"الرسوم المتحرّكة" حلقة وسطى بين أدب القصّة وإبداع الطفل
"الرسوم المتحرّكة" حلقة وسطى بين أدب القصّة وإبداع الطفل
2025/08/06
علاء الدين قسّول | أستاذ التعليم الثانويّ لمادّة اللغة العربيّة وآدابها - الجزائر

عندما كنّا صغارًا، وفي كلّ مرّة يفرد فيها الأدب - في تجلّياته القصصيّة - جناحيه فوق حواسنا، نلمح مخيّلاتنا تتظلّل تحته، لتنبثق عنها حيوات أخرى نعيشها في هذه القصّة أو تلك. تتفجّر داخلها الأحداث، بمحاذاة وفدٍ حاضرٍ من الطبيعة، استحضرنا تشكيله برؤى التخيّل. ويصدر منّا بثّ عاطفيٍّ يرصد حبّنا لهذه الشخصيّة، واشمئزازنا من تلك. فلم يكن الأدب مكتوبًا أو مسموعًا من أفواه الجدّات والأمّهات مجرّدَ تسلية لنا، بل فعلًا قرائيًّا جادًا من دون أن ندري، تتكاتف فيه الجهود من أجل الحصول على المتعة وجودة التذوّق.

ولربّما كنّا نصطدم ببعض من هذه القصص تُحوَّل إلى عمل تلفزيونيّ في ثوب "رسوم متحرّكة"، بعد أن تعرّفنا إليها بادئ الأمر في كتب الأدب أو سرد الأمّهات. مثل: فُلّة والأقزام السبعة، علاء الدين والمصباح السحريّ، سندريلا، علي بابا واللصوص الأربعون، رحلة السّندباد، إيميلي..." فتلتقط أعيننا وأسماعنا تشكُّلًا جديدًا للشخصيّات وانفعالاتها والطبيعة وتجلّياتها. ممّا يستدعي "مقارنة ضمنيّة لا إراديَّة بين ما خزّنّاه في إدراكنا السّابق في الحكاية المكتوبة أو المسموعة، وما التقطناه من شريط "الرسوم المتحرّكة" المعروض عبر التلفزيون أو غيره من الوسائل البصريّة السمعيّة المُتاحة. فيتعمّق أثر هذه القصص فينا، بعد أن امتزج المعروض أمام أعيننا المادّيّة بالمعروض أمام أعيننا الخياليّة. هو الأثر نفسه الذي يمدّنا في ما بعد بقدرة إبداعيّة على إعادة بثّ القصّة للمرّة الثالثة على نسقٍ قصصيّ جديد خاصّ بنا، بمعيّة العقل البشريّ القادر على دمج القنوات الإدراكيّة الموحدّة في منبعها وموصلها، المختلفة في مسارِها.

وللوصول إلى هذه المحطّة الإبداعيّة الأخيرة، لا بُدّ من تتبّع المسار الصّحيح، المتزوّد صاحبه الطفل من ثلاث محطّات كُبرى:

أوّلًا، التشبّع بالطبيعة وانكباب الطفل عليها متلمّسًا إيّاها، من دون واسطة تلقينيّة أو خياليّة. فمن الضروريّ أن يتورّط الطفل بادئًا في لغز الطبيعة، والبحث عن أسرار تشكّلاتها وتنوّعها، فيكون الطّفل -بهذا الفعل- بمثابة "آدم" على وجه الأرض، وتكون الطبيعة بمثابة أمّه التي تُرضعه ألوانَها وتُبادله انفعالاتها المبرّرة وغير المبرّرة، فيحصل الارتباط الوثيق بها.

ثانيًا، نعرض القصّة على الطفل مُشافهة ثم كتابة، حتّى نوازي بذلك استشعار قدرته السمعيّة ثمّ البصريّة عن طريق التزوّد اللغويّ، وهذا كفيل بتحفيز مخيّلته التي ستصنع عالمًا قصصيًّا خاصًّا به، يستحضر فيه جوانب القصّة، مكانًا وزمانًا وتطوّرًا لأحداثها، بعد أن صقله بموفور الطبيعة التي تعرّف إليها سابقًا وأقام معها رباطًا وثيقًا، ثمّ استثمرها أثناء سماع القصّة أو قراءتها، فمزجهما معًا (الطبيعة والقصّة)، وبذا تكون الطبيعة بمثابة الألوان التي يصبُّها الطفل في هيكل القصّة.

ثالثًا، نعرض على الطفل حلقة الرسوم المتحركة، التي جسّدت نفَس القصّة التي سمعها أو قرأها، باللغة والزمان والمكان القصصيّين بعينها. وكذلك ترتيب الأحداث، بُغية تقديم تصوّرٍ جديدٍ لم يكن ضمن حسابات مخيّلته، فتحدث في نفسه عاصفة من الذهول والفضول، كونه لم يُسجّل في مخيّلته انطباعاتٍ مشهديّة مماثلة لمشاهد "الرسوم المتحركة". الأمرُ الّذي يحفّزه على المقارنة لا إراديًّا بين هذي وتلك، وحسبُكَ من المقارنة الخروج بِجُملة من الاستنتاجات التي من شأنها كسر أفق انتظاره وتزويده بإدراك جديد للقصّة ذاتها، فتتوسَّع مشاربه.

رابعًا، تحفيز الطفل على إعادة إنتاج القصّة ذاتها بحُرِّ إبداعه، وهي المرحلة التي يُعلّل فيها ذُهوله وفضوله، ويُوقّع فيها نتاج مقارنته بين السّماع والقراءة/ والمشاهدة، في عربة إبداعيّة جديدة تجرُّها أمّه الطبيعة، وترسم مسارها المخيّلة، ويدفعها الإدراك. ليُصبِح الطفل المُبدع في هذه المرحلة ماءً له خصوصيّته الإدراكيّة والإبداعيّة، يكشف عن هذه الخصوصيّة في حركيّته، انطلاقًا من تجذّر الطبيعة مرورًا بساق السماع والقراءة، وصولًا إلى خُضرة "الرسوم المتحرّكة" التي ستفجِّرُ أخيرًا ثمرة الإبداع عنده.