في غزّة، لم تعد المدرسة جدرانًا وألواحًا سوداء، بل تحوّلت إلى رحلة صمودٍ يوميّة، بعد عامين من العدوان الذي يُعدّ الأعنف والأكثر دمويّة في تاريخ الصراع؛ إذ حُرم أكثر من 625,000 طالب وطالبة من التعليم نتيجة تدمير 95% من المدارس، وتحويل 288 مدرسة إلى مراكز إيواء، واستشهاد أكثر من 11,000 طالب وطالبة و750 معلمًا ومعلمة (UNRWA, 2025).
وفي ظلّ كلّ هذه التحدّيات يمارس الطلّاب تعليمًا من نوعٍ آخر: فمن بين ركام البيوت ومن بقايا الكتب الممزّقة، ومن أصوات القذائف، تولّدت في أذهانهم أفكار وتصوّرات لا يمكن لأيّ منهج رسميّ أن يوفّره. في هذا الواقع يولد ما نسمّيه بالاتّجاه الضمنيّ في التفكير، وهو نوع من التفكير يتجاوز القيود التقليديّة للمناهج المدرسيّة: ينشأ من مواجهة الواقع مباشرة، من التحدّيات اليوميّة، ومن الإبداع في ظلّ الشحّ والافتقار إلى كلّ أدوات التعليم التقليديّة. أفرزت هذه الظروف قوى كامنة لدى الطلبة، جعلتهم يستغلّون كلّ تجربة لبناء مهارات التفكير النقديّ، والإبداعيّ، والقيَميّ، ولتعلُّم كيفيّة حلّ المشكلات في ظلّ الموارد المحدودة والظروف الطارئة.
أوّلًا: تعريف الاتّجاه الضمنيّ في تنمية التفكير
الاتّجاه الضمنيّ في تنمية التفكير هو مجموعة العمليّات والأنشطة غير الرسميّة وغير المخطّط لها في المناهج الدراسيّة، والتي تنشأ من التفاعل مع الحياة اليوميّة والظروف الطارئة، وتُسهم في تنمية مهارات التفكير النقديّ والإبداعيّ والقيميّ لدى المتعلّمين. وهو ما يتّفق مع ما أشار إليه كلّ من Goodman (1960) وJackson (1990) بأنّه خبرات غير معلنة تُكتسب من التفاعل مع الواقع والبيئة، أكثر من المناهج الرسميّة. ويمتاز بأنّه اتّجاه غير رسميّ مبنيّ على الواقع، يعتمد على التجربة الحياتيّة، مثل إدارة الموارد اليوميّة أو مواجهة التحدّيات الواقعيّة، إضافةً إلى أنّه تلقائيّ وناشئ عن الحاجة، ومتعدّد الأبعاد.
فمثلًا، في غزّة: الطفل الذي يحسب عدد الأرغفة المتبقّية لعائلته، أو يبتكر ألعابًا تعليميّة من الركام، يمارس التفكير الضمنيّ، لأنّ هذه الأنشطة ليست جزءًا من المنهاج الرسميّ، لكنّها تنمّي مهارات معرفيّة وإبداعيّة وقيميّة.
ثانيًا: واقع التعليم وتنمية التفكير في غزّة تحت الحرب
الوضع العام للمدارس والبنية التعليميّة
الحرب على غزّة لم تقتصر على تدمير المنازل والمستشفيات، بل شملت المدارس والبيئة التعليميّة، والتي تعدّ حجر الأساس لأيّ مجتمع. تشير التقارير الحديثة إلى أنّ أكثر من 95% من المدارس في غزّة تعرّضت إلى التدمير الجزئيّ أو الكلّيّ، في حين حُوّلت 90% من المدارس المتبقّية إلى ملاجئ للنازحين (ACAPS, 2024)، ما جعل التعليم الرسميّ شبه معدوم، واضطرّ الطلبة إلى التكيّف مع واقع جديد يتطلّب منهم التفكير خارج الصندوق.
نقص الكتب والمناهج المدرسيّة
مع تدمير المدارس، فقد الطلّاب الكتب والمناهج الرسميّة، ما أضعف العمليّة التعليميّة. وبدأت آليّات التعلّم الذاتيّ والمبادرات المجتمعيّة بالظهور. اعتمد الطالب على المعرفة المستمدّة من الأسرة والمجتمع المحلّيّ والتجربة العمليّة اليوميّة، مثل إدارة الموارد المحدودة، أو ابتكار حلول لمشكلات حياتيّة.
النزوح والبيئة الاجتماعيّة
أدّت الحرب إلى النزوح الداخليّ المستمرّ، ما أضعف الاستقرار النفسيّ والاجتماعيّ للطلّاب، لكنّه في الوقت نفسه أتاح لهم فرصة تنمية التفكير الضمنيّ، ليصبح الركام والركام الفكريّ جزءًا من تجربة التعلّم اليوميّة، والمأساة مصدرًا للذكاء الإبداعيّ.
ثالثًا: أشكال الاتّجاه الضمنيّ في تنمية التفكير لدى طلبة غزّة
الاتّجاه الضمنيّ في التفكير هو التعلّم الذي يحدث خارج الإطار الرسميّ للمناهج الدراسيّة، وينشأ من مواجهة الطلّاب مواقف الحياة اليوميّة القاسية في غزّة. أدى فقدان الكتب المدرسية والمدارس الرسميّة إلى أن يصبح الطلّاب مبدعين في التعلّم، مستكشفين للمعرفة من حولهم، ومبتكرين في مواجهة الصعوبات اليوميّة. وهذا الاتّجاه الضمنيّ لا يقتصر على مهارات معرفيّة بحتة، بل يشمل أيضًا المهارات الاجتماعيّة، والقيميّة، والقدرات على التفكير النقديّ والإبداعيّ، وتتنوّع أشكال التفكير الضمنيّ لدى طلبة غزّة في الآتي:
1. التفكير للبقاء (Survival Thinking)
يتعلّم الطلّاب كيفيّة إدارة الموارد المحدودة، مثل الطعام والماء والطاقة.
مثال: حساب الأرغفة المتبقّية لتوزيعها بين أفراد الأسرة، أو تخطيط أوقات الدراسة واللعب ضمن جدول يوميّ ضيّق، وبالتالي تنمية مهارات التخطيط والتنظيم لديهم.
2. التفكير الإبداعيّ (Creative Thinking)
ابتكار ألعاب تعليميّة من موادّ بسيطة، أو إعادة استخدام الموارد المتاحة للأنشطة.
مثال: تحويل الركام إلى مجسّمات تعليميّة، لشرح مفاهيم العلوم أو الرياضيّات، وبالتالي تعزيز الخيال، الابتكار، والتعلّم العمليّ.
3. التعليم الأسريّ والمجتمعيّ (Family & Community Learning)
الطلّاب يتعلّمون من الخبرات الحياتيّة للأهل والجيران.
مثال: مشاركة الأمّهات قصصًا عن الصمود، أو استخدام المواقف اليوميّة لتعليم الحساب والمهارات اللغويّة، ما يؤدّي إلى تنمية التفكير التحليليّ والاجتماعيّ والقيم الأخلاقيّة.
4. التفكير القيميّ والأخلاقيّ (Value-based Thinking)
مواجهة النزوح والخسارة تجعل الطلاب يطوّرون مهارات حسّيّة وقيميّة، مثل العدالة، والتعاون، والمساعدة المتبادلة.
مثال: تقسيم الموارد بين الأطفال داخل مراكز الإيواء بطريقة عادلة، وبالتالي تعزيز الوعي الاجتماعيّ والأخلاقيّ والقدرة على اتّخاذ قرارات مسؤولة.
5. التفكير التكيّفيّ (Adaptive Thinking)
يتعلّم الطلّاب التكيّف مع بيئات متغيّرة باستمرار، ويبتكرون حلولًا عمليّة للمشكلات اليوميّة.
مثال: استخدام الهاتف المحمول، أو التطبيقات التكنولوجيّة أداةً تعليميّةً بديلةً عند غياب الكتب أو المعلّمين، ما يُحسّن مهارات التعلّم الذاتيّ، والتكيّف مع الظروف الطارئة.
رابعًا: آفاق واعدة للاتّجاه الضمنيّ في صقل مهارات التفكير لدى طلّاب غزّة
مع استمرار الظروف الطارئة في غزّة، يبرز تطوير الاتّجاه الضمنيّ في تنمية التفكير آليّةً أساسيّة مستقبليّة لتعزيز قدرة الطلّاب على مواجهة التحدّيات وإعدادهم لمستقبل أفضل، ويرتكز هذا المأمول على عدّة محاور رئيسة:
- - يُأمل أن يسهم الاتّجاه الضمنيّ في بناء مهارات التفكير النقديّ والإبداعيّ لدى الطلّاب، من خلال التفاعل مع الواقع اليوميّ وحلّ المشكلات العمليّة. وهو ما أكّده برونر (1966) الذي شدّد على أهمّيّة التعلّم الاستكشافيّ المبنيّ على التجربة العمليّة في تطوير قدرة الطالب على التفكير المبتكر.
- - يمكن للاتّجاه الضمنيّ أن يرسّخ لدى الطلّاب القيم الأخلاقيّة والاجتماعيّة، مثل العدالة، والتعاون، والمشاركة؛ إذ أشار فايغوتسكي (1978) إلى أنّ التفاعل الاجتماعيّ مع الأقران والكبار يشكّل حجر الزاوية في تنمية العمليّات الفكريّة العليا لدى المتعلّمين.
- - يتيح الاتّجاه الضمنيّ للطلاب المشاركة في أنشطة غير رسميّة تسهم في تطوير مهاراتهم، مثل المبادرات التعليميّة في المخيّمات ومراكز الإيواء، وهو ما يدعمه تقرير Save the Children (2024) حول أثر المبادرات في مهارات التفكير لدى الأطفال في غزّة.
- - يُأمل أن يسهم الاتّجاه الضمنيّ في جعل التعلّم تجربة حقيقيّة ومرتبطة بالواقع، بعيدًا عن الحفظ والتلقين، بما يتوافق مع ما أشار إليه Goodman (1960) وJackson (1990) حول التعلّم الضمنيّ الذي ينشأ من التفاعل المباشر مع البيئة والواقع اليوميّ.
- - يُتوقّع أن يؤدّي الاتّجاه الضمنيّ إلى صقل قدرة الطلّاب على التكيّف مع المتغيّرات الطارئة، واستغلال الموارد المتاحة بفعّاليّة، بما يعزّز مهارات حلّ المشكلات والتعلّم الذاتيّ (UNICEF, 2024).
***
من بين الركام والدمار في غزّة، يتجلّى التعليم أكبر من جدران وصفوف وكتب، بل قدرة إنسانيّة على تحويل التحدّيات إلى فرص للتعلّم والتفكير والإبداع. أظهر الطلبة في ظلّ غياب المناهج الرسميّة والمدارس، أنّ الاتّجاه الضمنيّ في تنمية التفكير يمثّل طاقة كامنة تُولد من رحم المعاناة، وتعيد صياغة مفهوم التعليم باعتباره ممارسة حياتيّة يوميّة مرتبطة بالواقع، أكثر من ارتباطها بالكتاب المدرسيّ. ومن هنا، فإنّ تنمية مهارات التفكير لم تعد حكرًا على المقرّرات الدراسيّة، بل أضحت نتاج التفاعل مع الظروف الطارئة، وإبداع الطالب في مواجهة الأزمات.
المراجع
- وزارة التربية والتعليم العالي، غزّة. (2023). تقرير التعليم في قطاع غزّة تحت الحصار. غزّة: الوزارة.
- ACAPS. (2024). Humanitarian needs and education challenges in Gaza. Geneva: ACAPS. https://www.acaps.org
- UNRWA. (2025). Situation report on Gaza Strip and West Bank (including East Jerusalem). UNRWA.
- UNICEF. (2024). Education in emergencies: Gaza case study. New York: UNICEF.
- Goodman, N. (1960). Problems and projects. New York: Bobbs-Merrill.
- Jackson, P. W. (1990). Life in classrooms (2nd ed.). New York: Teachers College Press.