في مخيّمات اللّاجئين الصحراويّين، حيث الاعتماد الكلّيّ على المساعدات الإنسانيّة التي تخضع لتقلّبات المزاج السياسيّ والأزمات الاقتصاديّة العالميّة، يتّخذ التعليم شكلًا مختلفًا عنه في بقيّة بلاد العالم، إذ يصبح ضرورة وجوديّة لا مجرّد حقّ. ذلك أنّ واقع اللجوء لا يهدّد العمليّة التعليميّة من حيث استمراريّتها وجودتها فحسب، بل يضع وجود الشعب الصحراويّ نفسه ومقوّمات بقائه المادّيّ والرمزيّ موضع تساؤل يوميّ. هكذا غدت المدرسة أكثر من مؤسّسة خدماتيّة: إنّها جبهة صامتة من جبهات النضال الوطنيّ.
منذ السنوات الأولى للُّجوء أوْلت الثورة الصحراويّة التعليم أهمّيّة قصوى، لكنّ هذه العناية انصبّت أساسًا على ضمان الوصول إلى التعليم عبر الدعم الخارجيّ، وليس على بناء محتوى تعليميّ خاصّ يعكس الهويّة الوطنيّة نظرًا إلى الظروف القاسية.
وهُنا تجلّت مفارقة مُقلقة؛ فقد أُتيحت للصحراويّين فرص تعليميّة عالية في دول صديقة، مثل الجزائر وكوبا وسوريّا وغيرها، لكنّ المناهج كانت، وما تزال، مناهج تلك الدول! وهو ما جعل الأجيال الجديدة تنشأ على مضامين قد لا تعكس خصوصيّتها الثقافيّة، ولا تلبّي حاجتها إلى بناء ذات جمعيّة متجذّرة في قضيّتها.
المشكلة، إذًا، لا تتعلّق فقط بغياب الكتاب المدرسيّ، أو مدى ملاءمته للتطوّر الحاصل، بل بغياب رؤية تربويّة شاملة بعد خمسين سنة من اللجوء، تؤطر الهويّة وتُجيب على السؤال: أيّ تعليم نريد؟ تعليمٌ يستمرّ على الرغم من اللجوء، ويُكيِّفه؟ أم تعليم يُسهم في تجاوزه، والعمل لما بعده؟
تزامن هذا مع نشوء واقع رقميّ جديد، إذ يتنقّل الطفل الصحراويّ بين الخِيَم حاملًا شاشة هاتف ذكيّ، فنشأت بذلك مدنيّة هجينة سطحيّة في كثير من تجلّياتها، لم تُستثمر بعدُ في غايات تربويّة عميقة. وظلّ الفضاء الرقميّ رهين الاستهلاك الترفيهيّ خصوصًا، والمضامين المستوردة، صالحها وطالحها.
ومع ذلك، فإنّ في هذه المفارقة فرصة: فإذا كان الجيل الحاليّ رقميًّا، لِمَ لا نُحوِّل شاشاته إلى منصّات تعلّم؟ وإذا كانت البنية الرقميّة ضعيفة، فلِمَ لا نبدأ بمحتوى رقميّ بسيط ومنخفض الكلفة يُنتج محلّيًّا ويخاطب هذا الجيل بلغته؟
من هنا، تنبع الحاجة إلى مشروع تربويّ جديد لا ينحصر في السؤال التقليديّ عن "ملاءمة" المناهج، بل يتجاوزه إلى سؤال الجذر: كيف نبني مناهج تحمل خصوصيّتنا الثقافيّة، وتستجيب لتحدّيات العصر على الرغم من هشاشة الإمكانات؟ كيف نغرس في أطفالنا أنّ الشاشات ليست مجرّد نوافذ على عوالم الآخرين، بل أدوات لبناء ذواتهم هم وذاكرتهم وانتمائهم؟ كيف نربّيهم على أنّ الانتماء ليس جغرافيا فحسب، بل سرديّة مشتركة وتاريخ وقضيّة؟
هنا يظهر إشكال آخر:
هل نعلّم أبناءنا من أجل العودة والبناء، أم للتكيّف مع واقع اللجوء وتزيينه؟
في الحقيقة لا ينبغي الوقوع في هذا التقابل الحادّ، فالمطلوب هو تعليمٌ يُعدّ الطفل الصحراويّ للأمرين معًا:
- - أن يكتسب أدوات واقعه من دون أن يُبتلع فيه.
- - أن يحلم بالعودة بغير أن يعيش أسيرًا لمستقبل مؤجّل.
- - تعليمٌ يُهيّئه ليكون ابن اللحظة ووريث الحلم.
ولهذا لا بدّ من:
- - إنشاء هيئة تربويّة وطنيّة مستقلّة، تعمل على بلورة مرجعيّة فكريّة ومنهجيّة صحراويّة ولو تدريجيًّا، ولا بأس بالاستعانة بخبراء من الخارج إذا أمكن.
- - إنتاج محتوى رقميّ تعليميّ محلّيّ باللغة العربيّة واللهجة الحسّانيّة موجّه إلى الأطفال واليافعين، ويعكس قصصًا من واقعهم وتاريخهم.
- - تنظيم مختبرات سرد مدرسيّة تُشرك الطلّاب في كتابة رواياتهم وتجاربهم أو تسجيلها لتتحوّل لاحقًا إلى محتوى تعليميّ بمساعدة أساتذتهم أو ذويهم.
- - تصميم وحدات تعليميّة مزدوجة: تُعلّم مهارات الحياة اليوميّة في المخيم وتربطها بالسياق التاريخيّ الوطنيّ، مثل زراعة نباتات صحراويّة، أو سرد حكايات شعبيّة وربطها بسياقها التاريخيّ والجغرافيّ...
- - جمع مادّة بسيطة سهلة من مصادر التاريخ الصحراويّ وجغرافيا الأرض، وكذا عادات المجتمع وقيمه قديما بطريقة رقميّة وتدريسها، وإن في الإجازات، أو بدلًا من بعض الموادّ الدراسيّة غير المهمّة في واقعنا، مثل: جغرافيا البلد المضيف، أو التربية المدنيّة، لتكون مدخلًا لتربية وطنيّة غائبة بسبب الظروف.
ماذا نريد؟
المدرسة الصحراويّة التي نريدها ليست استنساخًا باهتًا لمناهج خارجيّة، بل مختبر حيّ لإنتاج الذات الجمعيّة، ومنصّة لتعليم نقديّ لا يقف عند الحفظ والتلقين، بل يتجاوزه إلى الخلق والابتكار.
والمراهنة على الجيل الرقميّ لا تعني التسليم بمنطق السوق العالميّة، بل امتلاك أدواته، مهما كانت بسيطة، من أجل إعادة سرد الرواية الصحراويّة بلغة الحاضر. فالمحتوى الرقميّ إذ أُنتجَ بعناية، قادر أن يحوّل الطفل اللاجئ من مستهلك سلبيّ لتصوُّر الآخر عنه، إلى شاهد مثقّف على قضيّته يحيط بجميع أبعادها، ويحكم لها من داخلها.
كسب رهان التعليم في المخيّمات اليوم لا يتحدّد فقط باستدامته كما في الماضي، بل بمضمونه ورؤيته الجديدة: تعليم يفتح أعين الأطفال لا على مناهج الدول المستضيفة فقط، بل على ملامح وطن لم يروه، ويمنحهم أدوات الحداثة لتسهيل الوصول لهذا الهدف، من دون أن يفقدهم بوصلتهم.
ذلك هو مشروع البقاء الحقيقي، والذي لا يجب أن يسبقه إلّا دراسته دراسة وافية.