حين طرحنا ملفّ العدد الحادي والعشرين: "مصادر التعلّم المدرسيّ: أما زال الكتاب المدرسيّ أساسًا؟" كنّا نطمح فيه إلى أن تقدّم التربويّات والتربويّون العرب نماذج تخطّيهم الكتاب المدرسيّ، وذلك في معرض نقل متعلّميهم من مرحلة التعليم إلى التعلّم. وكنّا نعرف أنّ بعضهم سيتناول هذا الأمر التطبيقيّ بمناقشة موضوع الكتاب المدرسيّ متجاوزًا كونه أداة، وصولًا إلى دراسته وسيلةً تتخطّى الموضوع التعليميّ المباشر.
ولم تخب توقّعاتنا، فانهالت علينا مشاركات زملائنا، تبحث في الكتاب المدرسيّ أداةً للتعلّم، وتطرح نماذج تطعيمه بمصادر أخرى، ولا سيّما المصادر الرقميّة الجديدة التي تشي بانقلاب في سيرورة التعليم. كانت المقالات المشاركة جميلة في عرض تجاربها في تجاوز الكتاب المدرسيّ، خدمةً لطموحات إلى تعليم أكثر قربًا من الواقع، وأكثر رغبة في "عصرنة" التعليم بما لا تتيحه الكتب الثابتة، ولا سيّما في عصر يشهد تغيّرات شبه يوميّة تحتاج إلى مواكبة دائمة.
لكنّ الأمر اللافت في المقالات، أنّ هناك شبه إجماع على بقاء الكتاب المدرسيّ، لأسباب عديدة، أهّمها أنّه كان مَعين المعلّمين والمتعلّمين الفقراء واللاجئين والممنوعين من سُبل الحياة الطبيعيّة، والذين لن تُتاح لهم "رفاهيّة" المكتبات والاتّصال الرقميّ. شكّل الكتاب لهؤلاء متنفّس الحياة لديمومة البقاء على ضفاف التعلّم. ولنا في ناسنا الكُثر الذين عانوا ويلات الحرب والعدوان واللجوء والفقر خير دليل.
من ناحية أخرى، ناقشت بعض المقالات الكتابَ المدرسيّ مفهومًا، ووظيفةً تتخطّى الدور التعليميّ المباشر. ويمكن التعبير عن هذا التوجّه بالآتي: تسقط الأنظمة السياسيّة للدول لأسباب مختلفة، فيكون هنالك نظام بائد ونظام حاليّ. وتُلصق بالأوّل الويلات، ويعِد الثاني بالخيرات. لكن ما يهمّنا، هو أنّ المشترك بين كلّ نظام "حاليّ" - ومع أولى خطوات استتباب وضعه وفرض سلطته - أنّ المجال الأوّل الذي يتحرّك فيه هو تغيير الكتب المدرسيّة! حتّى ليُخال للمراقب أنّ الكتب المدرسيّة كانت من عمدان النظام، ووجب نسفها لتأكيد سقوطه بلا رجعة.
في هذه القراءة للكتاب المدرسيّ، تظهر وظيفة أخرى له: إعادة إنتاج مقولات السلطة، بغضّ النظر عن صوابها ومتانتها. وفي إعادة الإنتاج هذه، تُقولَب القيم وتُوجّه نحو مسارات فكريّة محدّدة، تخلق في محصّلتها "المواطن الصالح"، لكن في عُرف هذا النظام لا ذاك. وهنا أيضًا تظهر المعضلة الحديثة بانتشار الكتب المدرسيّة الغربيّة في المدارس، ولا سيّما كتب الأدب والموادّ الاجتماعيّة المختلفة، والتي تغرف من مَعين قيم وأفكار و"حقائق" يُعرّض إليها أبناؤنا، ولن يكون حاصنهم منها إلّا المعلّم الواعي.
في القراءتين، كان الكتاب المدرسيّ ضرورة
كان ضرورةً لوظيفته العلميّة، فهو يعرض الحقائق العلميّة لمن ليس عنده إلى المصادر الرقميّة سبيلًا. لكنّ هذا يستدعيّ المرونة والتطوّر الدائمين، بحيث يُنقّح الكتاب سنويًّا لضمان مواكبته التغيّرات، وتتغيّر مصادره وأساليبه وإحالاته الخارجيّة، بما يضمن حدًّا أدنى من المعرفة لمن يكتفي به، وآفاقًا أوسع لمن يستخدمه منطلقًا إلى التعلّم، وثبتًا لحقائق تُراجع كلّ حين.
والكتاب المدرسيّ ضرورةٌ لوظيفته في الحفاظ على الذات والهويّة والقيم الحسنة والقابلة للمراجعة. هذه الضرورة مشروطة بتخطّي واضعي الكتاب مصالح ضيّقة محدودة تُنسَف مع كلّ تغيير، وبالتركيز على الخيط الاجتماعيّ الناظم في مجتمعاتنا العربيّة، والتي تشمل: فضائل المحبّة للعائلة؛ ومساعدة المحتاج؛ ونبل الصدق؛ ونشوة الكرم؛ ومهابة الوقوف بوجه الظلم؛ ومتعة التعدّد والانفتاح من غير صلف... وغير ذلك ممّا يشكّل قاسمًا مشتركًا يمكن أن نسمّيه عناصر حضارة عربيّة مشتركة، تحتفل بهويّتها التي تحتمل التنوّع من غير غصب أو قهر.
تمرّد المعلّمون على الكتاب المدرسيّ منذ البدايات، وطوّروا معارفه بوسائلهم المتاحة يومذاك: بمجلّة أو كتاب؛ برحلة ميدانيّة؛ بعمل مُشترك مع غير موادّ... لكنّهم تركوه أساسًا للانطلاق. وفي عدد منهجيّات الضخم هذا، يمكن أن تقرؤوا تجارب وتأمّلات ممتازة، قد تغيّر الكثير في ممارساتكم ورؤاكم.