الذكاء الاصطناعيّ في التعليم: ضرورة أم رفاهية خطرة؟
الذكاء الاصطناعيّ في التعليم: ضرورة أم رفاهية خطرة؟
2024/01/07
رويدا فوّاز | مدرّبة في مجال التعليم الرقميّ ومنسّقة لمادّة الرياضيّات- لبنان

إنّ طلّابنا سيشغلون في المستقبل وظائف لا نعرف عنها شيئًا

مقولة تختصر واقع التطوّر التكنولوجيّ الذي تفوق سرعته قدرتنا على التخيّل والتأقلم، فما أن نقوم باستخدام تطبيق معيّن وتقييمه، حتّى نجد أنفسنا أمام تطبيق أحدث يعيدنا إلى التجربة والتقييم من جديد؛ فالتكنولوجيا تحيط بنا، وتطبيقاتها تشاركنا يوميّاتنا ووظائفنا، ونشاركها وقتنا واهتماماتنا. يطالعنا حديثًا مصطلح "الذكاء الاصطناعيّ"، شاغل البال وحديث الساعة، فنراه عنوانًا لأهمّ المقالات، وموضوعًا للمؤتمرات في شتّى المجالات، ومن بينها مجال التعليم. ولا عجب في ذلك، في ظلّ دراسات تتوقّع أن تكون القيمة الاقتصاديّة للذكاء الاصطناعيّ في التعليم، حوالي 6 مليارات دولار بحلول سنة 2024. فهل الذكاء الاصطناعيّ وليد هذه الفترة الزمنيّة القريبة، أم أنّه موجود منذ فترة بعيدة لكنّه أصبح اليوم تحت المجهر نتيجة التطوّر الرهيب الحاصل في أدواته؟ وهل تصحُّ المخاوف التي تشوب بعض أصوات المختصّين في العالم للتحذير منها؟

 

ما الذكاء الاصطناعيّ؟

الذكاء الاصطناعيّ فرع من علوم الحاسوب يُعنى بمحاكاة السلوك أو الذكاء البشريّين. وهنا ننطلق إلى النقاش المفتوح: هل يمكن أن يكون الذكاء لغير البشر؟ وهل يمكن لآلة ما أن تكون ذكيّة؟ لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الذكاء الاصطناعيّ موجود بالفعل منذ سنة 1950، بأوجه مختلفة ربّما نستخدمها ولا نعلم أنّها من أشكال الذكاء الاصطناعيّ؛ فمن منّا لم تُصحَّح له بعض الكلمات تلقائيًّا عند الكتابة، مع اقتراحات للكلمة التي يقصدها بمجرد الشروع بكتابة حروفها الأولى؟ ومن منّا لم يتساءل إذا ما كانت وسائل التواصل تعلم ما يجول بخاطره فتطالعه إعلانات خاصّة بميوله واهتماماته؟ بالإضافة الى بعض التطبيقات الموجودة والمستخدمة منذ وقت طويل، كبرنامج أوتو درو AutoDraw الذي يتنبّأ برسومنا، ويعطينا شكلها النهائيّ بإتقان من مجرّد مخطّط بسيط أوليّ؟ وهل التنبؤ والاستدلال والإدراك إلّا من خصائص هذا العلم؟

 

بين المخاوف وحسن التوظيف

النقاش حول الذكاء الاصطناعيّ قائم حاليًّا في كلّ المجالات، سواء في الطبّ والهندسة والتصنيع والاستثمار وعلوم الفضاء والاتّصال. ومجال التعليم من أكثر المجالات التي يمكن أن تتأثّر بفلسفة الذكاء الاصطناعيّ. وككلّ مرّة يدخل فيها عنصر التكنولوجيا على هذا المجال نجدنا أمام تيّارين، أحدهما يتلقّف التكنولوجيا ويوظّفها لخدمة أهدافه، وتيار يضع في الواجهة المخاوف التي يمكن أن تنتج عن هكذا تغيير، وما أكثرها في مجال الذكاء الاصطناعيّ. تتعالى اليوم بعض الأصوات العالميّة التي تحذّر من التطوّر المتسارع في هذا المجال، مثل أن تصعب في وقت لاحق السيطرة عليه، بالإضافة إلى المخاوف من ازدياد البطالة في بعض القطاعات، بسبب استبدال اليد العاملة بالروبوتات المستندة على أنظمة الذكاء الاصطناعيّ، ولا سيّما في مجال التعليم في ظلّ ما يسمّى ب"ثورة التعلّم الذاتيّ".

 

أهمّيّة توظيف الذكاء الاصطناعيّ في التعليم

أكبر التحدّيات في التعليم هي التمايز والفروقات الفرديّة الخاصّة بالمهارات الفكريّة والابداعيّة والتواصليّة للمتعلّمين، والتي تنعكس في سلوكهم في العمليّة التعليميّة المعتمدة بقوّة على تكييف المحتوى والأدوات مع هذا الواقع المتباين من التعليم. وهذا يتطلّب جهدًا كبيرًا، لن يتمكّن المعلّم من القيام به لكثرة عدد الطلّاب وضيق الوقت. تراعي تطبيقات الذكاء الاصطناعيّ وأدواته هذه الفروقات، وتعطي كلّ تلميذ جرعته المناسبة من التعليم، طبقًا لميوله وقدراته واهتماماته. وتجدر الإشارة إلى وجود عدد كبير من البرامج والأنظمة التي تعمل بالذكاء الاصطناعيّ، والتي يمكن اعتمادها، بالأخصّ مع ذوي الاحتياجات الخاصّة.

ومن ناحية المعلّمين، فنسلم جدلًا كتربويّين وأكاديميّين، بأنّ الواجبات الاداريّة تستغرق الوقت والجهد الأكبر من المعلم. ويُعتبر تخفيف الأعباء الروتينيّة عبر أتمتتها، أبرز ما يمكن ان يساعدنا فيه الذكاء الاصطناعيّ، فنستغلّ الوقت والجهد الذي يبذل في هذا الإطار في عمليّة التعليم نفسها. في ثوانٍ قليلة، يستطيع تطبيق Education Copilot أن يعطينا خطّة درس كاملة، من حيث الأهداف والتنفيذ، والتقييم وما بعد التقييم، والتواصل مع الأهل. وبإمكان الذكاء الاصطناعيّ أن يستفيد من بعض المعالم البيومتريّة للممتحنين، كملامح الوجه ودرجة الحرارة وبصمة الوجه والصوت، لتحليلها والقيام بالتقييم العلمي الدقيق. وهذا ما بدأ تطبيقه فعلًا داخل الفصول الدراسيّة في الصين، عبر استخدام شرائط إلكترونيّة تعطي إشاراتٍ ضوئيّة معيّنة في حال فقد التلميذ تركيزه أو تشتّت انتباهه. فما المانع أمام هذه الدقّة والسرعة أن نسلّم بعضًا من مسؤوليّاتنا إلى هذه التكنولوجيا والتطبيقات، والتي ستنجزها بشكل أسرع، على أن يبقى دورنا في تنسيق نتائجها وإضفاء "بشريتنا عليها"؟

 من ناحية ثانية، يساعدنا الذكاء الاصطناعيّ في تغيير منهجيّتنا في تقديم المعرفة، فنتجّه إلى توظيفها في حلّ المشكلات واتّخاذ القرارات وربطها بالواقع؛ فلا تعود معرفة آنيّة ينتهي مفعولها بانتهاء الامتحان، وتتحوّل هواجسنا من التخصّص والأرقام والعلامات ومحدوديّة تأثيرها، إلى تأهيل جيل رقميّ يستقي من خصائص الذكاء الاصطناعيّ، ليكون عنصرًا فاعلًا ومنتجًا ومؤثّرًا، نستشرف به واقع التكنولوجيا ومستقبلها.

 

"الذكاء التعاونيّ" بين البشر والآلة

ليس المطلوب من المعلّم أن يتنحّى جانبًا في ظلّ الهيمنة الحاصلة للذكاء الاصطناعيّ. بل المطلوب أن يطوّر مهاراته ويكيّف دوره، ليتناسب مع المرحلة. وأن يكون هذا نابعًا من مجهود فرديّ، في حال لم تُعنَ المؤسّسات التي يتنمي إليها بتأهيله وتدريبه، مع الإشارة إلى ضرورة إعادة النظر في السياسات التربويّة واتّخاذ القرارات المناسبة في هذا المجال.

فلنترك إذًا للآلة الوظائف التي تشبهها، ربّما، بل ومن المؤكّد أنّها ستتفوّق علينا من ناحية الوقت والتنظيم. ولنحتفظ لأنفسنا بالمهمّات التي تشبهنا كبشر، والتي لن ينازعنا عليها أحد. ولنتبع موجة التكنولوجيا هذه المرّة على هيئة الذكاء الاصطناعيّ، ولنحصّن أنفسنا وطلّابنا بالتوعية، لضمان الاستخدام الأخلاقيّ له، وضمان الوصول العادل والشامل لأدواته، وذلك بالكشف على المخاطر والعمل على التخفيف من حدّتها.