التعلّم عن بعد: الدلالة والتداخل المفاهيميّ
التعلّم عن بعد: الدلالة والتداخل المفاهيميّ
نعيم حيماد | أستاذ فلسفة وعضو هيئة تحرير منهجيات - المغرب

"التعلّم عن بعد" مصطلح جدير بالتفكير في جوهره ومقاصده، خصوصًا أن التوجّه نحو اعتماده في عدد من البلدان النامية لم يجمع التنظير بالممارسة، إلّا بحلول أزمة كورونا، وهي الأزمة التي وضعت الممارسة التعليميّة على المحكّ، وأظهرت تخلّف التعليم عن ركب الممارسات التكنولوجيّة المعاصرة التي نشطت في الدول المتقدّمة منذ ستّينيّات القرن العشرين. وأمام الاستعمال الشائع لمصطلح "التعلّم عن بعد"، وتداوله على ألسن المتخصّصين وغير المتخصّصين، ارتأينا أن ننشغل قليلًا ببسط دلالات هذا المصطلح، علّه يكون نافذةً نطلّ منها على شبكة المصطلحات المتداخلة معه، مثل: التعلّم المفتوح، والتعلّم الإلكترونيّ، والتعلّم الهجين، والتعلّم الافتراضيّ. ونلفت الانتباه إلى أن تمييز عناصر هذه الشبكة ضرورة لدى المهتمّين بالتدقيق في المصطلح، فلا يكفي مجرّد التقاط المصطلحات وتداولها، بل علينا استخدامها استخدامًا صحيحًا، ما يجعلنا نتعرّف على مسارنا في تطوير ممارساتنا التعليميّة.

 

أنواع التعليم

قبل البدء في بسط معاني التعلّم عن بعد، وما يتداخل معه من مصطلحات، أو بالأحرى ما يتشارك معه بعض المميّزات، لا بدّ أن نتطرّق إلى أنواع التعليم التي شاع استخدامها في المؤسّسات التعليميّة العامّة والخاصّة، لا سيّما العربية بصورة ضيّقة، والغربيّة بصورة موسّعة، وأن نسلّط الضوء على أنواع التعليم وفق متغيرَين: المكان والزمان.

يغلب على التعليم في المجتمعات العربيّة الشكل الحضوريّ التقليديّ (وجهًا لوجه). ولو اطّلعنا خارج هذا الشكل السائد، قد تبدو الأشكال الأخرى غير معتادة، وهي تلقى مقاومةً من قبل فاعلين في بعض المؤسّسات التعليميّة. فالمعلّمون الذين اعتادوا التعليم التقليديّ يميلون عادةً إلى رفض أيّ شكل آخر. أمّا الإدارة التربويّة، فتكون أحيانًا موجّهة بمنطق أنّ المعلّم ينبغي له أن يركّز على استخدام الأدوات التقليديّة في التدريس حتى لا يضيع الوقت في إعداد وسائل التعليم الحديثة.

 

لقد زوّد التطوّر التقنيّ التعليم بآليات ووسائل مختلفة، نتج عنها ما يسمى التعلّم عن بعد، الذي تطوّر فيما بعد باتجاه التعلّم الإلكترونيّ. ولنبدأ بتأمّل المقاربات الأربع التي قدّمها كولدوي (في Simonson et al, 2015) لممارسة التعليم، بدلالة الزمان والمكان:

  1. التعليم في الزمان نفسه من المكان نفسه: وهو من خصائص التعليم التقليديّ الشائع، الذي يلتقي فيه الطلّاب مع المعلّم، في غرفة الصفّ مثلًا، لأجل التعلّم. ويشدّد هذا النوع من التعليم على حضور الطلاب مع المعلّم في زمان ومكان محدّدين.
  2.  التعليم في أزمنة مختلفة من المكان نفسه: وهو تعلّم الطلّاب في الوقت الذي يناسبهم داخل المؤسّسة. يبدو أنّ هذا التوجّه ارتبط بمراكز دعم المتعلّمين، أو المدارس التي تعتمد نظام التفويج (تقليص عدد الطلاب لأجل تعلّم فعّال)، وهو ما أدّى إلى اختلاف زمن التعلّم مع تثبيت المكان.
  3. التعليم في الزمان نفسه من أماكن مختلفة: وهو تعليم يشترط عنصر التزامن مع إمكانية اختلاف المكان. وهو التعليم الذي انتشر في الجائحة التي نمرّ بها، إذ تعذّر الحضور إلى المكان المخصّص للتعلّم، فلزم الطلّاب بيوتهم، وشرعوا في تلقّي التعليم من أماكنهم المختلفة في الزمان نفسه، باستخدام أجهزة الاتصال عن بعد.
  4. التعليم في أزمنة مختلفة من أماكن مختلفة: يختار المتعلّمون في هذا النوع من التعلّم متى وأين يتعلّمون، ومتى وأين يلِجون إلى الموادّ التعليميّة. وتتيح شبكات الإنترنت على المستوى العالميّ دروسًا للمتعلّميّن  من أيّ مكان وفي الزمان الذي يختارونه.

التعليم عن بعد هو ما يحصل عندما يكون التعلّم إمّا في الزمان نفسه مع اختلاف المكان، أو في أزمنة مختلفة وأمكنة مختلفة

 

التعلّم عن بعد (Distance Learning)

انطلاقًا من الأنواع الأربعة للتعليم بدلالة الزمان والمكان، نخلص إلى كون التعليم عن بعد هو ما يحصل عندما يكون التعلّم إمّا في الزمان نفسه مع اختلاف المكان، أو في أزمنة مختلفة وأمكنة مختلفة. أي إنّ خاصيّة المكان المختلف ثابتة في التعلّم عن بعد لتأكيد المسافة الفاصلة بين المعلّم والمتعلّم، أمّا خاصيّة الزمان فتكون على شكلين لتجعل التعلّم إما متزامنًا أو غير متزامن. أي "ينتج التعلّم عن بعد بالفصل التكنولوجيّ بين المعلّم والمتعلّم المتحرّرين من ضرورة الانتقال إلى مكان محدّد لأجل التعلّم. ويتضمّن هذا التعريف تعلّمًا غير متزامن في زمان ومكان غير محدّدين، وتعلّمًا متزامنًا في زمان محدّد ولكن ليس في مكان محدّد" (Negash et al, 2008. p. Xviii).

 

التعلّم المفتوح (Open-Learning)

يُعرِّف معجم كامبردج "التعلّم المفتوح" بكونه طريقة للدّراسة تسمح للناس بالتعلّم أينما ووقتما يشاؤون، وبتلقّي العمل المكتوب عبر البريد العاديّ أو الإلكترونيّ وإرساله. في حين يعرّف المعجم نفسه التعلّم عن بعد بأنّه شكل من التعلّم المفتوح ينفصل فيه المعلّمون والمتعلّمون بمسافة جغرافية. وفي نظر (Perraton (2005، نجد أنّ التعلّم المفتوح هو "نشاط تعليميّ منظّم يستخدم موادّ التدريس، ويقلّص القيود على الدراسة، إمّا من جهة الإتاحة، أو من جهة الزمان والمكان، أو الوتيرة، أو طرائق الدراسة، أو أيّ مزيج من هذه، لكنّه في كتابه "التعلّم المفتوح والتعلّم عن بعد في العالم النامي" يستخدم مصطلح التعليم عن بعد للإشارة إلى كلٍّ من التعليم عن بعد والتعليم المفتوح .

 

التعلّم الإلكترونيّ (E- Learning)

ثمّة اختلاف جوهريّ بين التعلّم الإلكترونيّ والتعلّم عن بعد. ذلك لأن التعلّم الإلكترونيّ هو تعلّم معزّز بالحاسوب، وتُعدّ الحوسبة شرطًا أساسيًّا له، في حين أن التعلّم عن بعد قد يستخدم الحاسوب، لكنّه ليس شرطًا لتحقّقه. لذلك، فالتعلّم عن بعد هو سِمةٌ لبعض أنواع التعلّم الإلكترونيّ.

ينقسم التعلّم الإلكترونيّ إلى أنواع ستّة تبعًا لمتغيرَيْ الحضور والاتصال الإلكترونيّ. نُفصِّل هذه الأنواع أدناه لندرك تقاطعات التعلّم الإلكترونيّ مع التعلّم عن بعد، ولنتعرّف على أنواعه التي نمارسها بوعي أو دون وعي في غرفنا الصفّيّة (Negash et al, 2008):

 

  1. تعلّم إلكترونيّ مع الحضور الجسديّ دون اتّصال إلكترونيّ: يحدث هذا النوع من التعلّم وجهًا لوجه، لكنّه يسمّى إلكترونيًّا بسبب استخدامه لأدوات التعلّم الإلكترونيّ. في هذه الصيغة يكون كلٌّ من المعلّم والمتعلّم في غرفة الصفّ جسديّا، في الوقت الذي يُنقل فيه المحتوى بوسيط تقنيّ. ومثاله غرفة الصفّ التقليديّة التي تستخدم شرائح الـ"بور بوينت"، ومقاطع الفيديو، والوسائط المتعدّدة لنقل المحتوى.
  2. تعلّم إلكترونيّ دون حضور ودون اتّصال إلكترونيّ: هو تعلّم ذاتيّ، يصل فيه المتعلّمون إلى المحتوى باستخدام الوسائط التقنيّة، ويتعلّمون بأنفسهم. وفي هذه الصيغة من التعلّم الإلكترونيّ يغيب الحضور الجسديّ والافتراضيّ معًا؛ فالمتعلّم يتلقّى محتوًى مسجّلًا مسبقًا، أو يدخل إلى سجلّات في الأرشيف. وثمّة حالات يكون فيها الاتّصال بين المتعلّم والمعلّم اضطراريًّا فقط لدعم مشكلات غياب المحتوى، مثل تعويض الوسائط التالفة (الأقراص المدمجة مثلا) أو تلقّي عتاد تكميليّ.
  3. تعلّم إلكترونيّ دون حضور مع اتّصال إلكترونيّ (غير متزامن): في هذا النوع من التعلّم الإلكترونيّ لا يلتقي المعلّم مع المتعلّم في أثناء نقل المحتوى، ولا يُطلب منهما الحضور الجسديّ أو الافتراضيّ. فالمعلّم يسجّل المحتوى مُسبقًا (نقل المحتوى) ويلج إليه المتعلّم لاحقًا (إتاحة المحتوى). ويغلب على التواصل بين المعلّم والمتعلّم في هذه الصيغة استخدام تكنولوجيّات التعلّم الإلكترونيّ. ويستحضر معظم الناس في أذهانهم هذا النوع من التعلّم حين يفكّرون بـ (التعلّم عبر الإنترنت).
  4. تعلّم إلكترونيّ مع الحضور الافتراضيّ والاتّصال الإلكترونيّ (متزامن): هذا التعلّم الإلكترونيّ متزامن. ولا يلتقي فيه المعلّم والمتعلّم جسديًّا، إلا أنّهما يلتقيان دائمًا افتراضيًّا عند نقل المحتوى. في هذه الصيغة يستخدم الاتّصال الإلكترونيّ على أوسع نطاق، باعتماد تكنولوجيّات التعلّم الإلكترونيّ.
  5. تعلّم إلكترونيّ مع الحضور من حين لآخر والاتّصال الإلكترونيّ (هجين - غير متزامن): هذا أحد الأنواع الهجينة أو المختلطة من التعلّم الإلكترونيّ. ويُنقل فيه المحتوى عبر اللقاءات الصفّيّة من حين إلى آخر بين المعلّم والمتعلّم (الحضور إلى الصفّ مرّةً واحدةً في الشهر على سبيل المثال)، وفي بقيّة الوقت يُنقل المحتوى بواسطة تكنولوجيّات التعلّم الإلكترونيّ. ويجمع هذا النوع بين التعلّم الإلكترونيّ غير المتزامن، والتعلّم الإلكترونيّ الحضوريّ.
  6.  تعلّم إلكترونيّ مع الحضور والاتّصال الإلكترونيّ (هجين - متزامن): هذه الصيغة من التعلّم الإلكترونيّ مختلطة أو هجينة، وتتطلّب التواصل المتزامن طيلةَ الوقت. يُستَخدم فيها الاتّصال الإلكترونيّ المتزامن بصورة موسّعة، ويراوح فيها بين الحضور الجسديّ والافتراضيّ. والمثال الذي يوضح هذا التعلّم الإلكترونيّ هو حين يستخدم المعلّم والمتعلّم غرفة الصفّ لجزء من الوقت، والجزء الآخر للتواصل عبر لقاءات افتراضيّة حيّة، صوتيّة أو بالصوت والصورة. وفي الحالتين يكون المشاركون في اللقاءات حاضرين في الوقت نفسه، ويجمعون بين التعلّم الإلكترونيّ وجهًا لوجه، والتعلّم الإلكترونيّ المتزامن.

 

خلاصة

لا أعرف أحدًا يُنكر مزايا التعلّم عن بعد. لذلك، يُفضَّل استخدامه مع التعلّم الحضوريّ في الحالات العاديّة، حتّى يتسنّى للطلّاب استكمال دروسهم إن شَلّت أزمةٌ ما حركة التعلّم الحضوريّ. لقد وقفنا في الدول العربيّة، مع انتشار جائحة كورونا، على حقيقة مُرّة، مفادها أن نظامنا التعليميّ لا يقدّم إمكانات للتواصل مع المتعلّميّن في حالة الطوارئ لاستكمال دراستهم، مع أننا نعيش في عصر الثورة الرقميّة. حتّى العُدّة النظريّة لتمييز نوع التعلّم الذي قد نعتمده غير متوفّرة، سوى ما نترجمه من السياق الغربيّ الذي تناول أنظمة الاتّصال، ودرس العالم الافتراضيّ بكلّ تعقيداته. لذلك، نحن مُجبرون على المُضيّ قُدُمًا لفهم الممارسة التعليميّة وفق الشروط الحادثة والشروط ممكنة الحدوث، وحريّ بنا التوقّف عن تمجيد الأشكال التقليديّة للتعلّم، والتوجّه نحو استكشاف آفاق تكنولوجيا المعلومات.

 

المراجع:

  • Perraton, H. (2000) Open and distance learning in the developing world. Routledge
  • Negash, S., Whitman, M. E., Woszczynski, A.B., Hoganson, K., & Mattord, H. (2008). Handbook of Distance Learning for Real-Time and Asynchronous Information Technology Education. Information Science Reference.education. Information Age Publishing, Inc. Charlotte, North Carolina.
  • Open-learning. (n.d.). Cambridge Online Dictionary. https://dictionary.cambridge.org
  • Distance learning. (n.d.). Cambridge Online Dictionary. https://dictionary.cambridge.org