الاستعانة بالمدوّنات لتطوير فهم المقروء في عصر الإنترنت
الاستعانة بالمدوّنات لتطوير فهم المقروء في عصر الإنترنت
هدى حسن كاعين | مصمّمة برامج ومدرّبة تعليم مهنيّ-لبنان/قطر

أثناء إشرافي على طالبة ماجستير تُعلِّم وتدرُس باللغة العربيّة، لاحظتُ أنّ معظم الدراسات التي استخدمتها الطالبة كانت باللغة الإنجليزيّة، رغم تطبيقها في حصص اللغة العربيّة. ذلك أنّ معظم استراتيجيّات تعليم اللغة واكتسابها يعتمد على المصادر الأجنبيّة، لقلّة الأبحاث التجريبيّة في بلادنا العربيّة. دفعني ذلك إلى التساؤل عن دوري، باحثةً تربوّيّةً، في نشر الممارسات الفعّالة بلغتي الأم، فعدتُ إلى أبحاثي التي لم يتسنَّ لي نشرها بعد، واخترت منها موضوع المقال.

أمّا الأسباب التي دفعتني إلى البحث في عناصره فتتمثّل في ما لفت انتباهي، عندما كنتُ مدرِّسة في إحدى المدارس الخاصّة، من استخدام معظم الطلبة المصادر الإلكترونيّة أكثر من الكتب والمصادر الورقيّة، إلى توتّرهم لعدم قدرتهم على الوصول إلى المعلومات بسرعة، أو عدم الوصول اليها مطلقًا. هذا الأمر دفع بهم إلى نسخ المعلومات من مصادر الإنترنت من دون تلخيصها أو إعادة صياغتها. راقبتُ عمليّة فهم الطلبة المقروء أثناء البحث على الإنترنت، وتبيّن عدم تمكّن معظمهم من تحديد مواقع المعلومات التي يحتاجون إليها لتنفيذ المهمّة المطلوبة، وتشتّت بعضهم لعدم تمكّنهم من الوصول إلى المعلومات، ومواجهة الذين تمكّنوا من الوصول إليها صعوبة في إدارتها وتحليلها، والتأكّد من صحّتها وتحويلها إلى معرفة.

في هذا المقال، أتناول إحدى المحاولات التربويّة المُستحدَثة لمساعدة الطلبة على اكتساب استراتيجيّات فهم المقروء من مصادر الإنترنت، والتي تعتمد على الاستعانة بالمدوّنات، متطرّقةً فيه إلى أهمّيّة المدوّنات، ومنطلقةً من تبيان استراتيجيّات فهم المقروء من موادّ الإنترنت ذات الروابط التشعّبيّة.

 

مفهوم فهم المقروء الإلكترونيّ واستراتيجيّاته

لاحظ العديد من الباحثين أنّ الطلبة المتفوّقين في فهم المقروء يواجهون صعوبات أثناء قراءتهم نصوصًا ذات روابط تشعّبيّة على الإنترنت. أسفرت نتائج أبحاثهم عن استراتيجيّات جديدة لا تُشبِه المُعتمَدة في فهم المقروء من الكتب المطبوعة (Zawilinski, 2009). أهمّها:

 

تحديد الأسئلة المهمّة

تبدأ القراءة من مصادر الإنترنت ذات الروابط التشعبيّة بتساؤل، أو مشكلة يحاول الطالب البحث عن إجاباتها.

 تحديد موقع المعلومات وتقييم الروابط

يتحقّق ذلك وفق الخطوات الآتية:

  • -معرفة كيفيّة استخدام محرِّك البحث.
  • -قراءة نتائج محرِّك البحث.
  • -قراءة صفحة الويب كلّها لتحديد المعلومات التي تتضمّنها.
  • -القدرة على اختيار الروابط المناسبة في صفحة الويب، وتقييمها، والتنقّل بين رابط وآخر.

أطلق الباحثون على هذه العمليّة مصطلح "عنق الزجاجة"، لأنّ عدم تمكّن القارئ من اجتيازها يُشتّته، وقد يعوق المراحل التالية (Castek & Coiro, 2015).

تقييم المعلومات تقييمًا نقديًّا

يسأل القارئ الماهر أسئلة مختلفة: هل المعلومات منطقيّة بالنسبة إليّ؟ هل تُلبِّي احتياجاتي؟ هل يمكنني التحقّق من مصدر موثوق آخر؟ هل المؤلِّف مُتحيِّز؟ هل أنشأ الموقعَ مؤسّسةُ "org." أم شركة "com." أو أحد الأفراد؟ 

توليف المعلومات

يبحث القارئ الماهر بالإنترنت عن المفاهيم الأساسيّة في نصوص مختلفة ذات روابط تشعّبيّة، ويلخّصها، ثمّ يرجع إلى النصّ للتحقّق من الفهم. بعد ذلك، يستخدم فهمه الجديد لجمع الأفكار وتشكيل رؤى جديدة. لكنّ التنقّل بين الروابط يسبِّب التشتّت ويعوق العمليّة.

توصيل المعلومات

يتعيّن على القارئ مشاركة أفكاره الجديدة مع الآخرين. يمكن تأدية ذلك في مدوَّنة، أو ويكي، أو رسائل البريد الإلكترونيّ، أو غير ذلك.

 

استراتيجيّة المدوّنات وأهمّيّة الاستعانة بها في التعليم

منذ ظهور فكرة المدوّنات، استُخدِمت أداةً فعّالةً للتواصل. نشر عدد من الباحثين ومقدّمي ورش العمل أعمالهم وأفكارهم على مدوّناتهم الخاصّة، ولكنّهم اختلفوا إن كان التدوين الحقيقيّ الأصيل يتعدّى نشر الأفكار في المدوّنات. وأيًّا يكن، يمكن إيجاز أهمّيّة الاستعانة بهذه الاستراتيجيّة في التعليم، وفق نشاطات السقّالات "scaffolding"، بالنقاط الآتية:

  • -تساعد على تنمية مهارة القراءة، حيث يقرأ الطلبة ويفكّرون ويكتبون، ثمّ يقرأون المزيد (Warlick, 2007).
  • -تسهم في تكوين عالمٍ جديدٍ من الاتّصال البشريّ وتنمية مهارة التوليف. ينشر أحد الطلبة رأيًا أو موقفًا معيّنًا لمدّة زمنيّة طويلة، ثمّ ينشر آخرون تعليقاتهم وأفكارهم حولها، ثمّ يحاول كلّ منهم البحث عن الروابط بين التعليقات السابقة. بعد ذلك، يطوّر الطالب أفكاره السابقة بناءً على المعارف الجديدة التي بناها من التعليقات (Richardson, 2010).
  • -تدعم التعليم المتمايز، إذ يرى العديد من الباحثين أنّها مساحة لمساعدة الطلبة الخجولين للتعبير عن صوتهم وزيادة دافعيّتهم.
  • -تُعزِّز استقلاليّة الطلبة، حيث يمكنهم، بالتدوين، مراقبة تطوّر عمليّة تعلّمهم، وزيارة المنصّة التي تعكس أفكارهم. كما يمكنهم الإضافة إليها والتعديل عليها وتحليلها. بالإضافة إلى أنّ المدوّنة تفسح المجال أمام جمهور افتراضيّ من الطلبة لمشاركة وجهات نظرهم وتلقّيهم تعليقات من أقرانهم أو معلّميهم أو أشخاص آخرين (2008 Arena & Jefferson,).
  • -تساعد على تعميق فهم المقروء من النصوص المطبوعة، ومن مصادر الإنترنت ذات الروابط التشعّبيّة. اقترحت (2009) Zawilinski  إطارًا لدمج المدوّنات في الفصل الدراسيّ، ومساعدة طلبة المرحلة الأساسيّة على اكتساب استراتيجيّات "محو الأمّيّة الجديدة" في القرن الواحد والعشرين، كما يُطلَق عليها.

يتألّف الإطار الذي صمّمته الباحثة Zawilinski (2009) من أربع خطوات مترابطة، وفق ما هو موضَّح في الرسم الآتي:

 

الرسم التوضيحي 1. إطار التدوين الخاص بمهارات التفكير العليا

 

Picture1

 

تجربة شخصيّة تطبيقيّة لإطار المدوّنات عند Zawilinski

دفعني فضولي العلميّ إلى تجربة إطار التدوين الخاصّ بـ"Zawilinski"، للوقوف على مدى فاعليّته في حصص اللغات. تواصلتُ مع الباحثة لإجراء بعض التعديلات التي تناسب سياقي الخاص.  طبّقتُ الإطار على عيّنة من طلبة الصفّ الثامن الأساسيّ في مدارس صيدا في جنوب لبنان.

قبل التجربة 

قسّمت الطلبة إلى مجموعتين: مجموعة ضابطة لم تخضع للتجربة، ومجموعة تجريبيّة، لكي أتمكّن من تقييم أثر الإطار. جمّعتُ الأدوات لقياس مستوى الطلبة القبليّ (الحاليّ)، والبَعديّ (بعد التجربة) في فهم المقروء من النصوص المطبوعة، ومن مصادر الإنترنت ذات الروابط التشعبيّة. خطّطتُ المواد وأدوات التّقييم واخترت النمط مع معلّمات المجموعة التجريبيّة، ودرّبتهم وأجبتُ عن استفساراتهم.

اختارت المعلّمات النمط السرديّ الذي كُنَّ يدرِّسنَه في تلك الفترة. اختارت كلّ معلمة نصوصها من الكتاب المدرسيّ لمساعدة الطلبة على ممارسة استراتيجيّات فهم المقروء من النصوص المطبوعة، ثمّ اختير بعض مواد القراءة من مواقع إلكترونيّة مختلفة، بما يتلاءم مع أعمار الطلبة. استخدمتُ النصوص نفسها مع المجموعة الضابطة كذلك، ولكن من دون تطبيق إطار Zawilinski .

تطبيق التجربة  

طُبِّقت الخطوات الآتية مع المجموعة التجريبيّة:

الخطوة الأولى

رُكِّز فيها على دعم المعرفة السابقة. فبعد تدريب الطلبة الصريح على استراتيجيّات فهم المقروء الإلكترونيّ، طُلِب إليهم البحث الأوّليّ عن معلومات مناسبة، لبناء خلفيّة عن الموضوع المتعلّق بنصّ القراءة المطبوع. كما يجب عليهم تقييم المعلومات، وتلخيصها وتوليفها، ثمّ توصيل النتائج إلى الآخرين بنشرها على موقع المدوّنة. في هذه الخطوة، يتعلّم الطلبة كذلك كيفيّة الاستشهاد بمرجع، لأنّهم مطالبون بنشر الرابط أيضًا.  

الخطوة الثانية

نشرت المعلّمة منشورات مُرتبِطة بالنمط السرديّ، ومُصَمَّمة وفق مهارات التفكير العليا من هرم بلوم. على سبيل المثال، طرحت على المدوّنة أسئلة تتعلّق بـ:

  1. -إيجاد روابط بين النصّ وحياة الطلبة اليوميّة.
  2. -إعطاء انطباعات أولى عن شخصيّات القصّة.
  3. -طرح أنواع مختلفة من الأسئلة المفتوحة. 
  4. -تقديم ملخّص.

هدفت هذه الخطوة إلى إنشاء مجتمع تفاعليّ عبر الإنترنت. مُنِح الطلبة الوقت الكافي للقراءة والردّ، ومشاركة ما يُسبِّب الارتباك، والتفكير في أفكار الأقران، وذلك من أجل التقدّم في المناقشة خطوة إلى الأمام. 

الخطوة الثالثة

طُلِب إلى الطلبة توليف المعلومات التي جمعوها من نصوص الإنترنت، والمعلومات التي تعلّموها من القصّة القصيرة، والأفكار التي نشرها زملاؤهم على المدوّنة، والملاحظات المأخوذة من نقاشات الفصل. لتسهيل هذه المهمّة، استُخدِمت منهجيّة Zawilinski لصياغة إجابات جديدة، بناءً على ما جُمِع من المصادر المذكورة.

الرسم التوضيحي-2. إطار التدوين الخاص بمهارات التفكير العليا

Picture2

 

الخطوة الرابعة

طُلِب إلى الطلبة إدراك مدى اختلاف تفكيرهم عن بعضهم، وضرورة تقديم أدلّة وتفسيرات لمواقفهم.

 

نتائج التجربة  

الجدول 1. مستوى الطلبة القبليّ والبعديّ في استخدام استراتيجيّات القراءة من النصوص المطبوعة

Picture3

 

يبدو في الجدول 2، بمقارنة النتائج القبليّة والبعديّة، أنّ الطلبة في المجموعة التجريبيّة أظهروا تقدّمًا ملموسًا في استراتيجيّات فهم المقروء من المصادر الإلكترونيّة.

Picture4

 

* * *

بناءً عليه، تشير النتائج المُتقدِّمة إلى أنّ اعتماد المدوّنة أداةً تفاعليّة في العمليّة التعليميّة تسهِم في دفع الطلبة إلى المشاركة، وتساعدهم على تطوير وتيرة استخدام استراتيجيّات التفكير العليا، من فهم المقروء من النصوص المطبوعة ومصادر الإنترنت ذات الارتباط التشعّبيّ. كما تشير النتائج إلى تغيُّر طبيعة محو الأمّيّة في عصر المعلومات، حيث شملت القراءة مهارات جديدة. من المؤكّد أنّ الاستراتيجيّات التقليديّة ضروريّة، ولكنّها غير كافية أثناء القراءة الإلكترونيّة. Leu et al., 2013))

 

بالإضافة إلى ذلك، ثمّة آثار أخرى مترتّبة على هذه التجربة، تتمثّل في تجاوز التعليم، بالتدوين، جدران الفصل الدراسيّ الأربعة، حيث يمكن للمعلّمين والطلبة توسيع نطاق التواصل خارج المدرسة. يستطيع المعلّمون، إذًا، إثراء معرفتهم وإنشاء مجتمع ممارسة يعزِّز الممارسات التربويّة، مثلما أثرى تواصلي مع الباحثة Zawilinski ممارساتي المهنيّة. لكن، يستمرّ التساؤل عن دور صنّاع القرار في تصميم المناهج، وتبنّي هذا النهج، وعن دور المسؤولين في تحقيق الاستدامة لمساعدة قارئ القرن الواحد والعشرين على اكتساب مهارات محو الأميّة الجديدة، ومواكبة التطوّر الذي ما زال يطرأ على النظريّات التربويّة الحديثة.

 

 

المراجع

- Arena, C., and Jefferson, C.  (2008). Blogging in the language classroom: It doesn't "simply   happen." TESL-EJ. 11(4). http://tesl-ej.org/ej44/a3.html         

  

- Castek, J., & Coiro, J. (2015). Understanding what students know: Evaluating their online research and reading comprehension skills. Journal of Adolescent & Adult Literacy. 58(7). 546-549. http://doi.org10.1002/jaal.402Top

 

- Leu , D.J., Forzani , E., Burlingame, C., Kulikowich, J., Sedransk, N., Corio, J., and Kennedy, C. (2013). The new literacies of online research and comprehension: Assessing and preparing students for the 21st century with Common Core State Standards. In: Newman, S.B and Gambrell, L.B. Quality reading instruction in the age of common core standards (pp. 219 – 236). International Reading Association.  

 

-  Richardson, W. (2010).  Blogs, wikis, podcasts, and other powerful web tools for classrooms. Corwin Press. 

 

- Warlick, D. F. (2007). Classroom blogging: A teacher's guide to blogs, wikis, & other tools that are shaping a new information landscape. The Landmark Project. 

 

- Zawilinski, L. (2009). HOT blogging: A framework for blogging to promote higher order thinking. The Reading Teacher. 62(8), 650-661.