التعليم المنزليّ: هل هو خيار اللبنانيّين في الأزمة الاقتصاديّة؟
التعليم المنزليّ: هل هو خيار اللبنانيّين في الأزمة الاقتصاديّة؟
2022/10/22
سكينة عفيف النابلسيّ | أستاذة جامعيّة وباحثة تربويّة- لبنان

مع ازدياد الوضع الاقتصاديّ تأزّمًا في لبنان، ومع ارتفاع أسعار الأقساط المدرسيّة، بدأ الكثير من الأهل بالبحث عن خيارات بديلة من التعليم التقليديّ المتمحور حول الذهاب إلى المدرسة. وكان الدافعُ إلى ذلك التخفيفَ من عبء الأقساط المدرسيّة وكلفة النقل، والتكاليف الإضافيّة المرتبطة بالتعلّم الحضوريّ.

وعلى الرغم من عدم وجود دراسات صادرة عن جهة رسميّة لبنانيّة، إلّا أنّ هناك انطباعًا منتشرًا بعدم فعاليّة التعليم عن بعد تأتّى بعد تجربة جائحة كورونا، حيث تفاوت هذا الانطباع بين القطاعين العام والخاصّ، وضمن القطاع الواحد أيضًا. وقد أظهرت دراسات عديدة حديثة عوامل كثيرة ساهمت في التقليل من فائدة التعلّم عن بعد، كعدم قدرة الأهل على إلزام أولادهم بجدول زمني محدّد للتعلّم، وعدم فهم المحتوى التعليميّ، وعدم قدرة الأهل على شرح المحتوى، وقلّة المراجع التعليميّة، وضعف الإنترنت أو انعدامه وغير ذلك. لكن، على ما يبدو، لم تكن جائحة كورونا وحدها السبب الرئيس الذي منع، وسيمنع، اللبنانيّين من إرسال أبنائهم إلى المدارس هذا العام؛ فارتفاع أسعار الأقساط المدرسيّة والنقل وأسعار الكتب والقرطاسيّة والحياة المعيشيّة، سيدفع بالكثيرين إلى التخلّي عن تعليم أطفالهم، أو إلى البحث عن بدائل أقلّ كلفة. وعليه، بدأ بعض التربويّين بتداول مصطلح يُعرف بالتعليم المنزليّ.

 

ما هو التعليم المنزليّ؟

ظهر مصطلح التعليم المنزليّ بشكله الأوليّ سنة 1960. لكنّ التعليم المنزليّ وُجد قبل ذلك بآلاف السنين، وكان مرافقًا لفئة الأثرياء الذين كانوا يستقدمون معلّمين لتعليم أبنائهم، لتمييزهم عن الطبقات الدنيا. وبعد الثورة الصناعيّة، أصبح التعليم متاحًا أمام الجميع، إلّا أنّ بعض الأسباب الأيدولوجيّة والبيداغوجيّة والبيئيّة أعادت في القرن الماضي تسليط الضوء على التعليم المنزليّ، على الرغم من أنّه لم يأخذ صفة قانونيّة في أمريكا - على سبيل المثال - إلّا سنة 1980. وهذا لا يعني أنّ كلّ البلدان الأوروبيّة والغربيّة تعتبر التعليمَ المنزليّ قانونيّ ويمكن تبنّيه واعتماده حتّى في يومنا الحاضر.

التعليم المنزليّ هو أن يتبنّى الأهل تعليم أولادهم بمفردهم، معتمدين على مناهج يختارونها بأنفسهم تلائم تطلّعاتهم نحو مستقبل أبنائهم؛ إذ يمكنهم اختزال ما يرونه غير مناسب، والتركيز على المناسب أكاديميًّا أو مهاراتيًّا أو دينيًّا. بعض الدول، مثل بريطانيا، فرضت على الأهل الالتزام بمعايير المناهج التعليميّة الخاصّة بها، وتركت للأهل حرّيّة التعليم بالطرق والأدوات والتوقيت الذي يناسبهم. وبالتّالي، يُعتبر الأهل المعلّمين المسؤولين عن متابعة تقدّم أبنائهم، لكن عليهم إعلام الجهات المختصّة بخيارهم في التعليم المنزليّ، والذي يستدعي زيارة مفتّش أو معلّم من قبل وزارة التربية، للتأكّد من أنّ الأطفال يتلقّون تعليمهم بشكل إيجابيّ وفعّال. لكنّ هذه الإجراءات ما تزال محلّ انتقاد لدى الكثيرين الذين يعتبرون أنّ لا معايير واضحة للتقييم، وأنّ المتابعات والدعم التعليميّ التي يتلقاها الأبناء من الجهات المختصّة محدودةٌ وغير محدّدة المعالم.

 

فلماذا التعليم المنزليّ إذًا؟ وما فوائده؟ وهل يعدّ بديلًا جديًّا للكثير من اللبنانيّين في حال أخذت الدولة على عاتقها تبنّي هذا الأمر؟

أظهرت دراسات مُختلفة فوائد كثيرة للتعلّم المنزليّ، إذ ظهر أنّ الأطفال الذي تلقوا تعليمًا منزليًّا، كان أداؤهم أفضل في التعليم الجامعيّ مقارنةً بالذين تلقّوا تعليمًا تقليديًّا. كما أنّ المتعلّمين منزليّا لم تظهر لديهم أيّة مشاكل اجتماعيّة، لأنّ الكثير من الأهل كان يخصّص فترات متنوّعة لإخراط أولادهم بالأنشطة الاجتماعيّة خارج المنزل.

وقد أظهرت دراسات أخرى أنّ للتعليم المنزليّ فوائد إضافيّة؛ إذ يضمن حماية الأطفال من التنمّر ومن التعرّض للإيذاء الجسديّ، كما يضمن حصول الطفل على تعليم عالي الجودة يناسب إمكاناته وقدراته الشخصيّة، فضلًا عن أنّه خيار للذين لا يستطيعون دفع الكُلف المادّيّة المترتّبة عن التعلم الوجاهيّ.

من ناحية أخرى، أكّدت دراسات أنّ الحصول على نتائج إيجابيّة من التعليم المنزليّ مرتبط بمستوى الأهل التعليميّ؛ فالأهل الذين يمتلكون مستوى تعليميًّا متقدّمًّا كان أداء أبنائهم أفضل من أقرانهم. وقد انعكس، ضمن السياق ذاته، تعليمُ الأهل المتواضع على أداء أطفالهم. أمّا في ما يتعلق بفئة الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصّة، فقد فضّل بعض الأهل، وفقًا لبعض الدراسات، خيار التعليم المنزليّ، لأنّه يتيح لهم العمل على تطوير مستويات أبنائهم وفق خطط فردّيّة مخصّصة لهم.

 

في المحصّلة، قد لا يكون التعلّم المنزليّ خيارًا مناسبًا في لبنان ذي الأزمات المتعدّدة، بل قد يشكّل عبئًا لا يمكن للكثيرين تحمّله؛ إذ أن الأمر لا يتطلّب المعرفة بالمنهاج وطرائق التعليم وحسب، بل يتطلّب تحضير وسائل تربويّة معيّنة أو شرائها، كما وسائل تكنولوجيّة باتت تمثّل حاجة أساسيّة في التعلّم، ناهيك عن الحاجة إلى الإنترنت السريع، وتخصيص مساحة للرحلات التعليميّة والاستكشافيّة كبديل عن الجلوس والتعلّم في المنزل، ولا ننسى ضرورة تفرّغ أحد الأبوين للتعليم المنزليّ، خصوصًا في العائلات التي فيها أكثر من طفل. فهل لأحد من الأهل هذه القدرات؟ ولا سيّما أنّنا لم نخرج بعد من النتائج السلبيّة التي خلّفها التعليم عن بعد على مستويات الأطفال الأكاديميّة والنفسيّة.

وإذا سلّمنا جدلًا أنّ هناك من هو قادر من الأهل على تولّي مسؤوليّة تعليم أبنائه في المنزل، بحجّة تدنّي المستوى التعليميّ في المدارس، فهل سيُعرض ملفّ من هذا النوع على الحكومة للتصويت عليه في ظلّ كلّ التعثّرات الآنيّة، وصعوبة تكليف فريق متخصّص يرعى هذا النوع من التعليم في الوقت الذي لم تُدفع فيه بعد أجور المعلّمين، ولم يستلم الكثير منهم أيًّا من الحوافز المادّيّة التي وُعدوا بها؟ سؤال برسم المهتمّين.