عندما تدوي أصوات القصف ويبحث الجميع عن مأوى، هناك من لا يستطيع الهروب. وعندما توزّع المساعدات على الحشود، هناك من لا يستطيع الاقتتال من أجل رغيف الخبز. في وسط الدمار الذي يحصد الأخضر واليابس في غزّة، تبرز مأساة أعمق وأكثر إيلامًا: معاناة الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصّة. هؤلاء الصامتون، الذين يعانون أصلًا في أوقات السلم، وجدوا أنفسهم في قلب جحيم لا يرحم ضعفهم، منسيّين في زوايا الكارثة الإنسانيّة. هذه ليست قصّة عن إعاقات، بل عن إعاقة كاملة لحقّهم الأساسيّ في البقاء على قيد الحياة بكرامة.
كيف لطفل كفيف أن يجد طريقه وسط الأنقاض والدخان؟ كيف لطفل على كرسيّ متحرّك أن ينزل عشرات الدرجات في بناية مهتزّة بلا كهرباء؟ كيف لطفل مصاب بالتوحّد أن يفهم الحاجة الى الهروب وسط ضجيج يزيد من نوبات ذعره؟ الإعاقة هنا حكم بالإعدام، ما لم يكن هناك من يتحمّل خطر البقاء لمساعدتهم. وتزداد الكارثة في نقاط توزيع الماء والغذاء التي هي ساحات معركة للبقاء. فالطفل الذي يعاني إعاقة حركيّة أو ذهنيّة، لا يستطيع خوض هذه المعركة. وحتّى إذا وصل، فإنّ الأغذية المقدّمة ليست مناسبة لحالته المتزامنة مع انقطاع الأدوية الخاصّة بالتشنجات أو الأمراض المزمنة.
لقد دُمّرت المراكز المتخصّصة في العلاج الطبيعيّ والنطق والتعليم الدامج، وقُطعت أسلاك أجهزة التنفّس، وتوقفت جلسات العلاج. المعالجون والأطباء الاختصاصيّون هم أنفسهم مشرّدون أو تحت الأنقاض، والطفل الذي كان بحاجة إلى جلسة أسبوعيّة للحفاظ على تقدّمه، ها هو الآن يكافح فقط من أجل أن يتنفّس.
وفقًا لتقارير اليونيسف ومنظّمة هيومن رايتس ووتش، كان هناك ما يُقدّر بمئات الآلاف من الأطفال ذوي الإعاقات في غزّة قبل الحرب، تشمل الإعاقات الحركيّة والبصريّة والسمعيّة والتوحّد وصعوبات التعلّم والإصابات الناتجة عن الحروب السابقة. وتذكر منظّمة الصحّة العالميّة أنّ ما لا يقلّ عن 10 آلاف شخص من ذوي الإعاقات، يحتاجون إلى خدمات إعادة تأهيل عاجلة، بينما يحتاج آلاف آخرون إلى أجهزة مساعدة مثل الكراسي المتحرّكة والعكّازات التي غاب توفّرها. وأفادت اليونيسيف والأونروا بأنّ جميع الأطفال ذوي الإعاقات في غزّة محرومون تمامًا من التعليم، بعد أن دمّرت الحرب البنية التحتيّة التعليميّة المتخصّصة التي كانت هشّة في الأصل.
وفي ما يتعلّق بالصحّة النفسيّة، تشير التقديرات إلى أنّ 90% من الأطفال في غزّة يعانون صدمات نفسيّة حادّة. هذه النسبة تكون أعلى وأكثر تدميرًا لدى الأطفال ذوي الإعاقات الذهنيّة والنمائيّة، الذين يفتقرون إلى الأدلّة لفهم ما يحدث، ما يزيد من حالة الخوف والارتباك لديهم بشكل كبير.
لقد ذهبت سنوات من التقدّم في العلاج والتأهيل والتطور التعليميّ أدراج الرياح. فالطفل الذي كان يتعلّم المشي بمساعدة، ها هو الآن عاجز عن الحركة. والطفل الذي كان يتعلّم التواصل، ها هو الآن منغلق أكثر من أيّ وقت مضى. هذا تراجع قد يستغرق عقودًا لتعويضه، وهذه الإبادة لا تُسبب فقط إعاقات جسديّة جديدة بسبب القصف والإصابات، بل إنّها تخلق إعاقات نفسيّة واجتماعيّة عميقة سيعانيها جيل كامل، ولا سيّما الأكثر ضعفًا؛ ما يهدّد بانهيار النسيج الاجتماعيّ. وفي مجتمع يعاني ضغوطًا هائلة، يزداد خطر تهميش الأشخاص ذوي الإعاقات، حيث يُعتَبرون عبئًا إضافيًّا في وقت يعاني فيه الجميع إمّا هروبًا من الموت، أو ويلات النزوح المتكرّر، أو رحلة البحث عن لقمة الطعام المغمّسة بالدماء.
إنقاذ هؤلاء الأطفال ليس خيارًا، بل هو واجب إنسانيّ وأخلاقيّ وقانونيّ. والحلول يجب أن تكون فوريّة واستراتيجيّة وبعيدة عن أيّ ارتباطات وضغوط سياسيّة أو عرقيّة. إنّها رسالة إنسانيّة خالصة، وما نحتاج إليه بشكل فوريّ هو:
- - إخلاء إنسانيّ عاجل: يجب على المجتمع الدوليّ الضغط لفتح ممرّات آمنة مخصّصة لإخلاء الأطفال ذوي الإعاقات وأسرهم ومقدمي الرعاية لهم، إلى دول مجاورة يمكنها تقديم الرعاية الطبّيّة والنفسيّة المتخصّصة. هذا أول وأهمّ إجراء إنقاذ.
- - ممرّات مساعدات ذكيّة: يجب أن تشمل طلبات إدخال المساعدات قوائم محدّدة بأسماء الأدويّة الأساسيّة، والأغذية العلاجيّة، والحفّاضات الخاصّة، والكراسي المتحرّكة، والبطاريّات لأجهزة التنفّس، وتوزيعها عبر قنوات مخصّصة لهذه الفئة لتجنّب الازدحام.
- - دعم المراكز الباقية: توجيه الدعم الماليّ والفنيّ الفوريّ لأيّ مراكز تأهيل أو عيادات متخصّصة لا تزال تعمل، لتكون نواة لإعادة بناء نظام الرعاية.
- - برامج الدعم النفسيّ والاجتماعيّ طويلة الأمد: تمويل وإنشاء برامج نفسيّة متخصّصة تراعي الاحتياجات المختلفة لهؤلاء الأطفال، لمساعدتهم على معالجة صدماتهم ومنع تشوّه مستقبلهم.
- - إعادة الإعمار الشامل: يجب أن تلتزم أيّ خطّة مستقبليّة لإعادة إعمار غزّة بمبادئ التصميم الشامل للجميع، ضمانًا لأن تكون المدارس والمستشفيات والمباني العامّة مهيّأة بالكامل لتكون سهلة الوصول والاستخدام للأشخاص ذوي الإعاقات، ما يُرسل رسالة قويّة مفادها أنّ حقّوق الاشخاص ذوي الإعاقة وكرامتهم خطّ أحمر غير قابل للمساومة أو التفاوض.
معاناة الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصّة في غزّة هي المقياس الحقيقيّ لإنسانيّتنا الجماعيّة. هم اختبار لأخلاقيّات العالم وضميره. صمتهم لا يعني أنّ معاناتهم غير موجودة؛ بل يعني أنّ صراخهم يضيع في ضجيج الحرب. إنّ إنقاذهم وضمان حقّهم في الحياة والكرامة ليس عملًا خيريًّا، بل هو التزام بمواثيق حقوق الإنسان الدوليّة. مستقبل غزّة لن يُبنى على الأنقاض فحسب، بل على كيفيّة حمايتها لأكثر أطفالها ضعفًا. يجب ألّا ندعهم يكونوا الضحايا الصامتين مرّة أخرى.