العزلة الاجتماعيّة عند الأطفال: متى تصبح مُقلقة؟
العزلة الاجتماعيّة عند الأطفال: متى تصبح مُقلقة؟

الأطفال بذور إنسانيّة تنمو بالحبّ والتواصل، فهم منذ أولى خطواتهم في الحياة يبحثون بفطرتهم عن الروابط الإنسانيّة؛ بالضحكات البريئة، وفرحة المشاركة، وحواراتهم الصغيرة. هذه التفاعلات ليست مجرّد وسيلة يستخدمونها لتكوين الصداقات، بل اللبنات الأولى لبناء شخصيّة متوازنة، تكتسب ذكاء المشاعر وبلاغة الكلمات والثقة بالنفس. 

لكنّ عالم الطفولة يزخر بالتنوّع، إذ يختلف الأطفال في طرق تعبيرهم عن أنفسهم؛ فبعضهم يفضّل مراقبة الحياة من زاوية هادئة، أو يجد متعته في العزلة. وغالبًا ما يكون هذا الخجل مجرّد ظاهرة عابرة، وسحابة صيف سرعان ما تتبدّد. لكن أحيانًا، قد تُخفي هذه العزلة وراءها مشكلات نفسيّة تحتاج إلى العناية والعلاج. 

تسبر هذه المقالة أغوار العزلة الاجتماعيّة عند الأطفال، وترسم الحدّ الفاصل بين الخجل الطبيعيّ والانطواء المُقلق، وترسم خارطة طريق للوالدين في إدراك هذه المشكلة ودعم أطفالهم.  

 

تعريف العزلة الاجتماعيّة عند الأطفال 

يمكن تعريف العزلة الاجتماعيّة عند الأطفال بأنّها نمط مستمرّ من الانسحاب من التفاعل الاجتماعيّ، ومحدوديّة في علاقات الأقران، وقلّة المشاركة في الأنشطة الجماعيّة. وهنا، من المهمّ التمييز بين العزلة الاجتماعيّة وبين العزلة المؤقّتة، والتي قد تُشكّل جزءًا صحّيًّا من شخصيّة الطفل. فبعض الأطفال يستمتعون بقضاء الوقت بمفردهم، خصوصًا بعد فترات الدراسة أو التحفيز المفرط، وقد يكون بعضهم انطوائيًّا بطبيعته، لذا يجد متعة في الهدوء بدلًا من الضوضاء. وقد يمرّ أطفال بفترات قصيرة من الانسحاب بسبب تغيّرات في الحياة؛ مثل الانتقال إلى منزل جديد، أو تغيير المدرسة، أو معاناة مشكلات داخل الأسرة.  

وببساطة نقول: عندما تكون العزلة شديدة ومستمرّة، بحيث تؤثّر في نموّ الطفل بشكل عامّ، فإنّها تصبح علامة تحذيريّة. 

 

متى تصبح العزلة الاجتماعيّة مصدرًا للقلق؟ 

نؤكّد من جديد: لا يُشترط أن تكون عزلة الطفل في جميع الأحيان ضارّة، ولكن هناك علامات تشير إلى أنّ الانسحاب الاجتماعيّ لدى الطفل، يُعدّ مؤشّرًا على مشكلة أعمق، ومن العلامات المهمّة على ذلك:  

  1.  التجنّب المستمرّ للمواقف الاجتماعيّة: إذا كان الطفل يتجنّب باستمرار قضاء الوقت مع أقرانه، أو الاشتراك في الأنشطة الجماعيّة أو الفعاليّات المدرسيّة، أو حتّى يتغيّب عن المدرسة نفسها، فقد يشير ذلك إلى مشكلة تتجاوز الخجل. 

  1. قلّة الصداقات: لا يُشترط أن تكون علاقات الأطفال الاجتماعيّة كبيرة، فقد يكون لدى الطفل صديق أو صديقان، ولكن بشكل عامّ، إذا كان الطفل لا يتحدّث عن أصدقائه على الإطلاق، أو لا يدعوهم إلى اللعب، أو يبدو أنّ أقرانه يستبعدونه من اللعب، فهي علامة جديرة بالقلق. 

  1. الألم العاطفيّ: قد يُظهر الأطفال المعزولون اجتماعيًّا علامات على الحزن أو القلق أو الانفعال أو نقص في احترام الذات، إذ قد يكرّرون عبارات مثل "لا أحد يحبّني"، أو "لا أحبّ فصلي"، أو "الأطفال لا يشركونني في اللعب". 

  1. المعاناة من مشكلات دراسيّة وعمريّة: يمكن أن تؤثّر العزلة الاجتماعيّة في جوانب أخرى من حياة الأطفال، إذ قد يفقدون اهتمامهم بالمدرسة، أو يظهرون تراجعًا في الأداء الدراسيّ، أو ينكصون إلى سلوكيّات كانوا يمارسونها في عمر أصغر. 

  1. زيادة استخدام الهاتف والحاسوب: في حين أنّ التفاعل في العالم الرقميّ يمكن أن يكون بديلًا للتواصل الاجتماعيّ، فإنّ الأطفال الذين ينكبّون بشكل كبير على الشاشات، يكون هدفهم تعويض صداقات العالم الحقيقيّ التي لا يحصلون عليها.  

  

 

الأسباب المحتملة للعزلة الاجتماعيّة 

يُعدّ فهم جذور عزلة الطفل الخطوة الأولى لتقديم الدعم الذي يحتاج إليه، وتشمل الأسباب الشائعة للعزلة الاجتماعيّة عند الأطفال:  

  • - الخجل أو القلق الاجتماعيّ: يميل بعض الأطفال بطبيعتهم إلى تجنّب المواقف الاجتماعيّة. وقد يعاني البعض الآخر القلق عند مقابلة أشخاص جدد، أو دخول بيئات غير مألوفة بالنسبة إليهم.  
  • - التنمّر أو الرفض من الأقران: يمكن أن يؤدّي تعرّض الأطفال إلى التجارب الاجتماعيّة السلبيّة - مثل التنمّر والمضايقات الجسديّة - إلى الانطواء ومحاولة تجنّب أقرانهم تمامًا. 
  • - تدنّي احترام الذات: يفكّر الأطفال الذين يعانون الشعور بقلّة قيمتهم أو تدنّي الثقة بأنفسهم، أنّ الآخرين لن يحبّوهم، لأنّهم لا يملكون ما يُقدّمونه لنيل إعجاب الآخرين. 
  • - الاختلافات في النموّ: قد تؤدّي معاناة الأطفال من مشكلات مثل اضطراب طيف التوحّد، أو اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه، أو تأخّر الكلام ومشكلات اللغة، إلى عدم قدرتهم على تكوين علاقات اجتماعيّة مع أقرانهم أو الحفاظ عليها.  
  • - دور الأسرة: يمكن أن تؤدّي العلاقات المضطربة في المنزل، أو التربية المفرطة في الحماية، إلى تقليل تعرّض الطفل إلى المواقف الاجتماعيّة، وبالتالي ضعف ثقته بنفسه.  

 

دور الوالدين في الكشف المبكّر والدعم 

الأب والأمّ الأكثر قدرة على رصد العزلة الاجتماعيّة لدى الأطفال ومساعدتهم في التعافي منها، ويمكن القيام بذلك بعدّة خطوات مثل:  

  1. مارس الملاحظة من دون إصدار أحكام: أي الانتباه الجيّد لعادات طفلك الاجتماعيّة ومزاجه وسلوكه بشكل عامّ. حاول الإجابة على أسئلة مثل: هل يقضي طفلك معظم وقته بمفرده؟ هل يتجنّب الحديث مثلًا عن المدرسة أو زملائه؟ هل يظهر علامات ضيق عند ذكر أيّ مكان يتردّد إليه، مثل المدرسة أو النادي؟ ولكن، تذكّر أنّك، وبدلًا من أن تحاول الحصول على إجابات فوريّة لأسئلتك، وفّر مساحة للحوار، مثل أن تسأله: "لماذا تقضي وقتًا طويلًا بمفردك؟" أو "كيف تشعر تجاه المدرسة وأصدقائك في الفترة الأخيرة؟" وهذا قد يفتح بابًا للنقاش تحصل منه على معلومات قيّمة.  
  2. تجنّب إطلاق الأوصاف: يجب الامتناع تمامًا عن وصف الطفل بأيّ صفة سلبيّة، حتّى لو على سبيل المزاح، مثل أنّه خجول أو غير اجتماعيّ أو لا يعرف كيف يتكلّم، لأنّها تزرع في نفس طفلك تصوّرات سلبيّة عن نفسه، أو تُعزّزها. وبدلًا من ذلك، حاول أن تُطمئن طفلك أنّه ليس من العيب أن يكون مختلفًا، فكلّ شخص يتواصل اجتماعيًّا بطرق مختلفة.  
  3. شجّعه على التفاعل الاجتماعيّ بالتدريج: يمكن أن يكون التدرّج حلًّا سحريًّا للعزلة الاجتماعيّة، لذا حاول مساعدة طفلك على التأقلم مع المواقف الاجتماعيّة. والأفكار كثيرة هنا، مثل أن تسجّله في نادٍ أو صفّ يناسب اهتماماته، أو أن تجد مجتمعًا يشعر فيه بفرصة للتفاعل من دون ضغوط، ويمكنك مصاحبته في البداية حتّى يشعر بالأمان. فالهدف هو أن يبني ثقة في نفسه تدريجيًّا، وليس فرض سلوك منفتح عليه.  
  4. تذكّر أنّك قدوة: يحاول الأطفال على الدوام تقليد سلوك البالغين، وبالذات سلوك الوالدين، لذا دع طفلك يراك تتفاعل في المواقف الاجتماعيّة بإيجابيّة وثقة، وتعمّد إظهار التعاطف والانفتاح في تفاعلاتك مع الآخرين، حتّى يدرك حلاوة الاندماج مع أقرانه.  
  5. علّمه المهارات الاجتماعيّة: وهذا أمر شديد الأهمّيّة، ففي بعض الأحيان لا ينعزل الأطفال بشكل متعمّد، بل إنّهم قد يفتقرون ببساطة إلى أدوات التواصل الاجتماعيّ. وهنا يكون دورك في تدريب طفلك على التفاعل مع الآخرين، مثل إلقاء التحيّة، والتواصل البصريّ، والابتسام، واختيار الكلمات وغيرها، وذلك عن طريق لعب الأدوار أو سرد القصص. يمكنك أن تقول له: "لنتخيّل أنّك قابلت زميلًا جديدًا في المدرسة، ماذا ستقول له؟".  

 

متى تطلب المساعدة المهنيّة؟ 

إذا كانت عزلة طفلك الاجتماعيّة تؤثّر بشكل كبير في مزاجه أو نموّه أو ممارسة حياته اليوميّة، ولم تجد الخطوات السابقة نفعًا، فقد يكون الوقت قد حان لاستشارة اختصاصيّ الصحّة النفسيّة أو طبيب الأطفال. إذ يمكن للاختصاصيّين تقييم المشكلات الكامنة، مثل اضطراب الرهاب الاجتماعيّ، واضطراب طيف التوحّد، والصدمات الناجمة عن التجارب السلبيّة، وغيرها من المشكلات. 

وتذكّر دائمًا أنّ التدخّل المبكر يوفّر الكثير من الوقت والجهد في ما بعد، إذ يمكن للأطفال، مع الحصول على الدعم المناسب، تعلّم كيفيّة مواجهة التحدّيات الاجتماعيّة، وبناء علاقات اجتماعيّة قويّة مع مرور الوقت. 

لماذا يجب معالجة العزلة الاجتماعيّة عند الأطفال؟ 

تجب الإشارة إلى مفهوم مغلوط هنا، وهو أنّ الهدف النهائيّ من معالجة العزلة الاجتماعيّة هو تحويل كلّ طفل إلى شخص منفتح، بل الهدف مساعدته في بناء الثقة في نفسه، ومعرفة كيفيّة التواصل الفعّال. وكلّ طفل يختلف عن أقرانه، فبعضهم يحبّ التواجد في مجموعات كبيرة، والبعض الآخر يبحث عن الصداقات الفرديّة والهدوء، والأهمّ للجميع هو أن يشعروا بالانتماء والدعم والتقدير. 

وعلى الجانب الآخر، من الطبيعيّ أن يمرّ الأطفال في فترات من الهدوء، أو أن يفضّلوا اللعب المنفرد بين الحين والآخر. ولكن من جديد، عندما يكون الانسحاب الاجتماعيّ طويل الأمد، أو شديدًا، أو يعوق ممارسة الطفل لحياته، فينبغي عدم تجاهله. 

 

*** 

وفي النهاية، دور الأب والأمّ محوريّ في مساعدة أطفالهم في تعلّم بناء الصداقات والتواصل مع العالم خارج البيت. فبالصبر والتعاطف وتقديم الدعم في الوقت المناسب، يمكن حتّى لأكثر الأطفال انطوائيّة أن يتعلّموا التفاعل مع العالم من حولهم، بطريقة تشعرهم بالأمان والرضا عن أنفسهم. 

 

المراجع 

https://www.scielo.br/j/rpp/a/ZjJsQRsTFNYrs7fJKZSqgsv/?lang=en 

https://socialworker2009.ahlamontada.net/t1684-topic