تريزوميك وكرسيّ متحرّك في المدرسة
تريزوميك وكرسيّ متحرّك في المدرسة
2023/05/14
إنعام الفقيه | معلّمة وناشطة تربويّة- لبنان

كرسيّ متحرّك عند باب الصفّ الثالث متوسّط، جعلني على تماس مع مصطلح "مدارس دامجة" في أوّل أيّام العام الدراسيّ، بعد أكثر من عامين من تلقّي تدريبٍ مستمرّ للتعليم الدامج. كنتُ معلّمة في مدرسة اعتُمدت مدرسةً دامجةً. والتعليم الدامج، وفقًا لوزارة التربية في لبنان، هو دمج ذوي الصعوبات التعلّميّة والاحتياجات الخاصّة في مؤسّسات التعليم؛ أي أنّنا سنُشاهد داخل الصفوف، بعد هذا التدريب، أطفالًا من ذوي الاحتياجات الخاصّة مع زملائهم.

 

أذكر كيف صحّحت لي أستاذتي الجامعيّة وصفًا استخدمته لتوصيف حالة متلازمة داون، ودعت إلى استخدام المصطلح العلميّ الدقيق للتعبير عن الحالة؛ متلازمة داون أو تريزوميك. شعرتُ وقتها بالخجل، وعادت بي الذاكرة إلى مقاعد الدراسة، حيث كان زميلنا في المدرسة يعاني من الصرع، وكان يصاب بنوبةٍ بين وقت وآخر، وكان ممنوعًا علينا أن نظهر حوفًا أو شفقة عليه، لأنّه يعاني فقط حالةً مرضيّة خاصّة، وبعد أن يهدأ سيعود إلى صفّه ومقعده.

وعندما طلبت إحدى المعلّمات رأيي في إعادة الطالب ذو الفقار إلى الصفّ الأوّل، رفضتُ ذلك تمامًا، لتأثير هذا النقل سلبيًّا في حالته النفسيّة. جاء الرفض من إيماني بأنّ الحلّ يكمن بوجود متخصّصين في المدرسة، وبتكييف المنهج ليتلاءم واحتياجاتهم، ودعم الأساتذة، وتزويدهم بطرائق وأدوات خاصّة للتعامل مع الطلّاب ذوي الاحتياجات الخاصّة، والأهل أيضًا عليهم أن يتعرّضوا لمثل هذي التدريبات.

 

أتساءل كلّ صباح بماذا تشعر زينب، طالبة في الصفّ الثاني، وهي تنتظر على كرسيها المتحرّك حتى ينتهي انصراف التلاميذ، ليأتي من يساعدها كي تغادر إلى الحافلة التي تقلّها من وإلى المدرسة. سنحت لي الفُرصة لتعليم زينب حصّة في الأسبوع، كانت تجلسُ أمامي في الصفّ الأماميّ، تكاد تنسى إذا لم ننتبه لها، سألتها: "هل أنتِ مرتاحة وسعيدة في المدرسة؟" أومأت برأسها إيجابًا، ولكنّ نظرة في عينيها كانت تقول كلامًا كثيرًا، هُنا أخبرتها أنّني سأقرّب لها اللوح الأبيض المُتحرّك، لتتشارك ورفاقها لعبة الكتابة بالأرقام الممغنطة على اللوح. ولكن مع الأسف مرّ الوقت، ولم تسمح الفرصة بتقريب اللوح، فوعدتها بذلك في اللقاء القادم.

في الحصّة الدراسيّة، كنّا نقوم بالتمرّن على أيّام الأسبوع، وكان على التلاميذ الانتهاء من كتابتها في دفاترهم حتى يقوم أحد التلاميذ بسحب يوم من الأيّام، وفق القرعة، وأن يقرأ اسم اليوم بصوتٍ مرتفع أمام زملائه. وخلال تجوالي على دفاتر التلاميذ، اكتشفت أن ذو الفقار يقوم برسم خطوط متعرّجة متّصلة على كامل الصفحة، فقمت بكتابة أوّل سطرٍ له، وكتبت بقيّة الأسطر بطريقة التنقيط، فاستعادَ ثقته بنفسه. وكان يمكن تصنيف ذو الفقار بين الطلّاب ذوي الصعوبات التعلّميّة، ويُتابَع من خلال فريق التدخّل في المدارس الدامجة، لكن، وللأسف، مدرستنا غير مصنّفة من بين المدارس الدامجة، ومعظم معلّميها لم يتلقّوا تدريبًا كافيًا للتعامل مع ذو الفقار وأقرانه من ذوي الصعوبات التعلّميّة.

أمّا محمّد فيعاني عسرًا في القراءة والكتابة، وكان لا بدّ من تقنين مهامه الدراسيّة، فنعمل حتّى نتأكّد من امتلاكه مهارة أو معلومة محدّدة، لننتقل إلى المهمة التالية. وكان ذلك بناءً على طلبه، إذ كان يُقدّرُ قدراته الكتابيّة.

هذا الأمر جعلني أستذكر طريقة تعامل الأهل مع أولادهم الذين يعانون احتياجات تربويّة خاصّة. فبينما حضرت إحدى الأمّهات إلى مكتب إحدى رئيسات دوائر التربية، تشكو إليها تعامل المعلّمات مع ابنها الذي يعاني احتياجات خاصّة، واختصرت الموضوع بأنّه إذا ما طلبت المعلّمة من رفاقه استذكار ثلاثة أسطر، فلتختصرها له بسطر واحد. بينما والدة ذو الفقار، جاءت إلى المدرسة وطلبت أن نأخذ بعين الاعتبار أنّه محدود ومنعزل، ويتعرّض للتنمّر من أولاد الحيّ، وهي لا تنتظر له مستقبلًا زاهرًا، وهي تكتفي بأن "يفكّ الحرف" بحسب تعبيرها. وهذا يُشير بوضوح إلى أنّ الإعداد والتدريب على الدمج يجب أن يطال أهالي الطلّاب ذوي الاحتياجات الخاصّة والتعلّميّة الخاصّة.

 

ومن هنا، يمكن تلخيص التحدّيات التي تواجه تعليم الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصّة، بتجهيز المدارس لاستقبال هؤلاء الأطفال، من خلال ممرّات ومصاعد وألواح، ومن ثمّ إعداد معلّمين، وتأمين الدعم الكامل لهم لتنفيذ برامج الدمج. وفي إطار أوسع، على هذه البرامج، إلى جانب الدعم النفسيّ والاجتماعيّ، أن تتقن التعامل مع أهالي الطلّاب.