عودة "التاريخ"
عودة "التاريخ"
أمين إلياس | أستاذ مساعد في الجامعة اللبنانيّة والجامعة الأنطونيّة- لبنان

عودة "التاريخ"، أو لنقُل، عودة أهمّيّة تدريس التاريخ كمادّة ذات معنى ومتعة ووسيلة لتطوير مهارات التفكير العليا لدى الأجيال الجديدة.

 

من بناء الإنسان المتخصّص إلى بناء الإنسان المتكامل

شهدت المرحلة الفائتة صعود مدرسة تربويّة تقول بأهمّيّة تدريب الطالب وتعليمه الاختصاص الذي يريد فقط. وكلّ ما عدا ذلك اعتُبر حشوًا ومضيعة للوقت. لماذا تدريس الفلسفة والتاريخ والأدب والفن والموسيقى لمن يريد التخصّص في مجال الكهرباء أو الهندسة أو الطب أو التكنولوجيا على أنواعها؟ بدأ هذا التوجّه في الجامعات وامتدّ ليطال المدرسة. شيئًا فشيئًا بدأت الحصص الدراسيَّة الخاصَّة بالموادّ الإنسانيَّة تتناقص لمصلحة موادّ العلوم التطبيقيَّة، بما استتبعه من تهميش لعلامة الموادّ الإنسانيَّة ولأساتذتها ولمجال العمل والبحث فيها. ماذا كانت النتيجة؟ ظهر جيل جديد من التقنيّين المتفوّقين طبعًا، ولكن غير القادرين على الخروج من إطار تخصّصهم. صحيح أنّهم قادرون على التميُّز في مجالهم، ولكن هذا التميّز بقي قاصرًا ومحدودًا، ذلك أنّ التقنيّ تحوّل إلى ما يشبه الروبوت المجرّد من الكثير من القيم الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة. فماذا يفيدني أن يكون المرء مهندسًا مميّزًا، ولكنه قابل لأن يكون فاسدًا. وماذا ينفعني طبيب عالي التخصّص ولكنّه غير قادر على العمل ضمن فريق، أو عاجز عن التعاطف مع مريضه، أو غير مؤهّل لتقديم خدمات من ضمن تميّزه إلى محيطه الاجتماعيّ والإنسانيّ. وماذا يفيدني أن يكون تقنيًّا لامعًا ولكنّه يفتقر إلى الحدّ الأدنى من الثقافة العامّة، أو الثقافة المواطنيَّة، ما يجعله غير قادر على التفاعل مع هموم مجتمعه ووطنه، وتاليًا مع هموم الإنسانيَّة جمعاء. لقد وقعنا في فخّ التخصّص والثقافة الكمّيَّة، وتغاضينا عن ثقافة النوعيَّة، وها نحن ندفع الثمن في مجتمعاتنا وفي أسواق عملنا. المشكلة الأكبر، أنّ هذا النوع من المتخصّصين بات على شفير انتهاء مهمّته، خصوصًا مع تصاعد وتطوّر الذكاء الاصطناعي والروبوت القادر على القيام بالأعمال التخصّصيَّة بشكل أفضل بأشواط من الإنسان-المتخصّص. إذًا، نحن على مشارف مرحلة جديدة تتطلّب بروفايل (Profile) مختلفًا للطالب.

 

إذًا، يمكننا اليوم القول إنَّ هذه المدرسة القائمة على التركيز على التقنيّ والمتخصّص المجرّد من الثقافة العامَّة باتت من زمن يشارف على نهايته. وها هي الدراسات والتيّارات تعود للقول بأهمّيَّة موادّ التدريس الإنسانيَّة لبناء إنسان متكامل يوائم في شخصه ما بين التخصّص والتمايز والثقافة العامَّة ومهارات التفكير العليا من عمل جماعيّ، وقدرة على التعاطف، وتفكير نقديّ، ومهارة بحثيّة، وكفاية في الإصغاء والحوار، وقبول الآخر ضمن فكرة التنوّع، وشغف البحث عن الحقيقة، والعمل الدائم على تحقيق الذات من خلال التعاون مع الآخر. هذه المهارات كلّها لا يمكن للعلوم التطبيقيّة فقط أن تقدمها للطلّاب. فكانت العودة إلى العلوم الإنسانيّة من فلسفة وتاريخ وأدب وفنّ وموسيقى لمحاولة مصالحة الإنسان مع ذاته ومع بعده الاجتماعيّ، والمواطنيّ، والإنسانيّ. وقد بدأت هذه الثورة في عدد من الجامعات الأميركيّة، وهي في حالة توسّع مطّرد، إذ على طالب الطبّ أو الهندسة أو البرمجيّات أو غيره أن يضيف إلى مساره الأكاديميّ عددًا من موادّ الإنسانيّات، من تاريخ، وفلسفة، وفنّ، وموسيقى، وأخلاقيّات، وأدب، ودراسات ثقافيّة (Cultural Studies)، من أجل أن يستحصل على شهادته الجامعيّة. وقد ترافقت هذه الثورة مع ما يُعرف بالتعلّم الناشط (Active Learning)، لجعل تعليم هذه الموادّ وغيرها تعليمًا ممتعًا يساعد في إشراك الطالب في العمليَّة التعلّميَّة. ولا بدّ لهذا التوجّه من أن يصل إلى المدرسة، وتاليًا إلى المناهج التي ستجد نفسها مضطرّة إلى التكيّف مع هذه الثورة التعلّميّة والتربويّة.

 

التاريخ كمجال معرفيّ

سأكتفي في مقالتي هنا بمادّة التاريخ كمجال معرفيّ قادر على أن يكون قيمة مضافة في المسيرة التعليميَّة لكلّ طالب في لبنان، وفي العالم كلّه.

لطالما لُصقت بمادّة التاريخ في المدرسة، وحتّى في الجامعة، تُهمة "الحفظ غيبًا (أو الحفظ عن الغايب كما نقولها بلغتنا العاميَّة)". وقد أدى اختزال المادّة بهذا المستوى إلى تحويلها حملًا ثقيلًا على الطلّاب. لم يعد لهذه المادّة أيَّة متعة. والأخطر أنَّها باتت فاقدة لأيَّة أهمّيَّة على مستوى ثقافة الطالب. ارتبط التاريخ بالرواية الواحدة الرسميّة التي على الطالب أن يحفظها دون أيّ سؤال أو نقد أو نقاش. وفي الامتحان يُفرغ الطالب ما حفظه على الورق، لينسى بعد لحظات كلّ ما حفظه من هذه الرواية التاريخيَّة، ولكي لا يبقى له أي شيء من هذه المادة.

 

من هنا كانت ثورة بعض أساتذة التاريخ في لبنان عام 2013، إذ بادر عدد رائد منهم، لا يتعدّى عدد أصابع اليد الواحدة، بتأسيس الهيئة اللبنانيَّة للتاريخ رفضًا لحالة تدريس التاريخ ورغبة في جعل هذه المادّة مفيدة وممتعة في آن واحد. سرعان ما كبرت الهيئة وأصبحت مؤسّسة. وفي الوقت عينه تحوّلت إلى فوروم لأساتذة التاريخ الذين لبّوا دعوة الهيئة. بدأ التفكّر الجماعيّ بحالة تدريس هذه المادّة، وكيفيَّة تطويرها، وتطوير المناهج. كانت الهيئة واقعيَّة في مقاربتها الواقع. فهي تعلم أنّها لن تغيّر المناهج اليوم وحالًا. بل في بلد مثل لبنان حيث تكثر الخلافات وتتعقّد السياسات، بخاصَّة التربويّ منها، لا بدّ من العمل بوتيرة متمهّلة و"من تحت". لم تهرع الهيئة لمحاولة التأثير على السياسات العليا في البلاد، بل أخذت قرارًا بالانفتاح على أصحاب القرار، خصوصًا في وزارة التربية، والتعاون معهم. ولكنّها عمدت على العمل على خطَّين متوازيين: أوَّل يقوم على تدريب أعضاء الهيئة من أساتذة تاريخ وجعلهم مدرّبين ومطوّرين لطرق تعليم التاريخ، وتحويل التاريخ في لبنان من رواية واحدة رسميّة باهتة، إلى مجال معرفيّ يدفع بالطلّاب لتنمية مهارات التفكير العليا لديهم وتطويرها. من هنا، كان الانفتاح على عدد كبير من هيئات أساتذة التاريخ في أوروبّا وآسيا، لا سيّما المجتمعات التي عاشت تجارب مشابهة للتجربة اللبنانيَّة، بغية التعلّم من هذه التجارب. أمّا الخطّ الثاني، وبعد تهيئة الأساتذة المدرّبين، فيتمثّل بتدريب أساتذة التاريخ من كلّ المناطق والمدارس في لبنان على هذه الطرق الجديدة في تعليم التاريخ، وتاليًا تجهيز الأرضيَّة التي تسمح في حال طُرحت مسألة تعديل المناهج، وكتابة منهج تاريخ جديد، أن يكون الكادر التعليمي مهيَّئًا ومدرَّبًا على تخطيط هذا المنهج الجديد ورسمه وتنفيذه.

 

نحو طلّاب "مؤرخّون صغار"

لا يمكن طبعًا في مقالة مختصرة عرض كلّ ما تضطلع به الهيئة اللبنانيَّة للتاريخ، ولكن يبقى من المهمّ الإشارة إلى المحور الذي تقوم عليه عمليَّة تحضير هذه الأرضيَّة، أو البنية التحتيَّة، وهو مقاربة التاريخ من زاوية مفاهيميَّة.

سأشرح:

لم يعد من المنطقيّ في زمن الثورة الرقميَّة والتكنولوجيَّة والمعرفيَّة، أن تتركّز العمليَّة التعلّميَّة على حفظ المعلومات. إذ في أيامنا هذه يكفي أن نكبس زرًّا واحدًا على هاتفنا أو لوحتنا الإلكترونيّة أو كمبيوترنا حتى تنهال علينا المعلومات بكمّيَّات مهولة. التحدّي اليوم لم يعد كمّيَّة المعلومات المحفوظة في ذاكرتنا، بل كيفيَّة الوصول إلى هذه المعلومات الموجودة في الإنترنت، وفي الكتب والمقالات والمجلات وغيرها من الوسائط، والتعاطي معها، وتحليلها، والتأكّد من مصادرها ومن صحّتها، ومقاطعة المعلومات في ما بينها، ومقارنتها، وإعمال النقد فيها، وصولًا إلى بناء روايتنا التاريخيَّة الخاصَّة بنا. وعليه، لم تعُد مهمَّة مادّة التاريخ تلقين المعلومات التاريخيَّة للطلّاب، بل باتت مهمَّة تدريس التاريخ تقضي بتنمية كلّ هذه القدرات والمهارات والكفايات لدى الطالب حتى يستطيع البحث عن الحقيقة. هنا الفائدة وهنا المتعة. وتاليًا لم يعد همّنا تنشئة حافظ أو قارئ صغير، بل باتت رسالتنا أن ننشّئ باحثًا صغيرًا، ونقولها حتّى بكلّ جرأة "مؤرّخًا صغيرًا" لديه مهارات الباحث والمؤرّخ. هذا المؤرّخ لم يعد من واجبه أن يحفظ الرواية التاريخيَّة الواحدة الجاهزة، بل باتت مهمته أن يطّلع على روايات متعدّدة، فيقاربها من منظور "سببيّ"، أو من ناحية "دلالاتها التاريخيَّة"، أو من حيث إحداثها لـ"تغيّر أو استمراريّة" في مكان ما، وحقبة ما. نلاحظ هنا كيف دخلت المفاهيم إلى العمليَّة التعلّمية، بما يعنيه من إدخالٍ لمجالات أخرى إلى التاريخ، ليصبح هذا الأخير علمًا يشتمل على مجالات عدّة وتخصّصات عدّة يستعملها الطالب-المؤرّخ في بحثه عن الحقيقة. وخلال هذا البحث يكون هذا الطالب قد تعرّف إلى التنوّع في التاريخ، وقد مارس التحليل، والنقد، ومقاطعة المعلومات، والعمل الفريقيّ بما يتضمّنه من إصغاء ونقاش وتطوير الحجج التاريخيَّة والتعاطف والاحترام وغيرها من القيم الإنسانيَّة. كلّ هذا مغلَّف بقالب من المتعة المرتكزة على إشراك هذا الطالب-المؤرّخ في العمليَّة التعلّمية. فلا يكون مجرّد متلقّ بل فاعل في البحث عن المعلومة التاريخيَّة وفي التعامل معها. وإذا أضفنا إلى هذا كلّه استعمال التقنيَّات التكنولوجيَّة الحديثة، نكون قد حوّلنا عمليَّة تدريس التاريخ إلى مغامرة مُمتعة ومُفيدة تكون أساسيَّة في بناء شخصيَّة وبروفايل هذا الطالب ليكون فاعلًا في مجتمعه العائليّ والمواطنيّ والإنسانيّ والعالميّ.

 

نحن نؤدّي واجبنا في تهيئة الأرضيَّة، ويبقى على واضعي السياسات الكبرى أن يستفيدوا من هذه التجربة ويبنوا عليها من أجل تطوير ليس فقط تعليم التاريخ في لبنان، بل من أجل رسم خطّة تربويَّة تضع لبنان من جديد على خريطة الحضارة العالميَّة فاعلًا ومتفاعلًا مع محيطه، ومع العالم، بما يخدم قيم الحقّ والخير والجمال والحريَّة، وبما يسمح لكلّ فرد بتحقيق ذاته الإنسانيَّة.