"المنظومات التربويّة العربيّة والتحدّي المعرفيّ- مداخل للنقد والاستشراف"
"المنظومات التربويّة العربيّة والتحدّي المعرفيّ- مداخل للنقد والاستشراف"
زكرياء عريف | باحث دكتوراه بجامعة مولاي إسماعيل، مكناس-المغرب

محتوى الكتاب

يُقدِّم كتاب "المنظومات التربويّة العربيّة والتحدّي المعرفيّ- مداخل للنقد والاستشراف" (الطبعة الثانية- 2017)، للباحث في سوسيولوجيا التربية رشيد جرموني، رؤية تحليليّة ونقديّة واستشرافيّة لواقع المنظومات التربويّة العربيّة.

اخترنا هذا الكتاب لتقديم عرض مقتضب لمحتوياته، بالنظر إلى مجموعة من الاعتبارات، نذكر منها: 

  • - مركزيّة الحقل التربويّ في التحوّل المعرفيّ والإصلاح التنمويّ الذي تنشده أقطارنا العربيّة. 
  • - الرؤية التكامليّة التي يقترحها الكتاب في مقاربته للمنظومات التربويّة، بعيدًا عن منطق الاختزال والتجزيء السائد في العديد من الدراسات التربويّة. 
  • - المقاربة المنهجيّة المعتمدة في الكتاب الجامعة بين التشخيص والنقد والاستشراف، وبين حقلين في علم الاجتماع، هما: علم اجتماع التربية وعلم اجتماع المناهج. فضلًا عن اعتماد الكاتب على مجموعة من التقارير الميدانيّة الدوليّة والعربيّة، مثل تقارير البنك الدوليّ ومنظّمة الشفافيّة العالميّة وتقرير المعرفة العربيّ.
  • - ينطلق الكاتب من فرضيّة مركزيّة، محاولًا إثباتها في متن كتابه، تتمثّل في "أنّ فشل منظومات التربية والتكوين في المنطقة، ليس مردّه إلى ضعف الإمكانيّات الماليّة واللوجستيّة والموارد البشريّة اللازمة، بقدر ما يعود إلى غياب رؤية تنمويّة واضحة المعالم والآفاق". انطلاقًا من ذلك، نجد صاحب الكتاب يحاول الابتعاد عن التشخيص الاختزاليّ لأزمة المنظومات التربويّة العربيّة إلى النقد الجذريّ لها.

 

جاء الكتاب في خمسة فصول؛ في الفصل الأوّل "في تشخيص بعض مظاهر أزمة المنظومات التربويّة العربيّة، بين النزعة الاختزاليّة والرؤية النقديّة"، يكشف المؤلِّف فيه عن الطبيعة المركَّبة للأزمة التربويّة في الوطن العربيّ، والتي تتحكَّم في إنتاجها طبيعة الاختيارات التنمويّة والتوجّهات السياسيّة الكبرى، ولا يمكن اختزال أسبابها في عوامل جزئيّة. ذكر الباحث عددًا من مظاهر هذه الأزمة البنيويّة، مسترشدًا بأرقام ومؤشِّرات إحصائيّة. منها: الفشل في تعميم التمدرس في المستويات كافّة، وضعف المعارف الأساسيّة لدى الطلّاب، وضعف الدعم التربويّ رغم ارتفاع الميزانيّات المرصودة للتعليم في البلدان العربيّة، وعدم تكافؤ الفرص في التعليم، فضلًا عن التصنيف المتدنّي للجامعات العربيّة دوليًّا، بالإضافة إلى ضعف الأداء التربويّ للمعلّمين.

 

لكن، لا يمكن فهم هذه المظاهر، بحسب وجهة نظر المؤلِّف، من دون الرجوع إلى العامل السوسيو- سياسيّ المتعلِّق بطبيعة الاختيارات التنمويّة الاستراتيجيّة التي تتحكَّم بنتائج المنظومة التعليميّة ومخرجاتها؛ والقائمة على تغليب معظم المنظومات التربويّة العربيّة منطق الكم (تضخيم أرقام النجاح بغرض الإفادة من المنح والقروض) على منطق الكيف، أي الجودة في المخرجات.

 

يقودنا ذلك إلى التساؤل عن طبيعة المناهج الدراسيّة المعتمدة في المدارس العربيّة؟ وهو ما يجيب عنه الكاتب في الفصل الثاني: "في سوسيولوجيا المناهج- وقفة نظريّة وتشخيصيّة مع المناهج الدراسيّة في المنظومات التربويّة العربيّة". تبرز نقطتان أساسيّتان بصدد محتوى المناهج العربيّة، أوّلهما: غياب التفكير النقديّ والإبداع في المناهج التربويّة العربيّة؛ إذ إنّ الغلبة تكون لمنطق الحفظ والتلقين، بدل تحفيز الطلّاب على الإبداع والتفكير النقديّ. وثانيهما: منهجيّة تدريس الدين في الوطن العربيّ. في هذا الإطار، درس المؤلِّف بعض المقرّرات الدراسيّة في بلدين عربيّين (السعوديّة والمغرب)، معتبرًا أنّ إشكاليّة تدريس الدين في المدرسة العربيّة أهمّ الإشكاليّات المزمنة التي تؤثِّر في المخرجات القيميّة والثقافيّة، ليس في المنظومة التربويّة فحسب، بل والتنمويّة عامّة، مقدّمًا أمثلة من المناهج تؤدّي إلى تغذية التطرّف وتبتعد عن الحسّ النقديّ في بناء العقيدة بحسب وجهة نظر المؤلّف.

 

أمّا في الفصل الثالث، فيتوقّف الباحث عند "تجليّات ومستتبّعات الأزمة التربويّة في النسيج المجتمعيّ والمعرفيّ والقيميّ". وفي صلب ذلك، التحوّلات القيميّة التي يشهدها السياق الراهن وتأثيراته في المدرسة والجامعة العربيّة، حيث رصد الباحث تراجع دور المؤسّسات التعليميّة في إنتاج القيم المجتمعيّة وإعادة إنتاجها، منذرًا بأزمة غياب المرجعيّات، ومؤكِّدًا فكرته برصده شيوع مظاهر العنف في الوسطين المدرسيّ والجامعيّ، ووجود حالة من الإحباط السيكولوجيّ المدمِّر، والذي أدّى إلى تعاطي المخدرات والكحول والتدخين. كما يشير الفصل إلى "التصحّر الفكريّ" الذي يطبع واقع البحث العلميّ، والذي يتجلّى في: غياب الجماعة العلميّة، وتهميش الباحثين، وعدم إشراكهم في السياسات العموميّة. يرجع الباحث سبب هذا التصحّر المعرفيّ إلى إجهاض المشروع التنمويّ والمراهنة على المشاريع الأجنبيّة من دون وعي نقديّ. 

 

وفي الفصل الرابع: "في رصد بعض العوامل والأسباب المؤدّية إلى استمرار تأزّم المنظومات التربويّة العربيّة"، يحلّل الكتاب أسباب هذه الوضعيّة المتردّية، والتي تتوزّع إلى ثلاثة مستويات؛ تبرز في مقدّمتها العوامل السوسيو- سياسيّة، باعتبارها المدخل الأساس لنجاح العمليّة التنمويّة، وفي قلبها المجال التعليميّ-التربويّ، إذ إنّ إحدى الأسباب الرئيسة للفشل التربويّ سياساتُ الدول في هذا المجال، في ظلّ نسق التسلّط والاستبداد المهيمِن على أغلب البلدان العربيّة، وغياب مناخ الحرّيّات الأكاديميّة وهيمنة النماذج التربويّة الغربيّة. ثاني هذه العوامل هي العوامل السوسيو- ثقافيّة المرتبطة أساسًا بالتمثّلات السلبيّة التي تكوّنت لدى فئات المجتمع ووسائل الإعلام تجاه المدرسة العموميّة. وتأتي أخيرًا العوامل السوسيو- تنمويّة المتعلِّقة بنظرتنا إلى التنمية، أكانت أنموذجًا مستوردًا أم إبداعًا واجتهادًا مجتمعيًّا ينطلق من الذات ويعود إليها؛ فيقدّم الفصل نقدًا لطبيعة تصوّراتنا للتنمية، والتي اختُزِلت في ما هو تقنيّ- إجرائيّ، مبتعدة عن مفهوم التنمية الشامل، بما في ذلك تنمية التعليم والنهوض بالبحث العلميّ المنبثقين من رؤية فلسفيّة وتقاليد علميّة ووطنيّة تُشجِّع على البحث الأساسيّ النظريّ. 

 

في النهاية، يقترح رشيد جرموني في الفصل الخامس بعض "مداخل الإصلاح التربويّ" التي تتجاوز التحدّيات الآنيّة وتستشرف الرهانات المستقبليّة. وهي، أوّلًا، المدخل القيميّ والفكريّ والفلسفيّ، أي هي الإطار المرجعيّ أو النموذج المعرفيّ الذي ينطلق منه الإصلاح التربويّ، والذي ينبغي أن يكون أصيلًا ومتجدِّدًا في الآن نفسه، من خلال الاجتهاد في إبداع صيغة توافقيّة بين القيم الكونيّة والقيم الدينيّة الإسلاميّة. هذا ما أسماه بـ"القيم التثويريّة التي تؤهِّل المدرسة والمجتمع". يأتي، ثانيًا، المدخل الاقتصاديّ والسياسيّ، بربط التربية والتكوين بالاقتصاد المنتِج وتوطين المعرفة، بدل استيرادها استيرادًا جاهزًا. ويمثّل المدخل البيداغوجيّ ثالث هذه المداخل، والذي يكون باجتهاد خبراء التربية في إبداع نموذج تربويّ أصيل ومواكب لروح العصر، وتأسيس مراكز البحث والتفكير التي تهتمّ بإعداد الأبحاث والدراسات المقارنة، وتجديد العدّة البيداغوجيّة. رابعًا، المدخل التنظيميّ والإداريّ من خلال صياغة قوانين مرنة ومواكبة التحوّلات. ويعدّ المدخل السوسيو- اجتماعيّ المدخل الأخير، والذي يتمّ بضمان تكافؤ الفرص، وتعزيز دور المدرسة في الارتقاء الاجتماعيّ.