا دراسيّة، وإنجازات علميّة، وتقديرًا ذاتيًّا مبنيًّا على العمل والاجتهاد، بينما يواصل بهدوء استكشاف ما يُلهم قلبه.
كلّ هذه الأمثلة تُظهر لنا حقيقة بسيطة وعميقة: حين ندمج بين التشجيع والاستكشاف، نُطلق طاقات النموّ، ونُمهّد الطريق لاكتشاف الذات والنجاح الهادف.
***
إذًا، أيّهما أفضل: تشجيع طفلك على التفوّق، أم تركه يستكشف شغفه؟ الإجابة: كلاهما، عندما يتمّ ذلك بتوازن وتعاطف وإرادة.
السعي الحثيث نحو التميّز، إذا أُفرط فيه من دون اعتبار لميول الطفل، قد يؤدّي إلى التوتّر، أو حتّى إلى الرفض والانسحاب. وفي المقابل، ترك الطفل يتنقّل بين الاهتمامات بلا توجيه باسم الحرّيّة، قد يُفقده مهارات الانضباط والالتزام الضروريّة لأيّ إنجاز حقيقيّ.
النهج الأمثل أن نكون مرشدين ومُلهمين، نرعى اهتمامات أطفالنا الفريدة، ونُعلّمهم في الوقت نفسه قيمة الجهد والمثابرة والنموّ الشخصيّ. بهذا التوازن، نُساعد أبناءنا لا فقط في تحقيق "النجاح" كما يراه العالم، بل في بناء حياة متكاملة، يشعرون فيها بالرضا والتحفيز والمرونة، مهما كان المسار الذي يختارونه.
المراجع
https://www.educationnext.in/posts/how-to-help-kids-find-their-interests-and-develop-their-passion
https://www.investopedia.com/articles/pf/12/passion-success.asp