تصويب التربية، تصحيح التعليم: عن غزّة
تصويب التربية، تصحيح التعليم: عن غزّة
2023/10/30

اليوم الرابع والعشرون لاستباحة الطائرات العسكريّة الإسرائيليّة سماء قطاع صغير خال من الدفاعات الجويّة، حيث يستمرّ الطيّارون في تمارينهم الحيّة، وتُنشر صور إنجازاتهم الشجاعة: أبراج سكنيّة، بيوت متهالكة، مستشفيات، دور عبادة، مدارس... ويخبرنا مسؤولوهم أنّ كلّ ذلك كان مراكز عسكريّة، وعلينا أن نصدّق، فزعماء العالم الغربيّ يصدّقون على ذلك، ويردّدون بببغائيّة الجملة التي حيّرت المنطق: إسرائيل (القوّة المحتلّة) لها الحقّ في الدفاع عن نفسها!

وخلال ممارسة إسرائيل الحقّ الممنوح لها من قادة العالم "الحرّ"، سقط حتّى الآن أكثر من 8000 شهيدة وشهيد (والرقم سيرتفع بقوّة بحسب وقت القراءة)، وما زال أكثر من ألف تحت الأنقاض، وفاق عدد الجرحى الثلاثين ألفًا، الكثير منهم مشاريع شهداء نظرًا للحصار والتضييق الخانقين على القطاع الصحّي والمستشفيات. ومن آلاف الشهداء قارب عدد الأطفال الـ 4000 طفل حتّى الآن، منهم في آخر إعلان لمتحدّث وزارة الصحّة الفلسطينيّة 2000 طالب، و70 كادرًا من الهيئة التعليميّة. وتشير بيانات منظّمة الأمم المتّحدة للطفولة (اليونيسف) إلى تضرّر أكثر من 200 مبنى مدرسيّ منذ 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر، أي ما يعادل 40% من إجمالي المباني المدرسيّة في قطاع غزّة، وقد تعرّض أربعون مبنى تقريبًا إلى أضرار بالغة، من غير أن نذكر أنّ 40% من سكّان غزّة فقدوا بيوتهم بشكل كامل.

التفكير في اليوم التالي للحرب مرعب، ولا نعرف متى سيكون مثل هذا اليوم نظرًا للرخصة المفتوحة للقتل، والممنوحة لدولة الاحتلال. لكن، مصير أطفال غزّة وهم يشكّلون نصف عدد السكّان تقريبًا، مخيف بعد توقّف العدوان: الكثير منهم فقدوا معيليهم وأفرادًا من أسرهم، لا بيوت يعودون إليها، لا مدارس... وإن وجدوا مدرسة فالكثير من المقاعد التي ستبقى فارغة، ستشكّل عبئًا نفسيًّا يوميّا يصعب تخطّيه، للهروب من ذاكرة الفقدان: في البيت أناس اختفى أثرهم، وفي الصفّ، وفي الملعب. ذاكرة الفقدان ستلاحقهم، جنبًا إلى جنب الأوضاع النفسيّة التي لن يكون بالمقدور معالجتها: تخيّل أسابيع طويلة من عدم اليقين إن كنت ستبقى حيّا إذا نمت الليلة أم لا. أيّام الرعب، وصوت الطائرات المغيرة، والقنابل الهائلة، كلّ ذلك يخبرنا عن حجم معاناة أخرى، رهيبة، ستبدأ مباشرة بعد توقف العدوان.

ومع ذلك، فغزّة تمارس دورها الذي اعتدناه، دور تصويب التربية وتصحيح التعليم في هذا الوطن المترامي. وإن كانت دروس غزّة مكتوبة بدماء أطفالها الذين لا يراهم العالم بمستواه الفوقيّ، فإنّها تحدّد لنا أفقًا ومعايير مستقبليّة يجب أن تتضمّنها مناهج التعليم وخططه.

 

ماذا تعلّمنا غزّة؟

الدرس الأوّل، العودة إلى المعاني الأصليّة للكلمات من دون تعوّدها، والانتباه لطرائق استعمالها: فمقاربة ما يجري الآن من غير استعمال الكلمات المفتاحيّة سيكون فخًّا أو ائتمارًا على الحقيقة. أيّ كلام على الأوضاع من غير استعمال كلمتي احتلال ومقاومة سيكون إسقاطًا للسياق، وإسقاط السياق يعني تزييف منحى أيّ إخبار حقيقيّ، وتغيير مؤدّاه المنطقي. وكذا الأمر حين تقول مأساة بدل جريمة، ووصف "قتل" الإسرائيليين و"موت" الفلسطينيين، وغير ذلك مما خبرناه أمام أعيننا وسنشهده من تغييب للفعل والفاعل، أو إبرازهما عند الحديث عن الآخر "الهمجيّ" بالغريزة، و"الحيوان البشريّ" بطبعه.

الدرس الثاني، الحاجة إلى بناء مفاهيم تنطلق من واقعنا، وعدم الاتّكال على آخر منتجات الدول "المتحضّرة" كمعطًى إنسانيّ عامّ: تنبني نظريّات العالم "المتحضّر" على شعوبه "المتحضّرة"، وهي معروضة للاستهلاك من الآخرين بحسب ما تؤمّن له دوام "تحضّره" (اقرأ تفوّقه). وهذا الأمر ينطلق من تعريف عنصريّ للتحضّر، ليس قائمًا وحسب على مستوى الدخل في المجتمع، والخدمات المقدّمة والرعاية الصحيّة والنظم التربويّة... بل على أنّ الآخر متحضّر بطبعه، وعلينا – نحن سمر الوجوه - أن نتنافس لنيل شيء من صفاته غير الموجودة فينا. وبالطبع الآخر المتحضّر المتفوّق ليس مدينًا لنا بشيء، فنحن بدو عرب، وقبائل إفريقيّة متوحّشة، وشعوب بعيون مشقوقة صغيرة، لا إسهامات لنا في بناء هذه الحضارة. تعلّمنا غزّة أن نستفيد من كلّ إسهام، شريطة أن ندغمه في بنائنا نظرتنا إلى أنفسنا، عنصرا متكيّفًا من العناصر التي نجمعها بانفتاح من بيئتنا وثقافتنا وحاجاتنا، من غير إحساس بعقد الدونيّة التي تُزرع فينا باستمرار، وبطرق جهنّميّة.

الدرس الأخير، وضوح الرؤيّة وفهم الواقع: تزدحم النقاشات حول صراع الحضارات، والفروقات بين دول ديمقراطيّة وغير ديمقراطيّة، وغير ذلك من النقاشات التي تعلو أحيانًا إلى مصاف المثل الأفلاطونيّة. لكنّ واقع الحال يقول لنا: بعد أكثر من عشرة آلاف سنة من الحضارة البشريّة، حالنا مزرٍ حقّا؛ لماذا تتكالب دول على دول أخرى؟ لمصالح ماديّة يكسبها محظوظون ببساطة. لا ضير في تدبير انقلاب على سلطة شعبيّة كي نحصل على النفط أو الليثيوم، وأن نشعل حروبًا لنمرّر أنبوب غاز، وأن نغضّ الطرف عن مجازر كي نؤمّن مناجم ذهب ونحاس، وأن نسحق غزّة لأنّها كسرت صورة عسكرينا - البلطجيّ المُهاب! مجموعة مصالح متشابكة تخلق أنظمة، وتوحي بالديمقراطيّة التي تواجه استبدادات. هل ستغيّر المسيرات الهائلة في شوارع العواصم الغربيّة من موقف قادتهم من مجزرة غزّة؟ حتّى الآن لا، ولا نظنّ مستقبلًا. غزّة تعلّمنا ألّا ننخدع بالشعارات والتمويهات، والأصل هو حقّ الناس في الاستفادة العادلة من مواردهم، وهذا حقّ ستُخلق ضدّه ألف تهمة وحجّة ليُسحق. وهي، في الوقت ذاته، تعلّمنا أنّ سحق المباني وتحويلها هباء لا يعني الانتصار، نحن نعرف أنّهم يقدرون على ذلك، لكنّهم لا يعلمون القوّة التي صدورنا، والتي تجعل صرختنا ب"لا" مدويّة تطغى على صراخ أمّهاتنا وبكاء آبائنا المكتوم.

 

غزّة تحرّرنا جميعًا، فمئات الآلاف من الناس في شوارع مدن العالم، والذين تتكشّف في وجوههم وصدورهم الحقائق وتُغسَل من الزيف الممنهج، سيكتشفون أنّهم في نصرتهم القطاع الباسل إنّما يحاججون ظلمًا واقعًا عليهم أنفسهم، بالقوّة أو بالفعل. يعرفونه الآن، أو سيعرفونه لاحقًا بفعل انزياح الغمامة عن العيون. وحينذاك، يمكن أن نأمل بعالم أقلّ ظلمًا، للمقهور فيه صوت وازن، وللناس القدرة على فرض إرادتهم على من انتخبوهم.

أيّ شيء إلّا الصمت، هذا ما نقوله في منهجيّات، المجلّة التربويّة العربيّة، والتي ترى أنّ أصل التربيّة والتعليم هو القيم، قيم الحقّ والعدل وإعلاء شأن الإنسان وحرّيته وتفكيره ومساواته. وهل من تعدّ على كلّ تلك القيم أبلغ ممّا نشهده اليوم؟